q

الشرق الاوسط بصراعات الكبرى وازماته المتلاحقة، يشبه غابة تتشابك فيها الاغصان واوراق الاشجار. وهدوء جذورها لا يمنع مزاحمة بعضها البعض في الوصول الى مصادر قوتها المستمدة من اشعة الشمس والكافية لفرض سطوتها، وربما الغاء غيرها.

عواصف الحروب والنزاعات المميتة تضرب مختلف مناطق الشرق الاوسط، فاصبحت ظاهرة شبيهة بالاعاصير الطبيعية التي تجتاح الكاريبي والمحيط الهادئ سنويا. مختلف الدول لها مصالح تترجم على شكل تدخل ونفوذ وقوى داخلية تنفذ اجندات خارجية، ومثلما لبعض الدول سطوة كبرى في مناطق معينة فان لها مخاوف اكبر على مستقبلها في هذه المنطقة المليئة برمال السياسة المتحركة.

الدراسات السياسية تؤكد هذه المنطقة ذات حساسية شديدة للمتغيرات المتعلقة بصعود وهبوط القوى العظمى، حيث اكتسبت المنطقة أهمية كبرى من منظور المصالح الأمريكية والأوروبية، بسبب موقعها من الإتحاد السوفيتي سابقاً، ولامتلاكها العديد من الموارد الإقتصادية الطبيعية خصوصاً النفط والأيدي العاملة، والطاقة الشمسية والغاز، إلى جانب معادن عديدة مهمة في بناء الصناعات الحيوية، التي ترتكز على قاعدة واسعة من التقدم العلمي والتكنولوجي، وبذلك تحول الشرق الأوسط إلى مسرح استراتيجي هام للقوى الصناعية الكبرى، لأنه يؤمن تدفق النفط والغاز والمواد الأولية لدول العالم، كما أن ممراته المائية وأجواءه تضمن السيطرة على العالم، وهذا ما يجعل عديد من الدول تربط أمنها القومي بالشرق الأوسط.

حلقة الصراع الكبرى

الصراع الدولي على المنطقة يتكون من حلقات كبرى واخرى اصغر منه، والحلقة الاكبر لثنائية الشرق الاوسط هي الصراع بين روسيا والولايات المتحدة الامريكية، فالاخيرة استغلت انهيار الاتحاد السوفيتي وسارعت الى قضم دول الخليج بانشاء قواعد عسكرية جديدة تحت ذريعة حمايتها من العراق الذي بات في مرمى الجيوش الامريكية حتى جاءت ساعة الصفر في عام ٢٠٠٣ وتستولي على العراق ايضا.

المسيرة الامريكية المتسارعة نحو بسط هيمنتها على الشرق الاوسط، باعتباره البوابة على مستوى العالم، اوقعت واشنطن في جملة من الاخطاء ابرزها المبالغة في انتهاك قواعد العلاقات الدولية ومصالح الدول الاخرى وتوسيع مفهوم الامن القومي الامريكي، والاخطر من ذلك هو اهانة روسيا بشكل يجعل ردها على التوسع الامريكي امرا حتميا لا سيما بعد ان تم قضم ما تبقى من مناطق نفوذ موسكو، فبالاضافة الى العراق سقطت ليبيا ورغم ذلك التزم الروس طريق الحذر ايمانا بتكلفة المواجهة.

في سوريا انقلبت الموازين وجاءت الخطة الامريكية في وقت متاخر، فالدب الروسي _الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي_ قد نهض لتوه وشعر بحاجة ماسة لاثبات الذات بعد خمسة عشر عاما من الاصلاحات الاقتصادية والعسكرية تحت قيادة الرئيس فلادمير بوتين، ومنذ تدخلها في نهاية عام ٢٠١٥ تحولت دفة قيادة الازمة السورية من جنيف الى استانا وما يترتب على ذلك من انتقال القرار من واشنطن الى موسكو.

وبغض النظر عن الاسباب الكثير التي ادت الى بروز الدور الروسي في المنطقة الا ان النتيجة واحدة، هي ان موسكو اصبحت لاعبا اساسيا في مختلف قضايا المنطقة، وفي اغلب الاحيان لا يجوز التقدم بخطوات احادية دون اخذ الاذن من الكرملين، هكذا هي صورة القوى المهيمنة على المنطقة، سواء كانت بضوء اخضر امريكي او بدونه، لتنتهي هنا دائرة الصراع الكبرى بتراجع امريكا للوراء قليلا وانطلاق موسكو باقصى سرعة ممكنة نحو اهدافها في الشرق.

