q

قد نتسأل عما اذا كان اي شخص اعتقد يوماً ان التقشف فكرة جيدة، فقد يبدو ان السياسيون الامريكيون المعاصرون منجذبين اليه بسبب اسلوب في العمل السياسي الوطني يلقي اللوم على القطاع العام في شأن اي امر سيئ يحدث في القطاع الخاص، مثل الاباء المفرطين بالتساهل الذين لايستطيعون ان يصدقوا ان ذريتهم تخطئ يوماً، لايمكن لواضعي السياسات الامريكيين الا القاء اللوم على الدولة، واحياناً المصارف، لكن ليس السوق، وفي الوقت نفسه، يبدو ان واضعي السياسات الاوربيين محاصرين في غرفة بين جهاز نقدي كارثي ونظام مصرفي مفرط في الرفع المالي يقبع على حافة الهاوية، وورقة تعليمات المانية مخصصة لنزع فتيل الشئ نفسه الذي يجعل المشكلة اسوأ لا افضل.

ومع ذلك، وكما سنرى، يمكن ان يكون التقشف الرد الصحيح على صعيد السياسات، لسوء الحظ، هو يعمل فقط في اطار مجموعة محددة للغاية من الشروط، ويفشل التقشف فشلاً ذريعاً عندما تكون هذه الظروف غائبة، وثمة كثير من الادلة لدعم هذا الزعم، لماذا اذن لاتزال الفكرة "تهيمن" من الجهتين العملية والنظرية، على الفكر الاقتصادي للطبقات الحاكمة والاكاديمية من هذا الجيل، كما فعلت لمائة سنة مضت" كما قال جون كينز في 1936؟ فعلى الرغم من كل شيء، مرت 80 سنة منذ ان كتب كينز هذا الكلام ولايزال بريق التقشف ابعد من ان يتلاشى.

اذ تطرح اجابتان نفسيهما هنا، الاولى هي تنويع على جملة نشرتها السيدة تاتشر_"لايوجد بديل"، فعلى الرغم من كل شيء، يبدو انه عندما يبنى نظاماً مصرفياً اكبر من ان ينقذ، ويرمي بعيداً كل مالديه من الادوات الاخرى على صعيد السياسات (السيطرة على اسعار الفائدة واسعار الصرف، وما الى ذلك) في نوبة "اوربية" قد لايكون ثمة بديل كبير من التقشف، على الاقل في اوروبا.

هذا هو في الواقع الاسلوب الذي تنظر به النخب الاوربية في مجال السياسات الى الاشياء، وبالتالي الى التقشف، لكن هذا يعني اما ان التقشف سينجح واما انه ليس ثمة بديل، وان اوربا تجري في الوقت الحالي تجربة تقشف عملاقة، والنتائج توصف بالبشاعة المتوقعة، واذا كان فعل الشيء نفسه مراراً لايزال تعريفاً للجنون، فالأرجح ان نهاية الجنون ستكون سيئة، قبل وقت طويل من ايتاء التقشف ثماره، وهو امر غير ممكن في ظل الظروف الراهنة، لذلك نسأل مرة اخرى، لماذا يستمرون في فعل ذلك؟ ليس "غياب البديل" كافياً لشرح الجاذبية الدائمة للتقشف في مواجهة ادلة مضادة.

التاريخ الغائب للتقشف وماضيه المقهور

وعلى النقيض من الضروريات التي يفرضها "غياب البديل" تتطلع مجدداً الاجابة المكونة هنا الى قوة الافكار الاقتصادية، المزعوم ان السبب الاساسي للازمة المالية للعام 2008 كان قبول المنظمين والعاملين في اسواق المال مجموعة معينة من الافكار الاقتصادية بأعتبارها ورقة التعليمات الخاصة بذلك الزمن، وعلى الرغم من وجود العديد من اوراق التعليمات الاقتصادية التي انتجت في مدى القرون القليلة الماضية-المذهب التجاري، والشيوعية، وهيمنة مجموعات المصالح، وهذا غيض من فيض- نحن مهتمون هنا بأصول الليبرالية، الاكثر نجاحاً من بين الكل، حتى نتمكن من تتبع اصول التقشف ونسبه.

