q

الثورات والتحركات الجماهيرية الممتدة مع الاجيال في آثارها على الواقع الاجتماعي، هي تلك التي تحظى بالشريحة المثقفة التي تنشر الوعي والثقافة بين اوساط المجتمع مستمدةً الفكر والتخطيط والمنهج من القيادة في قمة الهرم القيادي التي تستند على قاعدة الجماهير وتتوسط هذه الشريحة المثقفة والواعية، ثم القمة القيادية، لنأخذ حركة التحرير التي قادها غاندي في الهند التي حررت الشعب الهندي من ربقة العبودية لاحتلال دام حوالي اربعة قرون، فقد خلّف للهند الاستقلال والتسامح الديني والتطلع نحو التقدم العلمي والتقني، بينما نلاحظ الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 التي انطلقت بأيديولوجية ماركسية وملئت الدنيا ضجيجاً، ومنها الشعوب التي ضمّها "الاتحاد السوفيتي" قسراً، ثم سقطت في أحضان الغرب، وتمخضت عن شخصية يدعى "بوريس يلتسين" الذي نسّق مع الغرب لانهاء هذا الاتحاد العتيد ومعها المنظومة العسكرية والسياسية والايويولوجية في شرق اوربا، ولم تخلف للشعوب سوى الديكتاتورية الفكرية والسياسية.

المرجعية الدينية تنبهت الى هذا العامل المهم في تحقيق النجاح، عندما استحدثت مبكراً، ما يمكن ان تسميته بـ "القيادة الوسيطة" التي ية مضافة اليها الحرمان والتخلف، رغم أنها كانت تسمع وتقرأ في الأدبيات؛ أن قادتهم إنما كانوا يقودون الفكر الشيوعي في كل انحاء العالم، وما أن انهار هؤلاء القادة حتى انهار كل شيء معهم. تأخذ على عاتقها مهمة عمل الجسر الواصل بين القيادة والقاعدة الجماهيرية، وكانت البداية الرائدة على يد الامام الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي عام 1918، عندما شكّل بإشراف منه؛ الجمعية الوطنية الاسلامية في العراق، انطلاقاً من مدينة كربلاء المقدسة، وأوكل الإشراف على الجمعية لابنه الشيخ محمد رضا الشيرازي، وقد ضمت الجميعة شخصيات عشائرية ودينية وثقافية، ومنذ ايامها الاولى انجزت هذه الجمعية مع امكاناتها البسيطة، أعمال كبيرة ذات تأثير بالغ أحسّ بخطره البريطانيون، ولذا عملوا على تشويه الحقيقة تاريخياً، وزعموا أن فتوى صدرت من الميزرا الشيرازي بتحريم الانتماء الى هذه الجمعية، في حين ان الفتوى كانت موجهة للاستفتاء الذي سوّقوه وحاولوا إجراءه للحصول على الشرعية السياسية من الشعب العراقي بقيادة البلاد والعباد.

لم يكن هذا الخطر بهذا الحجم لولا وصول الجمعية الى أقصى منطقة في الريف العراقي وفي اوساط العشائر، بل وتم افتتاح فروع لها في مدن عدّة جنوب ووسط العراق، وقيامها بدور ناجح بشكل لافت في نقل توجيهات ورؤى المرجعية الدينية الى جماهير الشعب، وكان منها نشر فتوى تحريم الانتساب الى الدوائر الحكومية تحت الاستعمار البريطاني، مما أوقع البريطانيين في مأزق اداري اشارت اليه "المس بيل" في مذكراتها، هذا اضافة الى فتوى تحريم الاستفتاء الذي انتشر في كل مكان.

طاعة القائد من قبل الجماهير لها صفة اعتبارية وليست ذاتية، فالطاعة هنا مستمدة من طاعة الله –تعالى- وطاعة النبي الأكرم الذي بعثه رحمة للعالمين، ومن بعده طاعة الأئمة المعصومين المنصوص عليهم، فالطاعة لهؤلاء ولمن يأتي من بعدهم من الأولياء الصالحين والعلماء الربانيين، ليس وفق معيار القوة المادية او العلمية او الوجاهة الاجتماعية وغيرها، إنما وفق المعيار الذي حدده الله –تعالى- في القرآن الكريم، وهو التقوى، والحكمة من ذلك يبينها لنا بشكل دقيق وبليغ؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، في رواية أوردها الشيخ الكليني في "الكافي" بأن "ولو كانت الانبياء أهل قوة لا ترام، وعزة لا تضام، وملك يُمد نحوه أعناق الرجال، ويُشد اليه عقد الرجال، لكان أهون على الخلق في الاختبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، او رغبة مائلة بهم". (الكافي، ج4، كتاب الحج، باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة، ص198، ح2).

