q

مثلت كربلاء محوراً لأقطاب ومواقع وجبهات الثورة العراقية الكبرى (ثورة العشرين) ومركزاً لقيادتها الوطنية الإستقلالية، فقد كان لمكانتها الدينية والروحية في قلوب الناس أكبر الأثر في تسنّمِها الدور الريادي لهذه الثورة، كما كان الدور الذي قام به المرجع الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي كبيراً ومؤثراً في توجيه الثوار ورسم مسارات الثورة وتعبئتها ورفع معنوياتها.

وقد اندلعت الشرارة الأولى لهذه الثورة من كربلاء بالفتوى التاريخية التي أطلقها الميرزا الشيرازي في (23/1/1919)، والتي حرم فيها على المسلم أن يختار غير المسلم لحكم البلاد وهي نصاً: (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين)، وقد وقع على هذه الفتوى سبعة عشر رجلاً من علماء ووجهاء وأشراف كربلاء. وبذلك أصبحت كربلاء مهداً للثورة وحاضنة لها ومحط أنظار الثوار في عموم العراق.

وكانت بريطانيا تريد إجبار العراقيين على انتخاب (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني ليكون رئيساً لحكومة العراق. فأصدر الشيرازي فتواه التي كانت بمثابة الرفض القاطع للإحتلال الإنكليزي وتجريده من أي سلطة على العراقيين والإعلان الحاسم بوجوب الجهاد المسلح ضده وضد مخططاته التي خبأها وراء هذا الاستفتاء الصوري الذي نظمه والذي أراد من خلاله استطلاع آراء الشعب العراقي حول مستقبل بلاده التي خرجت من السيطرة العثمانية، فانطلقت هذه الفتوى من كربلاء لتعبر عن رغبة الشعب العراقي في التحرر والإستقلال ولتمثل جبهة القيادة العليا في العراق المتمثلة بالميرزا الشيرازي.

وكان الشيرازي قد عاد إلى كربلاء في (23/2/1918) بعد مغادرته إياها إلى سامراء وإقامته مدة طويلة فيها درس خلالها على يد المرجع الكبير الميرزا محمد حسن الشيرازي، فشهدت كربلاء بقدومه انعطافة تاريخية مهمة تركت أثراً كبيراً في تاريخ العراق السياسي فقد أصبح المرجع الأعلى للشيعة بعد وفاة السيد كاظم اليزدي في (3/4/1919).

الجمعية الوطنية

كانت كربلاء في ذلك الوقت عبارة عن جذوة تحت الرماد فقد تمخّض الغضب العارم على الإحتلال الإنكليزي إلى تشكيل جمعية سرية مناهضة للإستعمار هي (الجمعية الوطنية الإسلامية)، والتي ضمّت أبرز علماء ووجهاء وأدباء كربلاء أمثال: السيد هبة الدين الشهرستاني، وعبد الوهاب آل طعمة، والسيد حسين القزويني، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن، وعبد الكريم العواد، وعمر العلوان، وعبد المهدي القمبر وغيرهم، وقد ترأس هذه الجمعية الشيخ محمد رضا الشيرازي النجل الأكبر للمرجع محمد تقي الشيرازي، وقد لعبت هذه الجمعية دوراً كبيراً في تعبئة العشائر العراقية المنتفضة وتوجيهها.

وقد تأسّست على غرار هذه الجمعية (جمعية النهضة الإسلامية) في النجف الأشرف، و(جمعية حرس الإستقلال) في بغداد، والتي ضمّت في عضويتها السيد محمد الصدر، والشيخ يوسف السويدي، والشيخ محمد باقر الشبيبي، وجعفر أبو ألتمن وغيرهم، أما في مدينة الكاظمية فقد أسَّس السيد أبو القاسم الكاشاني وبتوجيه من شيخ الشريعة الأصفهاني (الجمعية الإسلامية) وقد حُظيت كل هذه الجمعيات بتأييد ودعم وتوجيه الإمام الشيرازي.

