q

حينما كان صندوق النقد الدولي مشغولاً بمواجهة الازمة المخيمة على ايرلندا، دق ناقوس الخطر، مشيراً الى ان الازمة على وشك ان تنشر ظلالها على بلدان اخرى في منطقة اليورو، وعلى تلك البلدان على نحو مخصوص، الواقعة في الطرف الجنوبي من اوربا، ان عمليات انقاذ المصارف المتعثرة، على خلفية اندلاع ازمة الرهون العقارية المرتفعة المخاطر في الولايات المتحدة الامريكية، والتهمت كثيراً من مليارات اليورو، وتمخضت عن عجوزات عظيمة في الميزانية الحكومية، في حين اعلنت- في بادئ الامر- بضع الدول فقط، والمقصود هنا دولاً ضعيفة اقتصادياً نسبياً من قبيل اليونان والبرتغال، انها ماعادت قادرة على الوفاء بكل التزاماتها المالية.

وفي ذات السياق بدا جلياً، ان دولاً اخرى باتت تتعرض لمشكلات حقيقية، ولم يدم الامر طويلاً، حتى تبين بوضوح ان الحرائق المحدودة الفاعلية، باتت تهدد بالتحول الى حرائق مدمرة، تنشر ظلالها على كل بلدان القارة الاوربية، على نحو او اخر، وكانت سرعة تصاعد الازمة قد جعلت مسؤولي صندوق النقد الدولي يعربون عن سؤال محدد: هل ينبغي لهم السماح للدول المأزومة- وللدول الصغيرة نسبياً، اي البرتغال او اليونان على سبيل المثال- الانسحاب من اليورو، ان لزم الامر، والعودة الى عملاتها القديمة، بالرغم من ان قيمة هذه العملات ستنخفض بمعدلات كبيرة جداً؟.

وقد تبين ان الصندوق لم يفكر في هذا الانسحاب بشكل جدي، بقدر تعلق الامر بأيرلندا، من ناحية، لان قيمة مديونية ايرلندا كانت عظيمة حقاً وحقيقية، ومن ناحية ثانية، لان التحول من اليورو الى عملة اخرى، سيتمخض مستقبلاً عن تكاليف عظيمة نسبيا، وبما ان مجمل منطقة اليورو الاوربية قد امست تتعرض لخطر قد يحرق الاخضر واليابس، لذا تعين اتخاذ قرار جذري، واستراتيجي بقدر تعلق الامر بأسلوب التدخلات القادمة.

ماذا عن الانسحاب من منطقة اليورو؟

اسفر اختبار كل الاحتمالات المتاحة عن نتائج دقت ناقوس الخطر فعلاً: حتى الدول الهامشية، اي حتى دول من قبيل اليونان والبرتغال، توجد في ذمتها ديون بعشرات مليارات اليورو كانت قد حصلت عليها من مصارف اوربية غربية، وبما ان هذه الديون كانت مضمونة ضد مخاطر عدم تسديد المقترضين مافي ذمتهم من قروض، ولما كانت القروض المضمونة قد جرى التأمين عليها ثانية، لدى المصارف الامريكية العملاقة، كان من المحتمل جداً ان تتمخض عن انسحاب من منطقة اليورو سلسلة ردود فعل لاتعرض منطقة اليورو للخطر فقط، بل مجمل النظام المالي العالمي، ولمواجهة هذا الخطر اتخذ المسؤولون في صندوق النقد الدولي قراراً واضحاً مفاده انه: لايجوز، ولاحتى لبلد واحد، الانسحاب من الوحدة النقدية الاوربية، وبهذا المعنى صار التمسك باليورو يحظى من الان فصاعداً، بالاولوية القصوى.

اما بالنسبة الى صندوق النقد الدولي، كان قراره القاضي بأن التمسك باليورو يحظى بالاولوية القصوى يعني ان آلية خفض قيمة العملة ماعادت امراً مطروحاً للنقاش، بقدر تعلق الموضوع بمنطقة اليورو، وحينما تبين ان ديون دول اليورو باتت تبلغ مليارات مكونة من ثلاث خانات، تعين على استراتيجي الصندوق، عندئذ، التحرك واتخاذ مايلزم في الحال.

