q

من الأمور المسلَّم بها وجود فوارق عميقة بين النظامين الديمقراطي والدكتاتوري، فالأول يعني حكم الشعب نفسه بنفسه بحسب التعريف اليوناني القديم، وهو يقارب معظم التفاسير والتعريفات الحديثة، ويعني أيضا أن الشعب هو من يمنح الشرعية للحاكم، وأن أي خلل في هذا البند تحديدا، يعني أن سلطة الحاكم لا تقوم على الشرعية ما يجعلها تحت المساءلة الشعبية الدائمة، وهذا يخلق أنواعا من العداوات بين الطرفين قد تنتهي في كثير من الحالات بنهاية مأساوية للحاكم، أما النظام الدكتاتوري فهو يتناقض كليّا مع الحرية والديمقراطية حيث يكون الحاكم مصدر السلطات الأوحد وصاحب الرأي والقرار الأول والأخير في جميع الأمور التي تخص إدارة الدولة والمجتمع.

ولسنا بحاجة الى مناقشة المفاضلة بين المنهجين المذكورين، فالدكتاتورية تجرد الشعب من حقوقه وتصادر حرياته ويكون الجميع تحت رحمة السلطة الواحدة التي غالبا مات تكون بلا رحمة، ولو أننا خصصنا الكلام عمّا جرى ويجري في العراق قبل وبعد نيسان 2003، وكيف كان الشعب العراقي يقبع تحت أقسى الدكتاتوريات في العالم، وكيف أصبحت أوضاع الناس بعد هذا التاريخ، أو فيما أطلق عليها بمرحلة الديمقراطية، فقد سادت أوضاع خطيرة في السياسة والأمن والاقتصاد وفي حياة الناس عموما جعلت من بعض العراقيين يعلن أمام رؤوس الأشهاد بأنه بات يفضل الدكتاتورية على الديمقراطية!!.. السؤال المهم في هذا الخصوص، من أوصل الناس الى حافة اليأس السياسي الاجتماعي، ومن جعلهم يفضلون الدكتاتورية بعد أن ذاقوا الأمرّين منها على مدى عقود طويلة؟.

من المؤسف حقا أن يتمنى العراقي العودة الى الدكتاتورية، ولكن هذا ما أنتجته الديمقراطية المشوهة وتسببت به، فحالة الانفلات الأمني والإداري، وانتعاش الفساد وعصاباته، وتفضيل المسؤولين المناصب والأموال والسلطة على مصلحة الشعب والوطن، وغير ذلك الكثير الذي ظهر مع زوال الدكتاتورية، شكل صدمة قوية للناس وباتوا يفتشون عن بدائل للمنهج الديمقراطي الذي أضعف هيبة الدولة، وقوّض سلطة القانون، ليس لأن الدولة ضعيفة أو القانون خاوٍ مهلهل، بل لأن المنهج الديمقراطي لم يأت بالقواعد التي تضبط العمل السياسي والاقتصادي والإداري للطبقة السياسية.

لقد سعت الأكثرية من العاملين في السياسة نحو تأمين مصالحها الفردية والعائلة والحزبية، وأهملت واجباتها الأساسية التي كان عليها أن تضع مصلحة الناس في المقدمة من حيث الأهمية، فالمسؤول لن يكون محترما ولا مقبولا من الشعب إذا فضل نفسه وعائلته وحزبه على شعبه، لكن الذي حدث أن الأحزاب والشخصيات السياسية تناست أو نسيَت مهمتها ودورها الأساسي الصحيح وأساءت التعامل مع الشعب وحقوقه.

مشهد مطلبي شعبي متكرر

في سيارة الأجرة يمكنك أن تسمع نقاشات محتدمة بين الركاب، بعضها تعلن بلا تردد أو حرج أنها ملَّت النظام الديمقراطي، وأنها تفضل الدكتاتورية على حالة الانفلات والفساد الإداري والفوضى السياسية وحالات الاختلاس لتي طالت المال العام بصورة فاضحة، وفي أماكن عامة أخرى قد تستمع الى الكلمات نفسها من أناس آخرين، بعضهم يشكو نقص الخدمات البلدية، وسوء المستشفيات والخدمة الصحية، وآخرون يتذمرون من نقص الكهرباء أو تذويب السلة الغذائية للبطاقة التموينية، أما غياب العدالة في التعيينات الوظيفية فإنها موجودة على كل لسان، وهي عامل أو سبب من أسباب تذمر الناس من المنهج الديمقراطي.

