q

يعتمد نهج الاقتصاد الحالي بإطاره الرأسمالي المعولم المالي كثيراً على ما تخرج به الطاقات الكامنة في الاجيال الحالية من أفكار ومشاريع وتجارب، اذ أن الفكرة أو القاعدة التي يمكن من خلالها تحقيق النمو تقوم على أساس هذه الافكار والمشروعات والتي هي في بدايتها تكون صغيرة، فما نشهده من تقنيات وسلع وخدمات هي نتاج لأفكار ومشاريع صغيرة في العادة قبل أن تكون بهذا الحجم من الضخامة.

وهنا قد يطرح تساؤل ضمن هذا السياق، هو هل إن التفكير الاقتصادي قادر على توليد وخلق مشروعات اقتصادية انتاجية على أرض الواقع؟ أو بعيارة أخرى هل ما تعلمناه في المدارس والمعاهد والجامعات يعد كافياً في إيجاد تفكير اقتصادي قادر على ايجاد وانشاء مثل هكذا مشاريع اقتصادية؟ او هل أن النشاطات الاقتصادية والمشاريع والنجاحات التي يحققها أصحاب هذه المشاريع هي نتيجة لما تم تعليمهم إياه في المؤسسات التعليمية؟!

لو أطلعنا على واقع التفكير الاقتصادي الحالي لدى معظم شرائح المجتمع، سيما الشباب بإعتبارهم القاعدة التي يعتمد عليها اقتصاد أي بلد والذين حققوا نجاحات مهمة على الصعيد الشخصي من العمل، سنجد أنهم يملكون فكراً اقتصادياً من نوع أخ، نوع غير الذي قاموا بدراسته هذا اذا ما كانوا من الاساس قد اكملوا تعليمهم الجامعي، نجد لديهم فكر يحفزهم ويدعم قدراتهم في الابتكار وعمل المشروعات ويقدم الُسبل والمفاتيح الكفيلة لهم في تحقيق ذلك. وهو فكر ديناميكي متغير ومتحرك ونشط قائم على أساس المبادرة والعمل والتشجيع والتعاون والتنافس وتحقيق الذات، وهو بهذا يختلف عن النمط الاقتصادي في التفكير والذي يسهب لنا في كيفية آلية عمل الاقتصاد وكيفية تطوره واسباب الانحرافات ومعالجاتها مع سرد نظري في غالبه عن أهم النظريات الاقتصادية المعبرة عن الفكر الاقتصادي.

ان التفكير الاقتصادي التقليدي، قائم على التلقين الموجه وتداول لمعلومات هي في غالبها حصلت في الماضي ونظريات وتطبيقات نظرية خالصة، قد لا يوجد لها تطبيق في الحياة العملية الواقعية ، هكذا نوع من التفكير ينتج عنه شخص حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم الاقتصادية، ينتظر أن تتعطف عليه الدولة وتقوم بتعيينه في كوادرها المثقلة والمترهلة بالروتين والفساد الاداري، وفي حال لم يتوفر ذلك يبقى هذا الشخص ينتظر في صفوف طويلة، واذا لا فأن السبيل هو أن ينخرط في الجيش وما شابه، أو أن يعمل كسائق تاكسي أو بائع في محل تجاري او يحصل على عقد في مؤسسة ما لا تتناسب مع مؤهلاته، وهذا ما يعرف بـ (البطالة الناقصة).

وبالتالي نفهم أن طيلة مدة الدراسة هذه، فان التعليم في الجامعات، سيما تلك التي تدرس الادارة والاقتصاد، قدمت نمطاً من التعليم والتفكير الاقتصادي غير مجدي ونافع لما يحتاج اليه الفرد في مشواره في الحياة، وكدليل على ذلك، أنه وحتى في أحسن الاحوال وأن استطاع الشخص من الحصول على تعيين في ملاك الدولة والذهي هو حلم كل شاب الأن، فأن ما تعلمه من نظريات وما عرفه عن آدم سميث ومارشال وعن السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية وعن الادارة الستراتيجية والتسويقية وغيرها من مصطلحات رنانه لا يمكنه الاستفاده منها في عمله، بل وان عمله هذا من الممكن أن يؤديه شخص ذو تأهيل علمي أقل منه وبشكل أفضل بسبب الخبرة او محددات أخرى كالذكاء او القابليات الشخصية للفرد في انجاز العمل، اي بمعنى ان انجاز هذه العمل قد لا يحتاج الى تأهيل علمي عالي من الأساس، والا ما فائدة أن تتعلم أسباب قيام التجارة الدولية وسبب العجز في ميزان المدفوعات، لتشغل وظيفة كل ما تقوم به من خلالها هو مراجعة النقص في الملفات من وئاثق رسمية او نقص في التوقيعات او ما شابه .!