اجراءات صندوق النقد الدولي (تشبيه العلاج بالصدمة)

وهكذا، وعلى خلفية هذه التطور الخطير، قرر استراتيجيو الصندوق تنفيذ اجراءات غاية في الصرامة، وراحوا يفرضون على جنوب اوربا تقشفاً يطور الاجراءات التقشفية، التي تم تنفيذها في ايرلندا، ويعيد الى الاذهان عنف وقسوة التقشف الذي ساد برنامج" العلاج بالصدمة"، الذي نفذه الصندوق في الاتحاد السوفييتي وفي دول الكتلة الشرقية "سابقاً"، اذ قرروا تنفيذ الاجراءات التالية:

* من اجل تنفيذ الخصخصة، من غير خفض قيمة العملة، يتعين على الحكومات المعنية بيع الثروات والمشاريع الحكومية بالمزاد العلني، وبأعلى سعر ممكن، ولم يكترث المسؤولون ابداً بأن هذه الثروات والمشاريع يمكن ان تباع بأسعار بخسة، وان خصخصتها يمكن، في الامد الطويل على ادنى تقدير، ان تصعد من تبعية هذه الاقتصاديات للرأسمال الاجنبي، وتزيد من ضعف قابليتها للتصدي للازمات، الامر المهم هو تمكين الدول المعنية من تسديد مستحقات الدائنين الدوليين، بأقصى سرعة ممكنة.

* ولتصعيد مالدى الاقتصاديات المعنية من قوة تنافسية، تعين خفض تكاليف الانتاج، وذلك من خلال اخضاع سوق العمل لتغييرات جذرية، عنيفة في شدتها وفاعليتها وبالنسية الى العاملين الذين لم يفقدوا فرص عملهم، كانت هذه التغيرات تعني زيادة السرعة الدارجة في انجاز المهمات المطلوبة، وتقليص فترات الاستراحة والاجازات السنوية، وشطب المخصصات المدفوعة في ايام العطل واعياد الميلاد، وخفض معايير السلامة الدارجة في مواقع العمل، وعدم دفع اجر عن ساعات العمل الاضافية، والغاء كل المدفوعات الخاصة من قبيل مخصصات رعاية الطفل وماسوى ذلك من تسهيلات تقدمها المشاريع، وتعليق دفع الاجور في الحالات المرضية.

* ولتخفيض حصة الانفاق العام، الحكومي وشبه الحكومي، من الناتج القومي الاجمالي، في الدول المعنية، صار من واجب المسؤولين تسريح جماهير واسعة من العاملين لدى الدولة، والحد من خلق فرص عمل جديدة في القطاع الحكومي، وتخفيض اجور ورواتب العاملين لأول مرة لدى الحكومة، وتخفيض اجور اولئك العاملين الذين يحتفظون بفرص عملهم لدى الحكومة على نحو عنيف.

لقد ادى خفض الانتاج العام الى نتائج غاية في السلبية، فهو تسبب في تقليص الانفاق المخصص للمناحي الاجتماعية على نحو كبير، وبما ان المتقاعدين والعاطلين عن العمل والاطفال والموجودين في ادنى السلم الاجتماعي من اقل المواطنين قدرة على الدفاع عن انفسهم، وبالتالي ليس من المتوقع ان يثيروا او يتمردوا، لذا كان هؤلاء المواطنون اول فئة تتوجه صوبها الاجراءات المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي.

وملخص الكلام: لقد تعين خفض المستوى المعيشي للجماهير العاملة بمقدار لم تشهده القارة الاوربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن حيث نتائجها السلبية بالنسبة الى سكان، ستتسبب في احداث تدهور كبير في الوضع الاقتصادي في الدول المعنية، وفي دفع هذه الدول الى ان تكون اسيرة منحدر لولبي في السنوات القادمة، منحدر لولبي قد يفرض عليها، من ناحية، ان تتقشف اكثر، وعلى نحو اشد عنفاً وصرامة ولهذا السبب كان القوم على علم وثيق بالمشكلات الخطرة التي سترافق تنفيذ اجراءاتهم.