الغائب المعني هو التقشف نفسه، فبالنسبة الى فكرة محورية في حوكمة الدول والاسواق، يتميز التاريخ الفكري للتقشف بالقصر والسطحية على حد سواء، ولا توجد "نظرية تقشف" مطورة في شكل جيد في الفكر الاقتصادي تعود الى الوراء بالزمن الى بعض البيانات الاساسية التي اصبحت اكثر منهجية وصرامة بمرور الوقت كما هو الحال مثلاً مع نظرية التجارة، لدينا بدلا من ذلك ما وصفه ديفيد كولاندر بــ"حساسية" في شأن الدولة، مضمنة في الاقتصاد الليبرالي منذ انشائه، وتنتج "التقشف" كأجابة افتراضية عن السؤال، ماذا نفعل عندما تفشل الاسواق؟ نمى اقتصاد الليبرالية كرد فعل والدولة هنا ليست الدولة كما نعرفها اليوم- (عادة) ديمقراطية تمثيلية بطموحات اتفاقية على نطاق واسع – بل دولة يمثلها الملوك: ملوك اشار، ومتقلبون، وغير جديرين بالثقة يسرقون ثروات الافراد فور النظر اليهم، لذلك كانت الدولة شيئاً يجب تجنبه، وتخفيضه الى الحد الادنى، وتجاوزه، ولجمه، وعلى الرغم من كل شيء عدم الثقة به، وفي المقابل، برزت السوق في الفكر الليبرالي كما الترياق الفكري والمؤسسي لسياسات المصادر التي ينتهجها الملك، وعالم كهذا، اذا حررت الاسعار والتجار، ستضاعف ثروة الامم (لاحظ، ليس "الممالك").

لكن من البداية قام هذا الرأي الليبرالي، اي " الدولة في مقابل السوق"، على سوء فهم: تظهر الاسواق في شكل طبيعي عند ازالة الدولة من المعادلة، لكن وكما اشارة كارل بولاني في نهاية الحرب العالمية الثانية، لايوجد شيء طبيعي في الاسواق، فتحويل الناس الى عمال مأجورين، وتأمين الملكية الخاصة للارض، وحتى اختراع رأس المال والحفاظ على شكله النقدي، كلها مشاريع سياسية عميقة تنطوي على محاكم وتنظيم وتنفيذ وبيروقراطية وسائر الامور، وفي الواقع، كانت سيطرة طبقة التجار على الدولة السمة المميزة للرأسمالية المبكرة، فمع استثناءات جزئية تتعلق بالمملكة المتحدة والولايات المتحدة ( السابقة لأنها كانت اول بلد حقق التحول الى الرأسمالية واللاحقة لأنها كانت معزولة جغرافياً)، من المانيا في سبعينيات القرن التاسع عشر الى الصين اليوم، تخلق الدول للاسواق بمقدار ما الاسواق تحدد مصير الدول، ولايزال الفكر الاقتصادي الليبرالي غافلاً- الى حد كبير- عن هذه الحقائق، ونتيجة لذلك، يقارب الليبراليون الجدد المعاصرون الذين يزعمون بالتقشف.