من هنا نفهم، ان ثمة هناك مشكلتين او عقدتين في نمط التفكير الاقتصادي الحالي هما:

1- أن مستوى التعليم في الجامعات لا يتناسب مع متطلبات ما موجود في الواقع، وبصراحة هذه بديهية الكل يعلم بها، الا أن هذه البديهية اذ لم تعالج بالصورة الصحيحة فأن التعليم الجامعي في ظل الاتساع التكنولوجي الهائل، سيجعل من التعليم الجامعي عديم الجدوى.

2- المشكلة او العقدة الأهم تتمثل في أنه لم نستطع لحد هذه اللحظة من بناء جيل ذو تفكير اقتصادي واعي قادر على التكيف مع متغيرات الحياة، بمعنى أخر جيل قادر على الاعتماد على نفسه في خلق الفرص الخاصة به، لا أن يقف مكتوف الايدي ينتظر عطف الدولة في توفير فرص العمل له، ففكرة أن يكون الاقتصاد حر، معنى ذلك أن هذا الاقتصاد يعتمد على القطاع الخاص في النمو والتنمية وتحقيق الاهداف الاقتصادية، وبدوره هذا القطاع يقوم على أساس المبادرة والتحفيز والابداع والابتكار والتعاون والتنافس ما بين الافراد والمؤسسات في تفعيل دوره، وبالتالي فأن الافراد نفسهم هم المحرك له، عكس ما هو الحال في الاقتصادات الاشتراكية او ذات الثقافة الريعية الذي تعد فيه الحكومة مسؤولة عن كل شيء.

اذ أن هيمنة الدولة على التفكير والنشاط الاقتصادي، من خلال اعتمادها على نهج السيطرة على كل مفاصل الدولة وأنشطتها وتجسيدها للثقافة الريعية الاقتصادية التي انعكست فيما بعد على الواقع الاجتماعي حتى أصبحت ظاهرة وثقافة لدى كافة شرائح المجتمع. لها دور في تفادي الكسل الجماعي او التراخي المصحوب بعدم المطاولة والاستيعاب في أن النجاح الى مثابرة وسعي حثيث لتحقيق نجاح في مستوى العمل بل وحتى في مستوى المهارات وتطويرها من أجل مواكبة التطورات الحاصلة. اضافة الى ذلك يتحمل جزء كبير من هذا التردي والاهمال النخب الاكاديمية العلمية والمثقفة في عدم تطوير مناهج التعليم والتفكير، اذ وبصراحة نجد الكثير من قيادات الفكر والنخب والاكاديميين هم أنفسهم من يعانون من جمود فكري، بل هم انفسهم يكرسون للفكر الريعي والخنوع عبر ممارستهم وافكارهم سواء بقصد او لا، اذ ان دورهم اقتصر على التلقين والالتزام بالمناهج المقررة الذي هم في غالبها معترضين عليها من ناحية الحداثة او مدى انسجامها وحاجة العلم والمجتمع، وهذا يرجع الى تغلغل نمط من الانعزال والركون والسكوت عن ما يدور حولهم من متغيرات بفعل ما يشهده البلد من تشوهات علىالمستوى السياسي والاقتصادي، وبالتالي فشلوا في احداث التغيير المطلوب في الاجيال التي قاموا بتعليمها. فمعظم الجامعات كانت تميل للمحافظة وحماية المعرفة الراسخة، وهو ما قيد من قدرتها في نقل المعتقدات الثقافية للنخبة، وإذا كان المرء ينظر في كيفية تعزيز النمو الاقتصادي في ثقافات متنوعة، أو المسائل الأخلاقية التي تُثار عندما تلاحق الجامعات مصالح ذاتية على حساب طلابها، أو قضايا شخصية عميقة تتعلق بالرعاية الصحية والزواج والأسر، تُصبح الرؤى الاقتصادية الثاقبة ضرورية ولكنها غير كافية، وإذا كانت هذه الرؤى هي كل ما نضعه في الاعتبار، فسوف تتعثر السياسات ويعاني الافراد وهو ما يحصل الان.