كانت أكثر هذه الجمعيات نشاطاً هي الجمعية الوطنية في كربلاء، وكانت تمتاز بالجرأة والفعالية الأمر الذي دفع الإنكليز إلى اعتقال عدد من أعضائها في (1 تموز1919)، وكان من بينهم عمر العلوان، وعبد الكريم العواد، وطليفح الحسون، ومحمد علي أبو الحب، والسيد محمد مهدي المولوي، والسيد محمد علي الطباطبائي، فأرسل الميرزا محمد تقي الشيرازي رسالة إلى (ولسن) يطلب منه إخلاء سبيلهم، فليس هناك ما يدعو إلى اعتقال أناس كل ما فعلوه أنهم طالبوا بحقوقهم المشروعة وبالطريقة السلمية، أما رد ولسن على الرسالة فكان مراوغاً فأثار حفيظة الشيرازي الذي صمم على السفر إلى إيران لإعلان الجهاد ضد الانكليز رداً على امتهان كرامة العراقيين والاستهانة بها.

كان هذا القرار الحكيم من قبل الميرزا الشيرازي قد أشعل في نفوس العراقيين روح الثورة والمجابهة، فبمجرد أن سمعوا بهذا الخبر وتداولته الأوساط العراقية حتى بدأت الرسائل العديدة تنهال على الشيرازي من الكاظمية والنجف تتضمّن عزم أصحابها على السفر معه لمجاهدة الانكليز من هناك، وكان من ضمن هذه الرسائل رسائل من السيدين سعيد وحسين كمال الدين، ومحمد باقر الشبيبي، ومحمد الشيخ يوسف، وعبد الرضا السوداني، والسيد أحمد الصافي، والسيد سعد جريو.

ولما سمع ولسن بذلك تدارك الأمر وأطلق سراح المعتقلين وأعاد من نُفيَ منهم من أعضاء الجمعية، وبعث بمبلغ من المال بيد محمد حسين خان الكابولي إلى الشيرازي، إلا إن الشيرازي رفض قبول المال واعتبر ولسن ذلك تهدئة للوضع المتأزم في العراق، بينما اعتبره الوطنيون انتصاراً.

الشرارة

عقد اجتماع في بغداد حضره عدد من الرجال الوطنيين والقادة السياسيين وعلماء الدين وفيه أبدى الزعيم الوطني جعفر أبو التمن استعداده لمدّ عشائر الفرات الأوسط ومشاركتهم في أي تحرك سياسي بعد أن أوضح سياسو الفرات الأوسط الذين أنابهم كلاً من الحاج عبد المحسن شلاش، والسيد هادي زوين حالة العراق المزرية في ظل الإحتلال للخروج بنتائج هدفها مصلحة العراق وأهله.

بعد هذا الاجتماع قرر جعفر أبو ألتمن السفر إلى كربلاء لحضور الاجتماع الثاني الذي سيعقد هناك لتوثيق التقارب في وجهات النظر السياسية بين سياسيي بغداد والفرات الأوسط، وتم الإجتماع بحضور محمد جواد صاحب ألجواهر، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي، والسيدين سعيد وحسين كمال الدين، والسيد محمد رضا الصافي، من النجف والسيد نور الياسري، والشيخ شعلان أبو الجون، والشيخ عبد الواحد الحاج سكر، ومجبل الفرعون، والسيد علوان الياسري، والسيد كاطع العوادي، وغيث الحركان، والسيد محسن أبو بطيخ، ورايح العطية، ومرزوك العواد، وشعلان الجبر، وعبادي الحسيني، وعبد السادة الحسيني، وهنين الحنون، وجدي المريّع، والسيد هادي الكوطر، والسيد هادي الزوين، وسرتيب المزهر الفرعون، إضافة إلى أبو التمن، وتم تداول الأوضاع المزرية التي يعيشها العراق تحت نير الإحتلال وتقرر في نهاية الاجتماع أن يذهب أربعة أشخاص من المجتمعين برفقة محمد جعفر أبو ألتمن إلى الاجتماع بالسيد محمد تقي الشيرازي في داره فتم ذلك، فاتقدت من دار الامام الشيرازي الجذوة الأولى للثورة وانطلقت منها صرخة الرفض بوجه الإحتلال وأصبحت تلك الدار مصدر رعب وقلق لأعظم دولة في العالم.

بعد أن اجتمع الثوار والوطنيون مع الشيرازي في داره قصد الجميع الروضة الحسينية الطاهرة لتأدية الزيارة ومن خلالها عاهدوا الله ورسوله أمام ضريح الإمام الحسين على الإخلاص في العمل والتفاني في أداء الواجب الوطني.

مضبطة كربلاء

انطلقت هذه المضبطة بتوجيه من الإمام الشيرازي كورقة أخيرة بعد أن استخدم كل الوسائل السلمية الممكنة قبل دخول الثورة مرحلتها الحاسمة حيث وجه الشيرازي كتاباً توزّعت نسخه على رؤساء وزعماء الثورة يدعوهم فيها إلى المظاهرات السلمية للمطالبة بحقوقهم المغتصبة وأوصاهم فيها كذلك بالحفاظ على الأمن وعدم التشاجر والتخالف فيما بينهم وأن يكونوا صوتاً واحداً ويداً واحدة وهذا ماجاء في الكتاب:

(أما بعد فإن إخوانكم في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وغيرها من أنحاء العراق قد اتفقوا فيما بينهم على الاجتماع والقيام بمظاهرات سلمية، وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات مع المحافظة على الأمن طالبين بحقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق أن شاء الله بحكومة إسلامية وذلك أن يرسل كل قطر وناحية إلى عاصمة العراق (بغداد) وفداً للمطالبة بحقه متفقاً مع الذين سيتوجهون من أنحاء العراق عن قريب إلى بغداد.

فالواجب عليكم بل على جميع المسلمين الاتفاق مع إخوانكم في هذا المبدأ الشريف وإياكم والاخلال بالأمن والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض فإن ذلك مضر بمقاصدكم ومضيع لحقوقكم التي صار الآن أوان حصولها بأيديكم وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل والنحل التي في بلادكم في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ولا تنالوا أحداً منهم بسوء أبداً وفقكم الله جميعاً لما يرضيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

وكان لهذا الكتاب صدى واسع وأثر كبير في نفوس الثوار فانطلقت على إثره مضبطة كربلاء التي وقع فيها (65) رجلاً من وجهاء وعلماء وسادات كربلاء والتي طالبوا فيها بحقوق الشعب العراقي ونادوا فيها بالإستقلال معبرين عن إرادة الشعب بالحرية و(من أجل عراق عربي مسلم) وكانت هي الأولى بتوجيه منه ثم استخدمت كنموذج لكل المضبطات في المدن العراقية الأخرى وقد جاء فيها:

(نحن الموقعين أدنى هذا التحرير من ممثلي أهالي كربلاء المشرقة، وما حوتها: علماءها، أشرافها، وساداتها، وكبراءها، وعموم أفرادها، من جميع طبقاتها، قد انتدبنا عنا وعن ممثلين حضرات الميرزا عبد الحسين نجل آية الله الشيرازي دامت بركاته، والشيخ محمد نجل حجة الإسلام الخالصي دامت بركاته، والسيد محمد الطباطبائي، والشيخ صدر الدين حفيد حجة الإسلام البازندراني، والسيد عبد الوهاب، والحاج الشيخ محمد حسن أبو المحاسن، والشيخ عمر العلوان: انتدبنا هؤلاء الأنجاد لينوبوا عنا أمام الحكومة الأحتلالية في تبليغها مقاصدنا المشروعة ومطالبتها بحقوقنا التي اعترفت بها من استقلال بلادنا استقلالاً تاماً لا تشوبه أدنى شائبة من أي تدخل أجنبي وقد أعطيناهم هذا الاعتماد موقّعاً بتوقيعاتنا موافقاً لرغائبنا رأيهم رأينا وأمرهم أمرنا لا نشذ عنه ولا نرضى بسواه).ثم تلت هذه المضبطة مضبطة النجف الأشرف وتلتها المضابط الأخرى.

نقل المطالب إلى العالم

أرسل المرجع الشيرازي رسالتين الأولى إلى الشريف فيصل بن الشريف حسين، والثانية إلى الرئيس الأمريكي ولسن، أعرب لهما فيها عن مطالب العراقيين في تشكيل حكومة عراقية عربية مستقلة، فقد كان الشيرازي يريد حشد الرأي العام ضد الإحتلال ومطالبته بالنزول على إرادة الشعب العراقي، ولكن الحكومة البريطانية لم تستجب لكل هذه المطالب فأقيمت التظاهرات من قبل القوى الثورية ضد الانكليز وكان أهم هذه التظاهرات التي نظمها الشيخ محمد رضا ابن المرجع الشيرازي في الصحنين الشريفين الحسيني والعباسي وقد جابهت الحكومة البريطانية هذه التظاهرات بالعنف فقد اعتقل الماجور البريطاني بولي مساعد الحاكم السياسي في الحلة عدداً من الشخصيات الكربلائية الثورية البارزة منهم الشيخ محمد رضا نجل المرجع الشيرازي، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والشيخ هادي كمونة مما أدى إلى حدوث عاصفة من الغضب والسخط على الإحتلال فاجتمع قادة الحركات الثورية في بغداد والنجف وكربلاء في دار المرجع الشيرازي إضافة إلى شيوخ العشائر في (3/5/1920) .

الثورة

كان قد صادف هذا التاريخ زيارة النصف من شعبان وقد مهد كل الحاضرين لهذا الإجتماع فتمخض عن صدور فتوى تطالب العراقيين باسترداد حقوقهم المغتصبة بالقوة إذا امتنع البريطانيون عن تحقيقها وجاء نص هذه الفتوى: (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ويجوز التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز من قبول مطالبهم).

فاشتعل فتيل الثورة في الرميثة في (20/6/1920) بعد أن وجه (هيات) الحاكم السياسي في الرميثة إهانة إلى شعلان أبو الجون فرد عليه شعلان بأشد منها فأمر باعتقاله فانطلق أفراد عشيرته فكسروا السجن وأطلقوه واقتلعوا أخشاب سكة الحديد من الأرض المارة بأراضيهم فتصدت لهم قوة بريطانية فانتصروا عليها وفي 11/7/1920 هاجم الثوار مخفر (أبو شورة) في المشخاب وكان ذلك الاعلان باندلاع الثورة في الفرات الأوسط وكان الشيرازي يدعم الثورة مادياً ومعنوياً.

فمن قوله للإمام الخالصي (إني قد فديت استقلال العراق بولدي ومن عز علي وأنا مستعد بأن أفديه بنفسي وهي قصارى ما أملك أما أنتم فإن أصر الإنكليز على غصبكم حقكم وقابلوا إلتماسكم بالحرب فيجب الدفاع بجميع قواكم ويحرم الرضوخ لهم والاستسلام)، فكان رغم شيخوخته يبذل جهداً كبيراً في مواصلتها والاتصال بزعمائها ومدهم فكان يرسل إليها جميع ما يصله من الحقوق الشرعية ولا يبقي منها شيئاً.

وقد كان لهذا الدعم ثمرته حيث شكلت معركة الرارنجية نقطة تحول لصالح الثوار فحققوا انتصاراً كبيراً على القوات البريطانية وحصلوا على غنائم كثيرة مما زاد في اندفاع الثوار إلى انتصارات أخرى في عموم العراق وإضافة إلى الدور القيادي التي قامت به كربلاء في توجيه الثورة وتعبئتها فقد انضمت إلى الثورة المقاتلة وتم تشكيل مجلس محلي (حكومة محلية مؤقتة) وعين السيد محسن أبو طبيخ في 6/10/1920 متصرفاً وبقي هذا المجلس يمارس إدارة شؤون كربلاء حتى وقوع المدينة بيد الإحتلال وإجبارها على الإستسلام في 13/11/1920 لقد كان انضمام كربلاء إلى الجهاد المسلح في 25/7/1920 إضافة إلى دورها القيادي قد أعطى زخماً للثورة وقد استقبل هذا الخبر بفرح كبير من قبل الأهالي.

قائد ومرجع

لم تشغل مسؤولية الثورة التي تحتاج إلى إمكانيات عظيمة وتفرغ كامل لهذه المسؤولية الإمام الشيرازي من إداء مسؤوليته الكاملة كمرجع في النظر في أمور الناس والطلبة والدروس ومثلما كان قطب الثورة ومركزها وقائدها، فقد كان المدرس والمربي والاستاذ للطلبة والمرجع والملاذ الذي تلوذ به الناس لتلبية حاجاتهم.

يتحدث السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ــ وهو أحد تلاميذ الشيرازي ــ في كتابه (أسرة المجدد الشيرازي) (ص186) عن المسؤوليات الكبرى التي كان يقوم بها الشيرازي فيقول ما نصه: (عندما كانت الثورة العراقية الكبرى مشتعلة الأوار وكان جهاد الشعب العراقي المسلم ضد الإحتلال البريطاني على أشده وكان المغفور له الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي بمثابة ثقل هذه الثورة ومحور الحركة الدينية والدنيوية وكانت الأنظار كلها متجهة إليه وكان منشغلا في كل أوقاته بحل وربط قضايا الجهاد والدين وكان بيته مزدحما برؤساء العشائر الثائرة ورجالات السياسة والدين، ولكنه بالرغم من كل ذلك لم ينس أمور طلاب العلم، بل كان يسعى لكي لا تحول هذه الأمور والقضايا بينه وبين طلاب العلم وخلاصة المحتاجين منهم، وقد صرح أمامنا نحن معشر الطلاب ـ وكنت في ذلك الوقت أحد الطلاب المحصلين ـ أيها السادة طلاب العلم الأجلاء ترون بأنفسكم كيف أن رجال العشائر ورجالات السياسة يحوطون بي ويزدحمون حولي وكيف أن الحرب مع الإنكليز تأخذ كثيرا من أوقاتي فأخاف أن واحدا منكم له حاجة معي ولا يمكنه الوصول إليَّ، ولتفادي مثل هذه الحالة فإني سأقوم من الآن فصاعدا بالمشي على شاطئ نهر الحسينية في كربلاء لوحدي بعد صلاة الفجر من الصبح الباكر جداً، فمن أراد منكم الإلتقاء بي لقضاء حاجة أو من أجل معضلة علمية فليأتني هناك)

ويتابع السيد المرعشي حديثه بالقول: (وهكذا فعل ولقد رأيته بنفسي عدة مرات في الصباح الباكر وهو يمشي هناك انتظارا منه للقاء من له حاجة أو مسألة منه).

مواقفه العظيمة في الدفاع الإسلام والمسلمين

ولم تشغل الثورة التي أوقد شرارتها ونظمها ووجهها الإمام الشيرازي في العراق عن الدفاع عن الإسلام والمسلمين في كل بقاع العالم فقد كان ينظر إلى الإسلام والمسلمين نظرة واحدة بغض النظر عن مذاهبهم وجغرافيتهم فكان له الدور العظيم في التنديد بالإحتلال وشحذ الهمم وإثارة النفوس ضد أعداء الإسلام من المحتلين أينما حلوا فقد أصدر الشيرازي بيانا أدان فيه حملة إيطاليا على ليبيا ودعا المسلمين في كل أنحاء العالم إلى الوقوف إلى جانب الشعب الليبي من أجل الحرية والاستقلال، كما كان له دور في الوقوف مع الشعب الإيراني ضد الهجمة الروسية الوحشية على إيران.

مع الثورة بكل تفاصيها

بقي الشيرازي يتابع أحداث الثورة في عموم العراق بكل تفاصيلها ويمدها ويدعمها بكل ما أوتي من عزم وقوة فمثلت مواقفه العظيمة أروع دروس الشجاعة والبسالة الثورة حققت ثمارها بفضل توجيهات الميرزا الشيرازي الذي كان يحض الثوار على الدفاع عن مقدساتهم ويحثهم على الجهاد من أجل الحرمات وننقل صورة واحدة من هذه المعارك كما اعترف بذلك الاحتلال الانكليزي وهي معركة (الرستمية) التي أوقع فيها الثوار هزيمة منكرة برتل (مانجستر) فكانت خسائره (20) قتيلا و(60) جريحا و(318) مفقودا و(160) أسيرا.

وفاة الشيرازي وصداه

يقول السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه (الثورة العراقية الكبرى) (ص121): (انتقل الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي إلى الرفيق الأعلى في اليوم الثالث من شهر ذي الحجة لسنة (1228هـ) (13/8/1920) أي في اليوم الثاني من إعلان حكومة الإنكليز سياسة الإرهاق وقبضها على الوطنيين والأحرار من شباب العاصمة فجاءت وفاته في وقت حرج ودقيق جدا فقد كان ــ رحمه الله ــ القطب الذي حوله تدور رحى رجالات الثورة وإليه تفزع في الملمات فلا غرو إذا وقع الصاعقة على الرؤوس وفزعت الناس وهالها الأمر وخامرت الشكوك بعض الرجال وكان الارتجاج عظيما في جميع أرجاء الثورة)

لقد ترك خبر وفاة الشيرازي أثراً كبيراً في نفوس الثوار فقد كان الثوار بأمس الحاجة إلى وجوده الروحي بينهم فكان ذلك من أسباب دحر الثورة إضافة إلى وجود مناصرين للإنكليز في بعض العشائر والقوة غير المتكافئة في الإسلحة

وتم تطويق كربلاء ــ معقل الإمام الشيرازي ومركز الثورة ــ وقطع الماء عنها كعقاب لها، ويذكر علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق) (ج5 القسم الأول ص302) انتقام الإنكليز من هذه المدينة التي لقنتهم درساً لن ينسوه أبداً وكبدتهم خسائر جسيمة على لسان (هالدين) القائد الإنكليزي حيث قال: (لما كانت كربلاء مسؤولة إلى حد غير قليل عن قيام الثورة فإني رغبت في الإستيلاء على ناظم الحسينية الذي كان يبعد عن الفرات بمائتي ياردة لكي أجعل سكان البلدة يشعرون بعذاب الحرمان من الماء) وهكذا كان لكربلاء موعد آخر مع الظمأ وهي تطرز تاريخها المكلل بالثورات والإنتفاضات ضد الظالمين.

المراثي

كان لنبأ وفاة الإمام الشيرازي صدىً واسعاً وأحدث ضجّة كبرى في الأوساط العراقية فبكاه العراقيون بكاءً مرّاً ورثوه بأفجع المراثي ولم يبق شاعر عراقي لم تجر أنفاس اللوعة والحزن في شعره على وفاة الإمام وهذه بعض المراثي:

يقول الشيخ محسن أبو الحب من قصيدة طويلة:

هو العالمُ الحبرُ التقيُّ أبو الرضا *** ومن جلَّ قدراً أعظمُ العلماءِ

لقد كانَ كهفاً للعروبةِ ملجأ *** ويحملُ للإسلامِ خيرَ لواءِ

فما ماتَ لكنْ في البريةِ ذكرُه *** يدومُ مدى الأيامِ ليسَ بنائي

وجدَّ وللشرعِ الشريفِ بسعيهِ *** وشادَ له بالعلمِ خيرَ بناءِ

وللشاعر نفسه أيضا من قصيدة أخرى في رثاء الشيرازي:

كان (التقي) وكان في أيامهِ *** لبني الهداية معقلٌ وأمانُ

وعلى البريةِ كان ينثرُ حكمةً *** ومواعظاً فيها هدىً وبيانِ

ومؤسِّسا للعربِ نهضتها التي *** صارت بها كل الحقوقِ تصانُ

كي يرفعوا العلمَ الذي في ظله *** تحمى الثغورُ وتحفظُ الأوطانُ

ورثاه الشيخ محمد علي اليعقوبي بقصيدة طويلة منها:

يا منقذَ الأمةِ من بعدما *** جارتْ عليها الفئة الطاغيه

غرسكَ قد أثمرَ لكنما *** جنته أيدي عصبةٍ حانيه

قد أرخصوا سومَ البلاد التي *** لها فدينا الأنفسَ الغاليه

قضوا على الآمال فيها ولا *** ثاغية أبقوا ولا راغيه

إذا شكونا حالنا لم نجد *** عيناً ترى أو أذناً واعيه

لو عدت حياً وترى ما بنا *** نهضت فينا نهضة ثانيه

وله من قصيدة أخرى طويلة جداً في رثائه أيضاً يقول منها:

يا ناهضاً نحو الكفاح بأمةٍ *** كانت إلى استقلالها تتطلع

أيقظتها فتنبهتْ بعد الكرى *** تقتاتُ قائدَها العظيمَ وتتبعُ

أيهولهم زجلُ الحديدِ وإنهم *** بأشدِّ من زبرِ الحديدِ تدرَّعوا

ثبتوا بمشتبكِ النزالِ مع العدا *** ما ليس تفعله الطوالُ الشرَّعُ

فنصرتَ دينَ محمدٍ بعزائمٍ *** مشحوذةً لا تتقيها الأدرعُ

وقال الشاعر الشيخ محمد حسن أبو المحاسن في رثائه بقصيدة بعنوان (زعيم الثورة العراقية):

غادرتنا والخطبُ داجٍ ليله *** واليوم من صبغِ الحوادثِ أسودُ

فمن المدافعُ والأسنةُ شرَّعٌ *** والبيضُ تبرقُ والمدافعُ ترعدُ

الشرقُ يا شمسَ الهدايةِ مظلمٌ *** مذ غابَ عنه ضياؤكَ المتوقِّدُ

لو لم تعجِّلكَ المنيةُ لانجلى *** عنه سحابُ المغربِ المتلبِّدُ

وللشاعر قصيدة أخرى في رثاء الشيرازي ألقاها في الصحن الحسيني الشريف بحضور المرجع الكبير أبو الحسن الأصفهاني الذي حضر الحفل التأبيني الذي أقيم للإمام الشيرازي في ذكراه السنوية الأولى يقول فيها:

كم من يدٍ لكَ لا يقومُ بشكرِها *** نثرٌ وليسَ يحدهنَّ نظامُ

حرَّرتَ من رقِّ الأسارِ معاشراً *** كانت تُسام مذلةً وتضامُ

نهضوا ولكن واثقين بقائدٍ *** بيديه كان النقضُ والإبرامُ

قد كنتَ ترعاهم بعينِ عنايةٍ *** يُقضى وتسهرُ والعيونُ نيامُ

أحييتَ مجداً للعراقِ وأهلِهِ *** للهِ محيي المجدَ وهو رمامُ

ورثاه الشيخ كاظم آل نوح فكان مما قاله:

يا راحلاً عنا تصدَّعَ قلبُه *** بمصائبٍ أودى بها إلمامُها

لو كنتَ تُفدى بالنفوسِ لأرخصتْ *** فيكَ النفوسَ جسامُها وعظامُها

من للشريعةِ بعدَ فقدِ أبي الرضا *** شيخُ الشريعةِ قطبُها علامُها

وقال الشاعر الشيخ عبد الحسين الأزري في رثائه:

أدّيتَ واجبكَ المقدِّسِ مثلما *** أدّى الحجيجُ فريضةَ الإحرامِ

ثارَ الفراتُ بأهلهِ وتحفَّزوا *** طوعاً لأمركَ وهو أمرُ إمامِ

عرفوا مقامكَ بينهم فاستقبلوا *** فتواكَ بالإجلالِ والإعظامِ

وقال الشيخ عبد الحسين الحويزي:

قضى محمدٌ البرُّ التقي وقد *** عجّتْ عليه عجيجُ الأينقِ الأممُ

يا كعبةَ الفضلِ حقاً لو يهالُ أسىً *** فيكَ الحطيمُ ويهوى الركنُ والحرمُ

وتندبُ الشرعةُ الغرَّاءُ ثاكلةً *** لندبها وعرى الإسلامِ تنفصمُ

عليكَ كيف الردى أجرتْ حكومته *** ألستَ أنتَ لإصلاحِ الورى الحكم

وقال الشيخ علي البازي في رثائه:

محمدُ التقيُّ بدرُ الهدى *** والقائدُ الأعلى الهمامُ العظيم

غابَ وغابتْ كلُّ آمالِنا *** ونحنُ في أخطرِ وضعٍ وخيم

بكتْ عليه أعينٌ لم تكنْ *** تبكي لرزءٍ أو لخطبٍ جسيم

وساسةُ الثورةِ أضحتْ أسىً *** تنعى أباً براً عطوفاً رحيم

ورثاه الشاعر خيري الهنداوي وهو في منفاه في بجزيرة هنجام بقصيدة طويلة كما رثاه الجواهري وكثير من الشعراء

اضف تعليق