q

يندرج المصدر المعرفي في المذهب الوهابي في أصول المذهب الحنبلي، لكنه شذّ حتى عن مذهبه الحنبلي الأصل، وتجاوز حدوده في الوقوف عند حدود الرواية والأثر وظاهر النص، وتطرف في عقائد وأحكام هذا المذهب المتطرفة أصلا.

لقد استطاع هذا المذهب أن يغزو الصحراء ويحكم سيطرته على مناطق البدو في الجزيرة العربية، ثم سيطر على عقل البداوة الأمي، وهيمن على مصادر المعرفة عند البدو، أو استحدث مصدرا للمعرفة بالنسبة للبدو في تأسيس المعرفة الدينية لديهم، ونتيجة جفاف مصادر المعرفة في الصحراء العربية منذ البداية، فان المذهب الوهابي شغل هذا الفراغ المعرفي ليصنع معرفة طارئة مستحدثة غير مُدَركة لدى البدو الأميين، وهذا الفراغ المعرفي والثقافي في تلك المناطق وخلو مناطق البدو من تأثيرات الحضارة الاسلامية التي بدأت وتطورت في الحواضر والمدن الاسلامية على اطراف الصحراء ومناطق الجداول والانهار، هو الذي سمح بالنجاح للحركة الوهابية في تلك المناطق لاسيما بلاد نجد واعتبار دعوتها ومن وجهة نظرها والمدافعين عنها بانها امتداد أو تكرار للدعوة الاسلامية على يد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فعبرت الحركة الوهابية عن نفسها وعن شؤون المعرفة الدينية الخاصة، عبرت عنها بالدعوة الثانية في قبالة الدعوة الاولى التي يطلقها الوهابيون على الدعوة الاسلامية التي هي دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهكذا يتم رفع مؤسسها محمد بن عبد الوهاب الى مصاف النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عقيدة هؤلاء الوهابيين.

والدعوة الاولى اسم غير مألوف بالنسبة للمسلمين وغير صحيح، فالدعوة الاسلامية هي دعوة إلهية نبوية لا تقارن بغيرها من الدعوات البشرية مهما كانت هويتها وطبيعتها، ولا غرابة في تاريخ هذا الفكر الخارجي، فقد زعم قبلهم الحجاج الثقفي والي العراق من قبلهم أن خليفته وولي أمره عبد الملك بن مروان هو أنفع للإسلام من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان خطيبهم في المدينة بعد الاستحواذ عليها يقول أن عصاي هذه أنفع من هذا، ويشير الى القبر الكريم للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ان الوهابية تزعم ضمنيا فشل الدعوة الاسلامية في نشر التوحيد وترسيخه حتى جاءت الوهابية فبلغت حيث لم تبلغ رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونجحت دعوتها حيث فشلت دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - راجع كتاب الثورة الوهابية لمؤلفه الوهابي يوم ذاك عبد الله القصيمي والذي تمرد على الوهابية لاحقا وانتقل الى معاداتها بل الى معاداة الدين كله - وهكذا نشأت معرفة دينية حادة متطرفة أسست للتعصب الديني في حياة البدو التي لم تألف مثل هذا التعصب في تاريخها، بل وتديّنه في ثقافتها الاجتماعية البدئية والتي تقارب البدائية أو تتطور عنها.

الحنبلية السلفيىة ومصدرية المعرفة الوهابية

من المعروف تاريخيا ان مصادر الفكر السلفي ومدرسته الحنبلية كانت قد نشأت في بغداد في القرن الثالث الهجري على يد الفقيه احمد ابن حنبل، ولم يكن المؤرخ المعتزلي ابو جعفر الطبري يعتبره فقيها، وانما كان في نظره محدثا ولذلك لم يصنف مذهبه لدى المتقدمين ضمن مذاهب الفقه السنية الاربعة، ثم ظهر أهل الحديث في القرن الرابع الهجري واعتمدوا ظاهر القرآن والسنة وقد نسبوا أنفسهم الى مذهب ابن حنبل فأخذ برايهم ومذهبهم القادر العباسي تـ 422هـ واصدر بيانه المعروف بالبيان القادري وهي شروط الديانة الاسلامية وفق المذهب الحنبلي، وهو ما شكّل قوة ودفعا للمذهب السلفي، ثم بدأت العقيدة الأشعرية تنقض سلطة المنهج السلفي على مذاهب السنة بإضافتها مناهج المعتزلة على عقائد السنة، وحدثت حروب وفتن بين الحنابلة والأشاعرة في القرن الرابع الهجري، واستطاعت العقيدة الاشعرية ان تقوض سلطة المذهب السلفي، فانحسر تاريخيا ثم عاد الى الظهور في القرن السابع الهجري مع ظهور ابن تيمية وعناية السلطان المملوكي به ورعايته له بعد ان نبذ افكاره علماء وفقهاء الاسلام في بلاد الشام.

ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة" عن ابن تيمية: (ثم طلب ثاني مرة في سنة 755 إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار)، وهكذا نجد تاريخيا ان بقاء المذهب السلفي واستمراره بين المسلمين هو في اعتماده على السلطة وانتمائه الى السلطان حتى اذا كان جائرا وفاسقا، وأساسه وأصله في قول ابن حنبل في عدم جواز الخروج على السلطان الجائر وجواز الإئتمام به مع العلم بفسقه، واستمرت السلفية الحنبلية في اندثارها على مدى أكثر من ستة قرون في تاريخ الاسلام حتى ظهور الحركة الوهابية على يد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني والثالث عشر الهجريين في بلاد نجد وبين البدو التي وجدت فيهم البيئة الطبيعية والمناسبة.

فالسلفية تقوم على مبدأ النقل في الرواية، وهو منهج من اطلق عليهم اهل الحديث في تاريخ الاسلام الفقهي، وهو يعتمد العلم الشفاهي والحفظ المعتمد على الذاكرة ولا يحتاج هذا المنهج الى التدوين أو القراءة في الكتاب إلّا بشكل ثانوي، وهو ما يتناسب ومناخات الأمية السائدة في حياة البدو، وانتفاء الحاجة الى المكتبة الضرورية والملازمة للعلم الأصولي الفقهي والعقلي، والمكتبة هي أشد الاشياء انتفاءً في حياة البدو، وهو ما يفسر عجز البداوة عن بناء الحضارة وعجز البدو اسلاميا عن قبول المذاهب الفقهية ذات الصبغة الحضرية والاجتماعية المدنية، إلّا بعد ان ينزعوا عنهم ثوب البداوة ويلتحقوا بالحاضرة أو المدينة.

صحيح ان المذهب السلفي الوهابي استقى مصادر معرفته الدينية من حواضر الاسلام ومدنه المهمة لاسيما دمشق والقاهرة والبصرة وفق ما أشار اليه الباحث السعودي حسن الخلف، واكدته مصار سيرة محمد بن عبد الوهاب الذي درس في البصرة قواعد واصول مذهبه وقيل تتلمذ على يد فقهاء سلفيين في الموصل، إلّا ان تلك الحواضر أو عموما المدينة الاسلامية تلفظ تلك المذاهب وترغب دائما بالخلاص منها لان المدينة الاسلامية تاريخيا تترسخ فيها المدارس والمذاهب الفقهية ذات الصيغة العقلانية والاصولية على حساب مدارس النقل والاثر، وفي بغداد كانت مدارس المعتزلة والأمامية والأشعرية التي كانت تعتمد منهج العقل في قبالة آلية النقل في العلوم الدينية هي التي لم تسمح للفكر السلفي وطريقة النقل والحرفية في تطبيقات الأثر بالرواج في بغداد وانتشاره، لاسيما في القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية، ورغم سعي الكاتب الخلف الى اثبات وجود حواضر نجدية مشبها لها بتلك الحواضر المدنية، الا انها لا تعدو ان تكون مجرد محطات تجارية على طريق الصحراء، وتلك المحطات لم تتطور تاريخيا الى مدن قارة ومناطق مدينية مستقرة، فهي مدن عابرة أو شبه مدن لا تقارب المعنى التاريخي للمدينة الاغريقية او الرومانية او الاسلامية، التي كانت - وهو شرط في تكوين حواضر المدينة قديما - مراكزا للمدارس والمعاهد العلمية والمعرفية، الفلسفية والطبيعية، والقانونية واللاهوتية، والكلامية والفقهية تباعا من أثينا الى روما الى بغداد ودمشق والقاهرة، وهي ما كانت تفتقر اليه الحواضر النجدية، اذا سلمنا بتسمية الباحثين السعوديين لها.

لذلك تظل هي حاضرات بدوية عابرة وغير قارة على طريقة البدو في العبور والترحال، ولم يستقر فيها البدو أو تستقر هي كحواضر مجازية الا بعد ان وفّرت لها غزوات البدو مصادر المال بالغزو والسلب وشرعنة ذلك الغزو على يد الوهابية السلفية، وحين استقبلت تلك الحواضر المجازية مصادر المعرفة الدينية استقبلت ما يناسبها من المعرفة النصية والظاهرية والنقلية والتي كانت يصطلح عليها في الثقافة الاسلامية والعلم الاسلامي بالحشوية، والتي كانت تجد أقرب تعبيرا لها في مذهب الحنابلة.