اثر التقشف اجتماعيا (معيشيا)

وكان هَم المسؤولين الاكبر يكمن في خشيتهم من اندلاع اضطرابات اجتماعية، وبقدر تعلق الامر بالاتحاد الاوربي الإ ان الامر البين هو ان الموضوع يدور حول منطقة اقتصادية غاية في التطور من الناحية الصناعية، وان جماهيرها العمالية، ناضلت، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، نضالاً مريراً حتى تحوز لنفسها واحداً من اعلى المستويات المعيشية في العالم، وحتى ان اخذنا في الاعتبار ان هذا المستوى قد ظل يرواح مكانه، في السنوات الاخيرة، لابل انه سجل انخفاضاً في بعض الاحيان، ان برنامج النقشف المزمع تنفيذه يقضي على كثير من المكتسبات، ويحرض، بكل تاكيد، على اندلاع مقاومة عنيفة وسخط شديد، ومن المتوقع جداً ان تندلع احتجاجات ومظاهرات صاخبة، تستلزم تدخل الشرطة والجيش، ولقمعها بالقوة، وتفضي الى تقليص الحقوق الديمقراطية اي، وبعبارة اخرى، ان هذه الاجراءات يمكن ان تتمخض عن ثورات شعبية وتهديد حقيقي للنظام القائم.

اما من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، يكمن الخطر الثاني في صفوف حكومات الدول المعنية ببرامج التقشف، حقاً اثبتت الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والحكومات الاشتراكية بالاسم، في سياق الازمة المالية، التي اندلعت نهاية العام 2007 ومطلع 2008، انها، جميعاً، لاتتردد في ان تحمل دافعي الضرائب – من غير الرجوع الى البرلمانات وبلا شرعية قانونية- الديون تراكمت في ذمة المصارف بفعل ممارستها عمليات مضاربة محفوفة بأشد المخاطر، غير ان السؤال هو: الى متى سيبقى الشعب راضياً عن الاحزاب والحكومات المعنية؟ بناء على الافراط في تنفيذ الاجراءات التقشفية كان من المتوقع جداً ان تولي جماهير شعبية كثيرة ظهرها لهذه الحكومات والاحزاب ولكن، وبما ان القيادات السياسية تريد البقاء في السلطة، او الفوز بالانتخابات القادمة، بأي ثمن كان، لذا من حق المرء ان يتوقع ان برامج التقشف لن تنجز على نحو صارم، وان القيادات السياسية المعنية ستراهن بالتالي، على الزمن، حتى ان كان هذا الرهان يعرض سياسة التقشف للفشل.

ومن خلال التوريكا، تحالف صندوق النقد الدولي، اذن، مع المنظمة تتبنى المصالح نفسها التي يتباها هو نفسه، وتتوافر، ليس على المال الضروري لتمويل القروض المنشودة فقط، بل ولديها، ايضا- على خلفية حجمها وسلطانها- القدرة على ممارسة الضغط على هذه الحكومة او تلك، او الاطاحة بها اذا تتطلب الامر، وبما ان اعضاء اهم المديرين التنفيذيين في الاتحاد الاوربي، وفي المفوضية الاوربية، وفي مجلس المديرين في المصرف المركزي الاوربي والمسؤولين القياديين في صندوق النقد الدولي، نعم بما ان هؤلاء جميعاً لم ينتخبهم الشعب، بل جرى تعيينهم من قبل لجان مختلفة – تكاد تكون نكرة بالنسبة الى الرأي العام- فأن الترويكا ليست اقوى تنظيم فقط، بل هي، ايضاً، تنظيم لم يحصل من الشعب على الشرعية، وانها بالتالي، لاتخضع لأي رقابة ديمقراطية، حقاً لم يلغ استحداث الترويكا نظام الديمقراطية البرلمانية في اوربا غير انه تسبب، عملياً، في تعليق هذه الديمقراطية، وفي اخضاع القارة، على نحو مباشر، لديكتاتورية تمارس سلطانها من خلال مالدى رأس المال المالي من مؤسسات دولية، غاية في الاهمية.

اضف تعليق