وبذلك نعرف أن طاعة القائد او المرجعية الدينية القيادية، وايضاً طاعة القيادة الوسيطة، انما تكون على اساس متين من الارادة الفاعلة والوعي العميق والشفاف (الايمان) الذي لا تشوبه شائبة، لذا يكون ظهور هذه القيادة الوسيطة، او الشريحة المثقفة في المجتمع، أمراً سهلاً وممكناً، فالقائد سيرشح اشخاص معينين للقيام بهذا الدور، يبقى على الجماهير الانتخاب والتواصل والتفاعل، على قاعدة من القيم والمبادئ الثابتة المتفق عليها، فالجميع يكونوا مطمئنين على خطواتهم ويعرفون ما يقومون به، كما يعرفون النتيجة التي سيصلون اليها.

يبقى على ابناء الشريحة المثقفة التحقق من المصداقية للمزيد من توثيق العلاقة فيما بينهم وبين قمة الهرم القيادي، من جهة؛ وبينهم وبين القاعدة الجماهيرية من جهة اخرى، وهذا ما يشير اليه المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه؛ القيادة السياسية في المجتمع الاسلامي، من أن "القيادات الوسيطة لابد ان تتصف بقدر من المواصفات التي يتصف بها رأس الهرم، والقائد الاسلامي لايختار القيادات الوسيطة انطلاقاً من وجاهتها وشهرتها او ثروتها، انما يختارها وفق مقياس الحق وهو التقوى. انه يختار الاتقى، والأكفاً، و الأعلم، والافضل إدارة ووعياً، لان الناس يتبعون القائد بلا مناقشة وبإذن الله، فسوف يتبعون من يعينه القائد على أمر من الامور، وبهذا ستتوفر للامة الاسلامية فرصة وجود قيادات فاضلة جداً ونابعة من عمق الواقع".

إن وجود الشريحة المثقفة والواعية بحاجات الامة وتطلعاتها وهويتها، بين القاعدة والقيادة، يعني انها تكون سد منيع أمام المنافسين في الساحة ممن يحملون خيارات أخرى لقيادة الامة، ابرزها للعيان في الوقت الحاضر؛ الاستبداد الفكري المتمثل احياناً بدكتاتورية الحزب الواحد، او صنمية الأيديولوجيا، التي لا تعترف بالحاجة الى القيادة الوسيطة لانها هي التي توجه البوصلة وعلى الجميع الطاعة دون نقاش، بغض النظر عن طبيعية الاوامر والعواقب المترتبة، وحتى المنهج المتبع وجذوره، ليعيدوا تجربة فرعون التي يتحدث عنها القرآن الكريم: {...ما أريكم إلا ما أرى}.

وربما يكون الامام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- قد استفاد من تجربة سلفه الامام الميرزا الشيرازي، في تكرار التجربة الناجحة وبشكل اكثر تطوراً في المنهج والآليات، عندما أوجد شريحة واسعة من العلماء والخطباء و الادباء تأخذ على عاتقها نشر الوعي والثقافة في اوساط المجتمع، وذلك في بدايات الستينات من القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين، تابع سماحته – رحمه الله- هذا المشروع الحضاري والريادي متحدياً مختلف اشكال العقبات والضغوطات المريرة، وشكل مؤسسات علمية وثقافية واجتماعية، داعياً الى الإكثار من الكتابة والخطابة ذات المحتوى الرصين، واذا نسمع بشكوى تصدر من رموز النظام البائد من أن شريحة من المجتمع العراقي مشكوك في ولائها "للحزب والثورة، ولا مكان لها في العراق..."، فان الفضل في ذلك يعود الى جهود وتحرك الامام الشيرازي، ولو في جزء منه في مدينة كربلاء المقدسة وبعض المناطق الاخرى في العراق، في بلورة رؤية ايمانية عميقة لمسألة القيادة بمعايير القيم والمبادئ السامية.

إذن؛ بالقدر الذي يتحقق لشعب ما، هذه الهرمية القيادية المتجانسة والمتماسكة، كلما انتشر الوعي وتعمّقت الثقافة في اوساط المجتمع، وكان بوسع الجماهير انتخاب الأصلح لإدارة شؤون الدولة والوقوف امام أي شكل من اشكال الفساد والانحراف.

اضف تعليق