q

تُثار بين الحين والآخر مكانة رجل الأمن في المجتمع، وما تعكسه هذه الشخصية من خلال أدائها لعملها من صور وانطباعات عن ثقافة المجتمع، وعن مدى تطور الدولة حضاريا، فسلوك رجل الأمن يمكن أن يشكل معيارا للوصول الى صورة دقيقة لمكانة الدولة في العالم، وطبيعة المجتمع من حيث المستوى الثقافي وطرائق وأنماط العيش، ففي عالم اليوم أصبح رجل الأمن وطبيعة سلوكه وأدائه لواجباته من المظاهر التي تعكس درجة التحضّر في المجتمعات المختلفة، فيمكن لهذا السلوك أن يكون دليلا على الرقي من عدمه، ولعل حجر الزاوية في هذا المجال يكمن بالمستوى الثقافي والعلمي الذي تتشكل منه شخصية رجل الأمن.

وهكذا أصبحت شخصية رجل الأمن أو الفرد الذي ينخرط في ضبط حركة الناس وأفعالهم ويمنع التضاربات فيما بينهم، مقياسا لمدى تحضّر المجتمع واستقرار الدولة، ويمكن للمراقب أن يرصد ذلك الاهتمام الكبير من قبل الشعوب المتطورة بتدريب رجل الأمن على أداء واجباته بطرق متحضرة تتسق مع كرامة الإنسان، ومع أننا نتفق على أن ثقافة وسلوك رجل الأمن تنتمي الى ثقافة وسلوك المجتمع نفسه، إلا أن التعليم والتوضيح والتدريب التعليمي له دوره الكبير في صقل الشخصية وتشذيبها من الأفعال التي قد تشكل خرقا لحقوق الإنسان، لهذا تتم المطالبة بتطوير عمل الأمني من خلال زجه في دورات تخصصية مهنية بارعة تضفي له قدرات ومواصفات فكرية وجسدية تطور عمله مع التركيز على التعامل الإنساني أولا.

كما أننا نفهم ونقر بأن رجل الأمن يمكن أن يكون النموذج الأمثل في تطبيق القانون الأمر الذي يجعل من الآخرين الأقل وعيا ومعرفة بتطبيق القانون ينظرون الى شخصه بإعجاب كونه يمثل الجانب الرسمي من الدولة ويتمتع بهيبة القانون التي تفرض هيبتها على الجميع من دون استثناء، ومن الطبيعي أن يحاكي العامة رجال الأمن النموذجيين في سلوكهم ودرجة انضباطهم، مع تأشير حالات الخلل التي قد تحدث بقصدية مسبقة أو من دونها، وكلما كان رجل الأمن أكثر حرصا والتزاما في تطبيق القوانين كلما كان مصدر فخر وإعجاب الآخرين وبالعكس، فحين يكون أول المتجاوزين على القانون عندها سيكون محط تندّر الجميع وامتعاضهم أيضا، بل سيكون البوابة الواسعة التي يدخل منها المتخلفون الى ساحة التجاوز على الحقوق العامة والخاصة في الوقت نفسه، حيث يصبح مثالا للتجاوز على القانون بدلا من أن يكون الراعي الأول له والمنفذ الأول لبنوده أمام الملأ.

ولعلنا نلاحظ بوضوح ذلك المدى الشاسع بين رجل الأمن المتعلم والمثقف وبين من لا يجيد سوى التجاوز على القانون نفسه!! وكثير منا يقص في مجالسه الشخصية والعامة حكايات ومشاهدات تصب في هذا الاتجاه، فيكون إعجابنا لافتا برجال الأمن الذين ينتمون الى شعوب تنطوي على ثقافات سلوكية متحضرة، فيما نصب جام غضبنا وامتعاضنا من أولئك الذين لا يفرقون بين الانضباط والالتزام بالقانون وبين مخالفته وضرب بنوده النظرية والعملية عرض الحائط.

ومن المؤسف أننا قد نرى بأم أعيننا من الحوادث والأعمال التي ترصد بعض رجال الأمن وهم متلبسين بالتجاوز على الناس وحقوقهم في الوقت الذي يجب أن يحافظوا عليهم ويحموهم من تجاوزات العابثين وأصحاب السلوك المتردي، لاسيما في الأماكن العامة وطرق السير وما شابه، كما يحدث ذلك في المناسبات التي تكثر فيها حالات الزحام في الشوارع والساحات والحدائق العامة وما شابه علما أن النماذج الجيدة لرجال الأمن يشكلون النسبة الأعظم من الأجهزة الأمنية.

لهذا تحتاج الدولة المتحضرة الى رجل الأمن المثقف المتعلم الذي يؤمن بالقانون ويعرف حدوده تماما، فيضع حدا بين تطبيقه الصحيح وبين مآربه الشخصية التي قد تدفعه إليها رغباته وأهوائه، فنحن نقر بأن رجل الأمن إنسان قبل أي شيء آخر وهو ينطوي في كينونته على رغبات وأهواء وأمزجة واندفاعات قد تضر به وبالآخرين اذا عجز او فشل في التحكم بها، فيتحول حينذاك من حام ومطبق للنظام الى عابث متجاوز عليه، وهذا ما يسيء له شخصيا ولدور الأجهزة الأمنية على وجه العموم، أما كيف يمكن معالجة مثل هذه الحالات، فإن الدورات التطويرية والإطلاع على الجانب الإنساني الثقافي، والاستزادة من الخبرات الخارجية في تطوير التعامل السليم، كلها معالجات ممكنة، لابد أن تساعد على بناء النموذج الأمثل لرجل الأمن المعاصر.

من هنا يتطلب الأمر بعض الخطوات التي تصب في بلورة الجهود الهادفة لتطوير ومساعدة وتقويم رجل الأمن وتحصينه من الأخطاء التي قد تُرتكب عن قصد أو من دونه، ونقترح هنا بعضا من هذه الخطوات:

- حرص الجهات المعنية على التثقيف والتعليم المستمر لرجال الأمن وفقا للوائح حقوق الإنسان المحلية والعالمية.

- عدم زج العناصر غير المناسبة في هذا المجال الأمني الحيوي.

- التأكيد على أهمية التحصيل الدراسي والخلفية الاجتماعية التي يترعرع فيها رجل الامن.

- الحث من لدن المنظمات المعنية على اهمية تطبيق النظام على النفس اولا وعلى الآخرين أيضا.

- أهمية الفصل بين سلطة الذات وسلطة الوظيفة الامنية ومعرفة حدود الصلاحيات المتاحة له وفقا لما ينص عليه النظام والقانون المعني.

- إدخال العناصر الضعيفة في دورات عملية ونظرية لأداء الواجب على الوجه الأمثل.

- أن يؤمن رجل الأمن بأنه النموذج الأفضل للآخرين في تطبيق النظام والقانون معا.

- أن يفهم ويؤمن بأنه مسؤول مهنيا وأخلاقيا على حماية المواطنين من جميع التجاوزات المتوقعة أيا كان مصدرها.

وبهذا يمكن أن نصل فعلا الى بناء رجل الأمن النموذج الذي يشكل بدوره لبنة مهمة وأساسية من الهيكل العام لأجهزة الدولة الأمنية التي لا يكون همها سوى تطبيق النظام والقانون سواسية، من أجل حماية أفضل وخطورة أقل.

اضف تعليق