q

الفكر هو الأصل الأول الذي تبتني عليه حركة الإنسان وافعاله بحيث إن الفكر هو الذي يصحح ما يقوم به ويجعله معتبرا ومقبولا عند العقلاء. وهو الذي يثاب ويعاقب به وهو معيار ومقياس الأحكام والحقائق وميزان صحة الأعمال وبطلانها. والإرادة تبدأ بالتشكل عندما يتصور الفكر ويرى ما يحتاجه ويحس بما ينفعه أو يضره فهي نتاج فعلي لعملية التفكير، لذلك تكون الإرادة حاصل لنوعية تفكير الإنسان والأسس التي قام عليها.

واغلب الأخطاء والانحرافات تنشأ من التفكير الخاطئ، وخصوصا إذا تعرض الفكر لضغوط نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية تخرجه عن قدرته في التفكير المنطقي والمنهجي الى طور التفكير العاطفي والانفعالي.

والوعي ينشأ عندما يتخذ الفكر طريقه السليم في فهم الواقع الخارجي دون ان يتأثر بشكل مطلق بالعوامل الجانبية والانفعالية، وتشير الآية القرآنية الى ذلك بقولها: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او آذان يسمعون بها فأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).الحج 46 فهنا كلمة القلب التي يمكن ان تعني الفكر تدل على ان الفكر لا يرى الواقع بوضوح إلا عندما يسلك الطريق العقلي، وعندها اذا تطابق الفكر مع الأسس العقلية فانه يمتلك البصيرة التي تنفذ الى عمق الأشياء ولا تكتفي بالرؤية الظاهرية، فالذي لا يستند الى المنهج العقلي في التفكير يرى الأشياء بصورة مغلوطة. فالمشكلة الأساسية لعملية النهضة وتكوين إرادة جدية تعتمد على نوعية الفكر الذي يحدد قيمة الوعي المتبصر.

فهناك فكر انفعالي يرتكز على ردات الفعل الفورية في التفكير ويستخدم أساليب سريعة وفورية لإيجاد التغيير دون التفكير في قيمة هذه الأساليب وفاعليتها البعيدة المدى، لذلك لم تستطع الصحوة الإسلامية المعاصرة ان تقطع التاريخ وتعبر الى الزمن الجديد بنهضة حضارية متألقة لأنها لم تمتلك الوعي المتبصر الذي يكشف لها عن السنن الكونية السليمة في النهضة.

فالوعي الانفعالي ليس إلا خطوة غير مدروسة اتخذت نتيجة لتعرض الجماعات والأفراد الى ضغوط سياسية ودينية وإجحاف اقتصادي واجتماعي فلم تجد إلا العنف وسيلة للتغيير والنهضة. وهذا النوع من الوعي يحدث انتكاسات قوية تضر عملية النهضة وترجعها الى الخطوط الخلفية، لانه لا يعتمد بالأساس على رؤية وفكرة تنبثق من أرضية العلل والأسباب التاريخية والكونية ولم تتخذ التفكير العقلي منهجا لتقييم الحقائق وفهم الدوافع والأسباب كما حددتها الآية المسبق ذكرها (قلوب يعقلون بها).

وهناك الوعي والفكر المنغلق الذي يريد ان يحبس الأمة في التاريخ الماضي ويغلق أبوابه عن الانفتاح نحو المستقبل ويجمد حركة المجتمع الدينية والفكرية الى حيث انتهى الأسلاف، فلا فكر متجدد ولا اجتهاد متحرك بل هو انغلاق مطلق على الماضي دون محاولة لفهم ان الحياة في تطور وتقدم دائمين وان الدين الإسلامي هو دين الاجتهاد والتطور والتغيير. وهذا النوع من التفكير يحبط أي إرادة للنهضة والتغيير ويجمد الإرادة البشرية ويقمعها ويغل التفكير عن الخوض في مسائل الحياة لانه يفسر الدين والتاريخ بحرفية مطلقة لا تعتمد على التفكير العقلي الواسع والمنفتح والمرن.

وهناك التفكير والوعي المصلحي الذي يعتمد أساسا على التفكير النفعي الآني والأناني، فالجماعة او الفرد لا يتحرك إلا في إطار مصلحته الخاصة وما يتحقق له من منافع، لذلك فهو يحتكر الفكر ويفسر المبادئ بحسب ما يرغب به ويرى الدين والتاريخ من خلال وجهة نظره الخاصة ويحاول ان يخلق قوالب جاهزة في حركته تتناسب مع رغبته ومراده. وهذا النوع من التفكير هو الأخطر لأنه يؤدي الى إحداث الانشقاق والنزاع والفتنة في المجتمع، ولانه يعتمد أساسا على الاحتكار والاستبداد ورفض الرأي الآخر لذلك فهذا المنهج لا يمتلك إرادة التغيير الحقيقية.

وهناك الفكر المتغرب المفتتن بالقوي والذي يرى في حضارة الأقوياء المثال والنموذج الذي يجب أن يحتذى به لإيجاد النهضة، ومشكلة هذا النوع من الوعي انه لا يرتكز على أرضية قوية في الفهم والتفكير لان أساسه ينشأ من إحساسه بالضعف وعدم الثقة بالذات ورؤيته الدونية للقوي وبالتالي خضوعه التام له، لذلك فهو يلتقط كل شيء من القوي دون ان يمحص ما هو جيد او سيئ وهذا هو منشأ الخضوع للاستعمار والإيمان المطلق بالثقافات الغازية. ولو اننا تأملنا القرآن الكريم جيدا وحاولنا ان نقرأ قوانين التاريخ فيه بتبصر قليلا لاستطعنا ان نكتشف الكثير من رؤى النهضة والتغيير فيقول الكتاب الحكيم: (افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اكثر منهم واشد قوة واثاروا الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون).غافر 82

ان الفكر القادر على خلق إرادة فاعلة لعملية النهضة يبدأ من خلال الوعي المتبصر الذي ينشأ من التفكير العقلي الموضوعي حيث يجرد نفسه من ضغوطات البيئة والنفس والمعيشة ويحرر نفسه وعقله من الجمود الفكري الذي يحبس التيار الفكري من الانطلاق ويقضي على النوازع المصلحية والأنانية في ذاته ويفكر في مصلحة الأمة والدين والنفع العام، ويعود الى إبداعات فطرته التي فطرها عليه البارئ تعالى حيث ينظر من مرآة عقله الى الخارج بشفافية وحيوية دون وجود حواجز نفسية وذاتية متراكمة، وهنا يستطيع العقل ان يخلق بصيرة وفهما راقيا ومن ثم وعيا كاشفا لقوانين النهضة والتغيير، يقول الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) : يا هشام ان الله تبارك بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب). وهذه الآية القرآنية تشير إلى قضية الاهتداء والوصول الى الكمال عبر تجريد الإنسان من نفسه والأخذ بالرأي الواقعي دون النظر للعوامل الأخرى وهذا هو الذي يقود الإنسان الى فهم الحقيقة بصورة سليمة وهذا منهج العقلاء الذي يوصل الى طريق الهداية ومن ثم الحصول على النتائج الطيبة والمبشرة. وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): يا مفضل لا يفلح من لا يعقل ولا يعقل من لا يعلم.

ان هناك الكثير من الحواجز الذاتية التي شكلتها عوامل نفسية وأخلاقية وفكرية تمنعنا من رؤية الواقع الحركي لسنن الله في الكون وما لم نرفع هذه الحواجز فان قدرتنا على خلق ارادة فاعلة للنهضة تتضاءل وتزول. فالإحساس الصادق بالواقع هو تلك النظرة النافذة التي تقول انه بالمثل الأخلاقية المتعقلة يمكن الوصول الى علاقة سوية بالواقع، وبتصحيح الإنسان والمجتمع لواقعه الأخلاقي والفكري يمكن ان يكتسب كل القوة التي يمكن استعمالها في السيطرة على الأحداث وبدون هذه القوة وفقدان الإرادة نسلم أنفسنا لاستعباد القدر والظروف والأهواء والمصالح الأنانية والقوى الاستعمارية، وهنا يشير الكتاب الحكيم بقوله: (ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).الاعراف96

* مقتطف من مقال منشور في مجلة النبأ-العدد43-ذو الحجة2000/آذار2000 –تحت عنوان: تحديات التاريخ الجديد

اضف تعليق