q

تتهاوى دعائم الفكر التربوي في العراق عاماً بعد آخر، فينتج عن ذلك تدهور الفكر التربوي والتعليم خصوصا بمراحله الابتدائية والثانوية، والأسباب ليست عصيّة على الفهم، وإن كانت كثيرة، لكنها مؤشَّرة، فمنها مثلا ارتباك المناهج، وخلخلة الهيكلية المادية كرداءة المنشآت والمختبرات ووسائل الإيضاح وقِدَم الصفوف ومحتوياتها، والدوام الثلاثي في البناية الواحدة، وبلوغ عدد الطلاب بين 50-70 طالبا في الصف الواحد!.

هذه الأوصاف التي التصقت بكل مدرسة على حدة، أضعفت التعليم، ولم تتوقف حالة الانهيار عند هذا الحد، فظهر وليد أكثر رداءة، ذلك هو العنف المدرسي، فالطالب الذي يجلس مباشرة على الأرض الرثّة، لا يمكن أن يشعر بكرامته، فيشاكس ويثور، والصف الذي ينوء بـ (70) طالبا، من المحال يقدم الراحة التي يحتاجها الطالب في الصف، ومن المستحيل على المعلم أن يوصل المعلومة الصحيحة الى سبعين طالبا في صف واحد!.

هذه اللقطة الدرامية ليست من دواعي الخيال، فهي تؤثّث الواقع التدريسي وتُظهره على حقيقته، فيشبّ العنف والعنف المقابل، المدرس يسعى لتفادي النواقص بالضرب والقسوة، والطالب وأسرته (وعشيرته) ترد بعنف على شكل اعتداءات تتكرر على طول العام الدراسي، وربما تصل الى القضاء أو التراضي العشائري، وقد انتشرت مثل هذه الحوادث في البلاد كلها، وضجت القنوات الفضائية بمثل هذه المعارك العنيفة، مرة يكون المدرس أو المعلم هو مصدر العنف، ومرة يكون العكس.

بالنتيجة يكتشف الجميع، أن هذه الثقافة المستهجَنة لن تكون في صالح أحد، لا الطالب يستفيد منها ولا الكادر التعليمي، ولا المجتمع، الجميع يقف في الصف الخاسر، لقد بات البحث عن بديل ناجع هدفا لا مناص من التراجع عنه، ولا مجال بأية نسبة كانت للفشل، وبات هدف اللاعنف المدرسي شعار المرحلة لتقويم العملية التربوية برمّتها.

هذا هو الأسلوب المحدث، المضاد للعنف والعنف المقابل، وقد ثبت بما لا يقبل الريب، أن اللاعنف هو الأسلوب الأكثر حداثة من سواه لتطوير العملية التربوية، فما نحتاجه كدولة أن نباشر على الفور بتحديث الفكر التربوي، ولا نكتفي عند هذا الحد بل تكون هناك خريطة عمل تسير عليها العملية التربوية في السكة الأصح.

ولنتصوّر أن أسلوب القهر في توصيل المعلومة قد انتفى، وأن مدارسنا بمراحلها الأولية تُدار بكادر من أندر ما يمكن، وقد تم تدريبه في الأكاديميات والمعاهد الفرنسية باعتبار أن باريس مدينة فيها أكبر عدد ممكن من المعاهد والمنظمات التدريبية، ولنتخيل معلّما يعود من فرنسا بعد أن أمضى دورة تدريبية متكاملة اطلع فيها على كيفية تقديم المحاضرة أسلوبا وطريقة بمساعدة وسائل الإيضاح وما يستحدث من عناصر مساعدة.

وحينما تكون الدولة متمكنة من اتخاذ هكذا خطوة، (وترسل كادرها التعليمي بالتناوب للتدريب في الخارج)، فإن تهيئة الوسائل الأخرى حتما تكون جاهزة، فلا فائدة من محاضر متدرب في باريس، ويقدم محاضراته بلا وسائل إيضاح، وكذا الحال لا فائدة من إعطاء محاضرة من معلّم متدرب في صف يتكدس فيه سبعين طالبا، فحتى لو كان المعلم أو المدرس متدربا في أعظم المعاهد التربوية في العالم، لا يمكنه النجاح في تقديم معلوماته للطلبة في ظل نواقص أخرى.

وإذا كان العنف موجودا، فهذا أيضا يجعل من تدريب المعلمين في الخارج كالنفخ في قربة مثقوبة، وهذا يدل على أن العملية التربوية متكاملة الأبعاد، فأي نقص يعتور هذه العملية ينحو بها الى الفشل، وإذا كانت النواقص المادية أسهل من المعنوية من حيث المعالجة، فالمستحسَن الشروع على الفور بتنسيق ونشر أسلوب التعليم بعيدا عن العنف، أو اعتمادا على مبدأ اللاعنف، وإذا تحقق شيء من هذا القبيل، وساد اللاعنف المدرسي كأسلوب في العملية التعليمية التربوية، فإن النجاح سوف يكون حليف التجربة الأسلوبية المحدَّثة.

قرأنا عن تجارب تعليمية تربوية جرت في الهند، وهولندا، وأمريكا، في أزمنة مختلفة، فتبين أن التنظيم هو العامل الأول الذي يضمن النجاح، ويشمل هذا تنظيم الوقت، وتنظيم التعامل مع الطلبة، وطبيعة حياتهم داخل المدرسة وخارجها، أي في البيت، كذلك تنظيم الدراسة والعلاقات مع الآخرين، حتى طريقة النوم يجب أن تكون مدروسة وليست مرتجلة، والغريب أن النظام الغذائي يكون تحت إشراف مختصين بالغذاء، ومن المهم أن يغيب بشكل تام أسلوب التعنيف، وأن يحافظ الطالب على وضع نفسي مسترخٍ تماما، كل هذه العناصر، يجب أن تكون في إطار اللاعنف المدرسي، فتبيّن أن كل متاعب التهيئة والاستعداد والتنظيم، لن تكون مجدية إلا في حالة يسود أسلوب اللاعنف المدرسي.

وأول شيء يتم تعليمه للمعلم والتدريسي، في معاهد التطوير التربوي، هو أسلوب التعامل مع الطلبة، واختيار الكلمات الصائبة، ومراعاة الوضع النفسي للطالب، والابتعاد عن أساليب التجريح أو التجاوز المتعمّد وسواه، فالمهم أن لا يكون الكادر التعليمي عنيفا في اللفظ أو سواه، وكل عناصر نجاح العملية التربوية المذكورة فيما سبق من كلام، لا فائدة منها إذا لم يكن (اللاعنف المدرسي) وعاءً لها.

ومع بداية السنة الدراسية الجديدة، لابد أن توضع لوائح تنظيمية، تجعل من التعنيف في العملية التربوية (خارج قوس)، القوانين والتشريعات وحملات التوعية كلها أساليب لطمر هذا الأسلوب التعليمي المتخلف، الاستفادة من المورد المتاحة مهم، تقليص النواقص الى أدنى حد يساعد على ضمان منهجية جيدة، ويضمن تعليم خال من العنف، ويساعد على طمر ظواهر بدأت تنمو في المدارس وهي حالات الاعتداء على المعلم، يجب معالجة هذا الخلل على الفور بتشريعات فورية أيضا.

اضف تعليق