والحشوية هي المعرفة الشعبية للنص الديني الاسلامي والتي كانت تقف عند حدود التجسيم والتشبيه والنظر الى المجاز في القرآن على انه الحقيقة وهو مستند قاعدتهم المذهبية الحنبلية في الوقوف عند ظاهر النص دون إعمال العقل والتأويل، وهو ما قادهم الى تصور الكرسي والعرش بشكله المادي بل وقادهم الى تصور الله تعالى بشكل وثني من حيث اليد والوجه والرؤية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ويذكر الاستاذ حسن الخلف ان طلبة نجد حين طلبوا العلم منذ القرن السادس عشر الميلادي في رحلتهم الى البصرة ودمشق والقاهرة لم يطلبوا علوم أصول الحديث والتفسير واللغة وعلوم العقيدة بل اكتفوا بالفقه، ويبرر ذلك بحاجتهم الى القضاة لغرض حل المنازعات القبلية بينهم، وهو شيء من وجهة نظرنا طارئ على أسباب طلب العلم الديني في تاريخ الاسلام ولذلك لا يمكن التعويل عليه، بل تظل الطبيعة والشخصية البدوية السطحية هي الباعث على ترك العلوم العقلية والتدوينية وغير النقلية/الشفاهية، والفقه الذي درسه هؤلاء الطلبة النجديين هو حصرا فقه أهل الحديث الذي يدخل في بناءات المذاهب السلفية، والذي هو فقه ابن احمد ابن حنبل خاصة، وكان المؤرخ المعتزلي الطبري محقا في تصنيفه كمحدث وليس فقيه، وقد أثار توصيفه ذلك غضب العامة في بغداد وكانت هذه العامة في أغلبها من الحنابلة، ولعل الاصل البدوي لإمام المذهب الحنبلي فهو من بدو قبائل تميم هو نقطة التلاقي بين هذا المذهب والسلفية الوهابية البدوية.

ان جدب مناطق البدو لاسيما نجد من منظري الكلام الإسلامي والأصولي الذين كانوا يلقون العنت والتكفير على يد أبن حنبل وأتباعه من فقهاء الحشوية والعامة، هو الذي سمح للفكر السلفي الحشوي الوهابي من الانتشار والنفوذ بين البدو، وبذلك شكّلت الحشوية مصدرا أساسيا في المعرفة الدينية التي أُشتقت منها المبادئ الوهابية الاساسية لاسيما التشبيه والتكفير وأحكام الردة وجواز قتال المسلمين وغنيمة أموالهم، لكن المربك والنقيض في ذلك الفكر السلفي الوهابي أنهم لا يقولون بجواز سبي نسائهم وأسر رجالهم، مما يحيل تفسير حركتهم وبدوها الى مبدأ الغنيمة البدوي ذات الاصل الوثني، واذا قالوا انهم مجرد مرتدين فان عمل الصحابة الذي هو حجة في نظرهم قد اباح أسر المرتد وسبي نسوته كما فعل الخليفة الاول مع مرتدي بني حنيفة،- وبالمناسبة فان نجد هي أرض بني حنيفة مما يحيلنا الى اشكالية تاريخية بخصوص هذه المنطقة وسكانها من البدو – وهكذا يبدو واضحا ارتباك وحشوية مصادر المعرفة الدينية بالنسبة للبدو الوهابية.

ومن الجدير تاريخيا ان تفسير حركة المتنبيء الكذاب مسيلمة في بني حنيفة وفي ارض نجد إنما كان هدفها هو ملك أرض نجد والخلاص من تبعية بني حنيفة الى قريش بإعطاء الخلافة القرشية في المدينة زكاة الأرض والضرع، ويبدو هذا واضحا في قول مسيلمة في نبوته المزعومة "أن نصف الارض لنا ونصفها لقريش ولكن قريش قوم يظلمون"، وقد استمر استهداف هذه المناطق في العصر الأموي والعباسي لاسيما الخوارج والقرامطة، وقد وجد فيها الخوارج مركزا مهما لهم مما يفسر تاريخيا تلك الطبيعة العدوانية في هذه المنطقة تجاه المسلمين.

وتشير المعلومات التاريخية الى استمرار هجمات اشراف مكة وشيوخ الاحساء حتى القرن السابع عشر الميلادي، وهو ما يشكل تفسيرا قويا لتحرك بقايا بني حنيفة وسكان هذه المنطقة في استقبال مصادر المعرفة الدينية التي تكرس حالة من العداء نحو اهل الاسلام وحواضر المدن في بلاد الاسلام، وقد اتسمت الحركة الوهابية والبدو من المؤمنين بها بكرهها الكبير لأهل المدن وحواضر البلاد حولهم، واذا كان أصل هذه الكراهية هو ظروف التاريخ وصراع البداوة والحضارة فانه تم تكريس هذه الكراهية دينيا واستحداث بدعا دينية في تبرير هذه الكراهية على يد منظري الوهابية من فقهاء سطحيين وانصاف علماء نقليين، حتى اضطر زعيمهم السياسي عبد العزيز بن سعود الى اسكانهم في حواضر خاصة بهم يقال لها مناطق الهجر شمال الحجاز لإقصائهم عن المدن في مملكته الناشئة التي وجدوا انفسهم في صدام دائم معها، وهو تعبير عن الصدام البنيوي بين مصادر المعرفة الدينية التي يصدرون عنها وبين حواضر المدن واهلها، وكان رفضهم للمدينة وحواضرها وتأسيسها وفق القواعد الحديثة ووفق ماتمليه عليهم قواعدهم الدينية سببا في اصطدامهم أخيرا بملكهم السعودي فيما عرف بمعركة الاخوان في العام 1929م.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002 – 2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق