q

في علم النفس يعزو العلماء التردد الى أسباب تربوية وجينية وأخرى مكتسبة، فالبيئة لها تأثيرها والوراثة كذلك فضلا عن المحيط الذي يتحرك فيه البشر، فكل ما ينطوي عليه من عادات وقيم وتقاليد سوف تُطبع به شخصية الفرد، لنجدها حاضرة في كلامه وسلوكه ومواقفه، والتردد يأتي من ضمن ذلك وقد يكون أكثر وضوحا من سواه، فهو نتاج مشترك المنابع والأصول، فقد يكون نابع من الجينات التي ينحدر منها الكائن البشري، وربما يكون المحيط التربوي هو من يرسم الشخصية ويشكلها، كل هذه العناصر قد تشترك لتنتهي الى صنع إنسان متردد.

في الحياة قد نخسر أو نربح، نحن معرَّضون الى هذه الثنائية دائما، لأننا في الحقيقة نخضع في حياتنا الى نظام الثنائيات، فيُقال أن الحياة برمتها قائمة على النظام الثنائي المتوازن، فالليل مثلا يقابله النهار، والشروق يقابله الغروب، والسماء تقابلها الأرض، والحر يقابله البرد، والكذب يقابله الصدق، وكل شيء يدخل في منظومة الحراك الكوني او البشري له أطراف متناقضة، لابد من وجودها حتى يوضّح بعضها بعضا، فعندما يغيب الظلام تماما، لا احد بإمكانه معرفة قيمة الضوء مثلا، وهكذا ينطبق هذا المثال على ثنائيات الحياة كافة، والربح والخسارة من ضمن هذه الثنائيات، وقد تضيع فرص الربح بسبب التردد.

أما في تعريف الفرص فإنها مكاسب ليست في الحسبان تتوافر للإنسان في حالة معينة وظرف معين، وهي قد تكون شحيحة لدرجة أنها ربما تأتي مرة واحدة في العمر، او أكثر قليلا، وأحيانا لا تأتي إطلاقا لبعض الأفراد، فما بالك عندما تلقي الفرصة الكبيرة بنفسها بين يديّ البشر ثم يزيحها أو يتجاهلها، أو يتلكّأ في اقتناصها، يحدث مثل هذا السلوك عندما يتردد البشر ويصيبه التهيُّب والخشية من النتائج عندما يتقدم الى فرصته، ولكن نتيجة خوف العواقب (التي قد تكون وهمية) يخسر الإنسان فرصته الأهم في الحياة.

المجتمع وأهمية استثمار الفرص

كل هذا بسبب التهُّب والتردد، ذلك أن الفرص ربما تضيع بسبب تردد الإنسان وتخوفه من قطفها لأسباب عدة، كلها تقف وراءها حالة التهيّب التي تمنع البشر من قطف فرصته كما يجب، وفي حال إذا أصابت الإنسان حالة من التردد، وتلكّأ في قطف فرصته في الوقت المناسب، فإن الخيبة هي التي ستكون نتيجة حتمية لهذا التردد، من هنا فالدعوة واضحة لنا جميعا كي نتجاوز حالة التردد ونمضي بقوة نحو أهدافنا المشروعة.

على أننا مطالبون على مدار الوقت بإظهار الرغبة والحماسة في حيازة الفرصة والاستفادة منها، وهذه دعوة لنا جميعا لكي نستثمر الفرصة بلا أدنى تردد، على أن تكون الفرصة مدعومة بالخير ومنتجة له في الوقت نفسه، بمعنى قد تكون هناك فرص تبدو مفيدة للإنسان، وربما تنقله من حال الى حال، وقد تحسّن حياته نحو الأفضل، لكن ربما تكون مقرونة بالشر، هنا لابد أن يتخلى البشر عن مثل هذه الفرص لأنها فرص شر ولا علاقة لها بالخير، وأنها من المؤكد سوف تتسبب في تدمير حياة الإنسان وليس سببا لسعادته، لذا مطلوب من الفرد والمجتمع كله أن يتحلى بروح الحماسة وأن لا يدع أية فرصة للنجاح تذهب سدى.

وإذا كان المجتمع كله من هذا النوع، أي أنه شعب يستثمر الفرص، ولا يتهيّب أو يتردد من قطفها، فإن النتائج معروفة للقاصي والداني، وتلك هي صفات المجتمعات التي حققت تقدما ملحوظا في البناء والتطور كما هو الحال مع الهند والصين واليابان، فهذه ليست شعوبا غربية أوروبية، وإنما أسوية، وقد حققت نجاحات هائلة في مجال الاستفادة من الفرص بل وصنعها، لذلك على الإنسان أن يتحلى بروح الإقدام، نحو فرصته، وأن لا يتردد قيد أنملة في ذلك، إذا تأكد أنها خالية من الضرر وبعيدة عن الشر، لأن بعض الفرص قد تحمل معها روح الشر كأن يكون مصدرها حرام أو غير مشروع، فهذه لا تسمى فرص وإنما تجاوزات غير مسموح بها.

إرجاء قطف الفرصة الى الغد

وقد يشكو كثيرون من الحرمان والفقر، ولكن ربما يكون ذلك نتيجة للتردد في توظيف الفرص المتاحة، فهناك من يريد الرزق يطرق بابه ولا يسعى إليه، وهناك من تأتي الفرصة إليه ويطردها، مثل هؤلاء إذا تعرضوا للفقر فالسبب يعود الى أنفسهم وترددهم، لذا فالحرمان قد يكون نتيجة لنوع من التردد والخوف أُطلق عليه بـ الحياء، وليس المعني هنا الحياء الأخلاقي الذي يعد من مقومات سلوك الإنسان لاسيما المرأة، بل الحياء هنا من سياق الجملة، هو التراجع عن تحصيل الأهداف مما يتسبب ذلك في حالة من الحرمان يعيشها البشر المتراجع، وما كان له أن يتعرض للحرمان لو انه أحسن التصرف، وتعامل مع الفرص التي أتيحت له بإقدام واستثمار صحيح.

كثيرة هي العوامل والأمور التي تُسهم في تضييع الفرص الجيدة من الإنسان، وهناك أسباب تؤدي الى فقدان البشر للفرص التي قد تتاح له في حياته، ومن هذه الأسباب حالة الأمل التي يعلل الإنسان بها نفسه، ويرجئ قطف الفرصة المتاحة الآن الى وقت آخر، آملا أن تتاح له فرصة أفضل، او ربما ينتابه نوع من التراجع والحياء والتردد، وكلها عوامل وأسباب تقود الإنسان الى فقدان الفرص المهمة في حياته، لهذا لا ينبغي ان يعتمد البشر على الأمل ويضيّع الفرص على أمل الحصول عليها لاحقا، فالحقيقة التي تحصل دائما أن الفرصة لا يجوز فقدانها تحت كل الظروف لأنها ربما لا تعود الى الأبد، ولا يصح للإنسان أن يأمل بعودتها مجددا فتضيع منه بلا مبرر أو بسبب الأمل الكاذب، كما نقرأ في قول أمير المؤمنين عليه السلام: (مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ)، وهكذا يمكن أن يكون الأمل في غير محله وأوانه سببا في فقدان فوائد جمّة.

كذلك قد يكون هنالك تسرع واندفاع غير مبرر في هذا الاتجاه، وكلا الحالتين غير صحيح، لا التسرع ولا التلكّؤ، لذا من المستحسن أن لا يغيب عن بال الإنسان وحساباته، حالة الموازنة بين استثمار الفرص وعدم التسرع في الانزلاق، بما هو مسيء لحياته وشخصيته ومسيرة حياته، أي ينبغي أن لا يأتي التمسك بالفرص على حساب أخلاقيات البشر، والقيم التي تقف الى جانب الخير وتدعمه، لهذا مطلوب من الإنسان وهو يسعى الى قطف الفرص المتاحة، أن يتأكد من انه لا يرتكب ما يخالف مصلحة البشر، وأن يحرص كل الحرص بأن لا يضع شخصه موضع المساءلة والمقاضاة.

اضف تعليق