في بداية القرن العشرين، اعتبر "تقليص الدولة" الحل الوحيد المقبول من الطبقات الحاكمة في العالم الرأسمالي، لكن هذه الاجابة تلقت ضربة قاسية في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كبرت الدول بدلاً من ان تتقلص، نظراً لفشل سياسات التقشف في تعزيز الانتعاش، وكذلك نمى الاقتصاد الذي دعمته، في مدى السنوات ال 30 التالية، ومع ذلك، لم يبتعد الليبراليين من الدولة، وجلبت الازمة المالية الحالية مرة اخرى الحجج القديمة نفسها في شكل كامل، وفق ملاحظة ابداها البرت هرشمان يوماً، عندما تتكرر الحجج نفسها لأكثر من 300 سنة من دون تعديل يذكر، وبغض النظر عن اي وقائع مخالفة تؤثر فيها، ينبغي علينا جداً ان ننظر اليها بعين الشك، وفي روح الشك الخاص بهرشمان، نقدم في موضوعنا هذا مستفيدين من التاريخ الفكري للتقشف، اجابة عن السبب الذي يجعل الفكرة لاتزال تهيمن على عقول الطبقات الحاكمة والاكاديمية.

الحاضر المطعون به التقشف:

نبدأ بتقديم تفاصيل عن مكانين لجأ اليهما التقشف بعدما بدا ان الحجج المضادة للتقشف التي تقدم بها كينز فازت، وكما المانيا، موطن الاوردوليبرالية، والنمسا، لا البلاد، بل النمسا، المدرسة الاقتصادية المتميزة، وبقيت الوسيلة الالمانية وسيلة المانية حصرية لتنظيم الاقتصاد حتى اصبحت المبدأ التصميمي وراء مشروع اليورو، وبقيت المدرسة النمساوية حركة هامشية، حتى ثمانينات القرن العشرين على الاقل، عندما اصبح المناخ الفكري في شكل عام ليبرالياً جديداً اكثر، وشكلت المدرسة النمساوية ايضاً نوعاً من المنزل المؤقت للحجج الامريكية المؤيدة للتقشف، وبعد مناقشتنا لهاتين المدرستين، نستعرض بأيجاز التحول الليبرالي الجديد من ثمانينات القرن العشرين، ملاحظين كيفية تمكين هذه الافكار له، ثم نناقش كيف اثر هذا التحول الليبرالي الجديد في السياسات الاقتصادية في جنوب الكرة الارضية، وكيف ان صندوق النقد الدولي خصوصاً بات يعتبر التقشف، في شكل مجموعة من الافكار تسمى "توافق واشنطن"، السياسات التنموية الرائجة خلال ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته.

لكن التقشف بقي السياسات المطبقة في العالم النامي، حتى الازمة المالية الحالية على الاقل، لكن حتى في تلك اللحظة، لم تظهر الافكار من العدم: كانت لديها سلائف ومروجون، وبدأت خلال ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته بتطوير نظرية : التقشف التوسعي" التي اعطت في النهاية التقشف اسساً نظرية خطيرة، الحالات الايجابية للتقشف منذ ثمانينيات القرن العشرين التي شكلت جوهر مزاعم التقشف التوسعي- فكرة ان التقشف، بعيداً من كونه خطر، هو فاضلة ايجابية، وندرس هنا حالات ايرلندا والدنمارك واستراليا، ملاحظين انها كانت اما نماذج اقل من كاملة حتى او توسعية لأسباب اخرى غير مجرد التقشف المقلص للموازنة، واخيراً، نوجه اهتمامنا الى حالات راهنة- تحالف REBLL الذي يضم رومانيا واستونيا وبلغاريا وليتوانيا ولاتفيا- وهو "الامل الجديد" لدعاة التقشف، ان الازمة الفعلية او المفترضة المالية تنتج تغييراً حقيقياً عند حدوثها، وتعتمد الاجراءات التي تتخذ على الافكار المتوافرة، ان فكرة التقشف يكون توافرها بأشكال مختلفة على مدى القرون الوسطى، ولايحسنها بمرور الوقت التكرار والصقل والاعادة المستمرة، لكن ذلك لايمنع الليبراليين من اعتبارها جذابة الى مالانهاية وتلميعها مجدداً كل مرة تقع فيها ازمة مالية.

اضف تعليق