حلقة الصراع الاقليمية

في الدائرة الثانية للصراع يكثر عدد الاطراف المشتركة بها وتزداد الامور تعقيدا، الخليج واسرائيل من جهة، وإيران من جهة اخرى، الميدان واسع والمواجهة متقاربة ومتداخلة، اليمن وسوريا والعراق هي الساحة، والرياض وتل ابيب وطهران هي مراكز التحكم.

ايران ادركت منذ البداية ان هذه الحرب طويلة واستنزافية فيما استعجل خصومها الخليجيين والاسرائيليين حسم الامور لصالحهم، فكانت النتيجة نجاح مقاربة ادارة الصراع التي تبنتها ايران مقابل فشل مقاربة انهاء الصراع_المستعجلة_ التي تبنتها دول الخليج واسرائيل.

انتهت ازمة داعش في العراق والدولة تفرض سلطتها على اغلب مناطق العراق لتخرج بعلاقات اقوى مع طهران مع ولادة فصائل مسلحة موالية لها مضافا لها قوة شبه رسمية اقوى من الجيش عنوانها الحشد الشعبي، اما في سوريا فرغم تعقيدات الامور يبدو ان ايران وتحالفها مع الاسد وحزب الله قد حققوا اهدافا كبرى تمنع حصول اي انتكاسة في المستقبل.

اما على مستوى المحور الخليجي الاسرائيلي فالخسارة تترجمها الازمة مع قطر، والارتماء السعودي الاماراتي باحضان شركات السلاح الامريكية والاوربية يعكس الشعور المتزايد بالخوف من النتائج التي افرزتها السنوات الماضية، وبدل ان تسقط النظام السوري افرزت واقعا جديدا باتت ايران وحزب الله هم المتحكم الرئيسي فيه، وبالنسبة لليمن فاعترافات محمد بن سلمان حول تتنامي قدرات الحوثيين وتشبيهها بقدات حزب الله تؤكد حجم التغلغل الايراني هناك، اما في العراق فيرى بعض الخبراء ان تودد الرياض لبغداد بعد سنوات من القطيعة لا تستطيع سحبها بسهولة من محور (طهران، بغداد، دمشق، بيروت)، وربما صنعاء في المستقبل.

عقدة التاريخ واستراتيجية المستقبل

من الملاحظ ان المحور الذي يحقق التقدم الان (روسيا، وايران)، له تاريخ من التعقيدات التي رسمت له خطوطا حمر يجب عليه فرضها على الاخرين حتى لا تتكرر مشكلات الماضي، اذ عانت ايران من تحالف الدول المجاورة ضدها وبدعم غربي وتنفيذ نظام صدام حسين لحربه التي استمرت ثمان سنوات، ادت الى خسائر هائلة بالارواح والاقتصاد.

وهي اذ تبادر الان في كل حروب الشرق الاوسط عن طريق وكلائها، انما تهدف الى تجنب ويلات الحروب السابقة، يضاف لها الطموحات الجديدة لنظامها الذي تنامت قدراته العسكرية والاقتصادية وعزز حظوظه السياسية على المستوى الاقليمي والدولي.

وقد يجادل البعض عن سبب وقوف روسيا الى جانب ايران، ويثار التساؤل عن استمرارية وعمر هذا الوفاق بين طهران وموسكو وهل سيدفن تحت الاموال السعودية والامتيازات الامريكية والاسرائيلية ام انه ينبع من تخطيط استراتيجي؟

المتتبع لتاريخ الروس يجد ان ايران كانت محورا للطعنات الغربية لها، والتفريط بها في هذه الفترة التاريخية يعني خسارة لجهود سنوات من البناء على يد الرئيس الحديدي فلادمير بوتين، اذ ان اي سيطرة غربية او تطوير لعلاقات الغرب مع طهران تعني عمليا وضع عمق روسيا في مرمى الصواريخ الغربية.

زيارات بوتين المتتابعة لطهران وتودده لها يكشف عن مرحلة جديدة من التحالفات المستقبلية التي يراد منها تعديل موازين القوى ليس في الشرق الاوسط فحسب، بل في جميع انحاء العالم، ولان التحالفات القوية تعني مغناطيسا يجذب الدول الطامحة نحو تحقيق احلامها فلا غرابة ان تدخل دول مثل تركيا الى هذا التحالف الجديد، ورغم الثمن الذي ستدفعه طهران وموسكو مقابل استراتيجيتهما الجديدة، الا انها ستنجح في اهتزاز المنظومة الدولية التي تاسست بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

اضف تعليق