مثل هذه المشاهد يمكن أن تواجهك في السوق أو الساحات العامة أو في الشوارع والمقاهي وسواها، لتبقى تتساءل من أوصل الأمور الى هذه النقطة الحرجة، وهل فكرت الأحزاب السياسية بقادتها وأعضائها بما سيحصل في نهاية المطاف، وهل دققوا جيدا في معنى أن يفضل الناس النظام الدكتاتوري على الديمقراطي، إنها كارثة في واقع الحال، أن ينسى الناس مراحل الجوع والحرمان والقهر والاستبداد، ليعودوا مرة أخرى يتمنون العودة إليها ويفضلونها على الديمقراطية التي فتحت الأبواب للفساد على مصراعها ومنحت الفاسدين فرصا هائلة للاستئثار بالمال العام بشتى السبل والطرق المخادعة والتحايل.

وأخيرا نصل الى قناعة أن ما يجري في الواقع العراقي ينبئ عن نتائج خطيرة، لابد أن تتنبّه لها الطبقة السياسية وتضع لها المعالجات الشافية، ويجب أن يتخلص السياسيون من أسلوب اللامبالاة في معالجة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبوها في إدارة البلاد سياسيا واقتصاديا وإداريا، فالأمر ينذر بعواقب وخيمة، خاصة إذا حاولنا معرفة الأسباب الدقيقة التي جعلت العراقيين أو المتضررين منهم يفضلون العودة الى الدكتاتورية ويكرهون الديمقراطية، مع الفارق بين النظامين لا يمكن أن يكون في صالح النظام الاستبدادي.

إذاً فالعاملون في السياسة يجب عليهم الإجابة بوضوح عن السؤال التالي.. ما الذي يجعل المواطن العراقي يتمنى عودة الدكتاتورية ويفضلها على الديمقراطية، ثم كيف ينسى كل تلك المعاناة والمأساة التي ألمّت به طيلة عقود تعاقبت فيها عليه أنظمة استبدادية سامته الويل، وهي تنقضّ على حقوقه وتدمر آماله وتلغي طموحاته، وتصادر حرياته وتحاصره في رزقه ورأيه وتمنع عنه الاتصال بالعالم الخارجي حتى تم عزل العراقيين بصورة تامة عن عموم العالم، فلا وسائل اتصال داخلي أو خارجي شخصي ولا إعلام حر، والحجج في العلن الحفاظ على تماسك الشعب وفي الخفاء لحماية عرش الحاكم.

جرس الإنذار يدق بلا توقّف

من القضايا التي باتت واضحة للجميع أن الواقع العراقي يمر اليوم في أزمات عصيبة متفاقمة على الأصعدة السياسية الاقتصادية الإدارية، ما يستوجب إعادة غربلة للفكر والسلوك الذي تعتمده الطبقة السياسية في إدارتها للبلاد، وعلى الجميع أن يفهموا بأن السيل قد بلغ الزبى، وأن إهمال الأوضاع وتركها على الغارب، سوف ينتهي الى إلحاق الأذى بجميع العراقيين ومنهم الطبقة الحاكمة او العاملة في السياسة، بل ستكون هي الطبقة الأولى المستهدَفة، مع فقدانها لحاضرها العملي ومستقبلها السياسي، لذلك بدأ جرس الإنذار يقرع بشدة، وهو يحذر أرباب السلطة والمهيمنين عليها كي يعالجوا الخلل قبل فوات الأوان.

ما تقدم من كلام يجب أن يؤخذ على محمل الجد من العاملين في السياسة، وينبغي تغيير المنهج السياسي للطبقة السياسية بصورة جذرية، والكف تماما عن تفضيل النفس والعائلة والحزبية، فإذا أراد قادة العراق السياسيون معالجة الأمور، فلا يزال هنالك فرصة للقيام بذلك، ولا يزال المركب العراقي في أمان، لكن أمواج الفساد تعصف به، وإذا بقي الحال هكذا فإن النتائج سوف تكون في غاية السوء، لذا يستدعي هذا الخطر تحركا فوريا شاملا من الطبقة السياسية لمعالجة الأوضاع الشائكة التي يعيشها العراقيون، لاسيما القضايا التي تتعلق بالمساواة والعدالة في التعيينات وتوزيع الثروات وإنصاف الشعب وتعويضه عما لحق به من ويلات وحرمان وظلم.

لا يوجد عاقل يفضل الدكتاتورية على الديمقراطية، فحرية الإنسان الفطرية تفرض عليه الاصطفاف الى جانب المنهج الديمقراطي، ولكن عندما أصبحت الأوضاع في العراق لا تطاق، وصار السياسيون يستأثرون بكل شيء لهم ولذويهم وأحزابهم، ووضعوا الشعب خلف ظهورهم وأسقطوه من حساباتهم، هنا بدأت تتكون القطيعة بين الشعب من جهة وبين الطبقة السياسية الحاكمة، وهذا يتطلب بطبيعة الحال معالجات فورية لهذا الوضع الشائك، على أن تكون المبادرة من العاملين في السياسة والقادة المؤثرين لكي يثبتوا أنهم في خدمة الشعب والدولة قبل أنفسهم وأحزابهم وذويهم.

اضف تعليق