أن عملية خلق تفكير اقتصادي جديد مهمة للغاية في الراهن، فكر يجعل من الشباب قادر على أخذ زمام المبادرة وأن لا يتذرع بحجج وأسباب مهما كانت قوتها، فبالعكس من ذلك يرى الكثيرين أن الظروف الصعبة هي الأفضل في كشف قدرات الافراد ومهاراتهم، وهذا يتطلب منا أن نغير آلية التفكير الاقتصادي لدى النخب اولاً ومن ثم اشاعتها في المجتمع، بمعنى أن لا ينتظر الشاب او أي كان شيء من الحكومة او من الغير في أن ينجح، والحل في ذلك هو اعادة النظر في مناهج التعليم الخاصة بالمدارس والمعاهد والجامعات، والأهم من ذلك هو البدء باعداد قيادات حقيقية لا شكلية تاخذ على عاتقها زرع وتحسين مستويات التفكير الاقتصادي لدى الشباب عبر القيام بالممارسات العملية والاحتكاك المباشر والمتابعة لا فقط داخل مؤسسات التعليم بل وايضاً ما بعد التخرج، والانخراط معهم في تشكيل وانشاء المشروعات وتفعيل دورهم عبر تشكيل جماعات رأي مفكرة من الشباب غير التقليدين أشبه بالاتحاد الرسمي للطلبة والشباب يكون مستقل، يتم فيه التشاور وعرض الافكار والتجارب الناجحة ودعم الابداع وتقديم التوجيه والمشورة الاقتصادية للشباب وتحفيزهم على العطاء والعمل بالاعتماد على أنفسهم.

وهذا ليس مجرد حلم او مجرد تنظير لا أساس له، والا فلننظر الى امكانية الاستفادة من الثورة الرقمية المعلوماتية التي ساهمت في رقمنة المجتمع وتوسيع معارفه وسهولة الوصول الى المعلومات والبيانات، فهذه تمثل باب ومفتاح للاستفادة منها، فعلى سبيل المثال يمكن الاستفادة من هذه التكنولوجيا عبر فتح مكاتب الكترونية تقوم ببيع وشراء السلع والخدمات او القيام بعمليات التوصيل او توفير الكتب والملفات والتقارير الالكترونية وما شابه، او تكوين مكاتب استشاره الكترونية تقوم على اساس الربط بين افكار الشباب في داخل وخارج البلد والاستفادة منها في تحويلها لواقع. كما ان هناك من المشاريع التي لا تحتاج الا الى رأس مال بسيط واعداد قليلة تصل الى شخصين فحسب، مثل الصناعات اليدوية البسيطة التي تقوم على أساس المهارات والمواهب الفردية.

أن ما نريد قوله ان عجلة الاقتصاد تسير على اساس المبادرة والتصميم والمضي قُدماً، لا على أساس ما سيكون الوضع عليه مستقبلاً، فالمستقبل يجب أن نعيشه الأن لا في وقت لاحق، وأن اغلب ما نشاهده من شركات عملاقة ما هي الا في الاساس مشروعات صغيرة بدأت بشخص او اكثر، وبعضها في مرآب السيارات كشركة (HP) الخاصة بالصناعات الرقمية والحواسيب وغيرها، والا فأن البقاء في فلك الريعية وثقافة التبعية لن يجعل من اقتصاد هذا البلد ومستوى تطوره الاقتصادي في المستوى الذي وصلت اليه العديد من الدول التي اعتمدت على مشاريع الشباب في نهضتها كايطاليا والهند وماليزيا وغيرها، وبالتالي على هذا الجيل والجيل اللاحق أن يعلم إن الحقوق تؤخذ ولا تعطى، وعليه أن يكون هو المبادر وهو الذي يغير الواقع، وأول بداية لتحقيق ذلك هو مغادرة ذلك التفكير التقليدي واعتماد طرق تفكير جديدة في الحياة، تكون الاساس في جعل الواقع الاقتصادي للبلد أفضل بكثير من الواقع الحالي.

اضف تعليق