q

عاشت اوربا اياما صعبة عندما صُدمت من ابنائها الذين تأثروا بالفكر التكفيري، بعد ان تمكنت التنظيمات المتطرفة من جذبهم، وبالأخص تنظيم "داعش"، وبعد ان انخرطوا في القتال الى جانبهم في سوريا والعراق، وشاركوا في العمليات القتالية وقطع الرؤوس والتفجيرات الانتحارية، اضافة الى تولي بعضهم مناصب متقدمة في صفوف التنظيم، فضلا عن ادارة الاعلام المتطرف للتنظيم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الجهادية، والاشراف على تصوير ومونتاج افلام ذبح الرهائن بطريقة احترافية، تحاكي الطرق الهوليودية، ولم يقتصر دورهم على الذهاب الى بؤر التوتر فقط، بل والعمل على ترتيب هجمات فردية "الذئاب المنفردة" داخل بلدانهم لاستهداف مدنيين او منشآت حيوية لزعزعة الامن والاستقرار في البلدان التي ولدوا وعاشوا فيها.

اوربا اليوم ليست كاوربا الامس، فهي اليوم تعيش واقعا منقسما على نفسه، سيما وان المخاوف من "الاسلام فوبيا" اصبحت تشكل هاجسا كبيرا لدى المواطنين الاوربيين، وهذا الانقسام افرز جماعتين او طريقتين من التفكير، احداهما تشكلت من المؤيدين لإيجاد حلول لهذا الواقع المتطرف، تنطلق من الاعتراف بتقصير اوربا تجاه ابنائها المسلمين، بعد ان وضعتهم على الهامش ولم تتحمل مسؤولياتها الكاملة لاحتوائهم كجزء مهم من مجتمعها الثقافي والفكري والديني، فيما يتجه التفكير الاخر نحو مزيد من التشدد ومحاربة الاسلام، باعتباره السبب وراء تطرف المسلمين، وقد انتج هذا النوع من التفكير حركات عنصرية (كحركة "بيغيدا" المعادية للإسلام) شجع على نشاطها الحركات والاحزاب اليمينية المتطرفة، والتي سببت الكثير من الحرج لاوربا وزعمائها بعد ان اثارت الكثير من الاضغان داخل النسيج الاجتماعي الاوربي الذي يعتمد على التنوع في الثقافات وحرية المعتقد، في وقت تحتاج فيه الدول الاوربية الى مجتمعات متماسكة لمواجهة موجة التطرف.

ولم تنتهي اوربا حتى اليوم من مكافحة العنصرية ضد اللون او العرق الذي لا ينتمي لأصولهم الاوربية، والتي تنامت بشكل ملحوظ في الآونة الاخيرة، حتى بات البعض يتخوف من تحولها الى جزء من ثقافة هذه المجتمعات، والتي يمكن ان تسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية والثقافية في حال ايقاظ هذه الآفات بمزيد التطرف والنظرة الضيقة، وهو ما شهدناه على واقع الحال بعد ان تعرضت عدد من مواطني الدول الاوربية الى مضايقات عنصرية، قد تشابه الى حد بعيد المضايقات والاعتداءات التي تعرضت لها الجالية المسلمة في اوربا (بعض النساء تعرضت الى اعتداءات لفضية وجسدية، اضافة الى طعن عدد من المسلمين بالسكين، فيما احرقت عدد من الجوامع وتم الاتداء على بعض قبور المسلمين...الخ) في بعض دول اوربا، خصوصا بعد موجه الاعتداءات الارهابية التي طالت فرنسا والدنمارك وبلجيكا والنمسا وغيرها من الدول الغربية.

وشدد خبراء ومثقفون ورجال دين (من مختلف الديانات) على ضرورة اشراك المسلمين الاوربيين داخل مجتمعاتهم وعدم التمييز في معاملتهم بصفتهم ثقافة او دين او مجتمع مختلف عن اوربا، فالعزلة غالبا ما تؤدي الى عد فهم الاخر والابتعاد عنه وبالتالي النزوع الى التطرف والكراهية وتجزء هذا المجتمع الى جماعات متصارعة فيما بينها، ولعل القوانين والانظمة داخل الدول الاوربية، احد اهم الاسباب العوامل المساعدة على تعزيز التعايش بين هذه الثقافات والديانات، لنزع فتيل الازمات الاجتماعية بين المسلمين وغيرهم.

النمسا كانت اول المبادرين لتسوية اوضاعها القانونية مع مسلميها، بعد ان حدثت "القانون حول الاسلام" الصادر في العام 1912 اثر ضم البوسنة والهرسك الى الامبراطورية النمساوية المجرية، ومع ان الكثير من الانتقادات وجهت لبعض الفقرات الواردة في نص القانون، الا ان اخرين اعتبروه خطوة في طريق منح المزيد من الاهتمام بشريحة مهمة من المجتمع النمساوي بدلا من تجاهل احتياجاتهم، "ويتضمن النص، للمرة الاولى، منح المسلمين الحق في ان يكون لهم رجال دين داخل الجيش والمستشفيات ودور التقاعد والسجون، اضافة الى حق تناول الاطعمة الحلال بما في ذلك في المدرسة الحكومية"، فيما تسعى فرنسا لإنشاء "هيئة حوار" لتضم أبرز مكونات الإسلام الفرنسي، ممثلة في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وأئمة ومثقفين، واشار وزير الداخلية الفرنسي أن هذه الهيئة الجديدة ستجتمع "مرتين في السنة حول رئيس الوزراء" من أجل "معالجة مسائل محددة" مثل إعداد الأئمة والذبح على الطريقة الإسلامية "ضمن الاحترام الصارم لمبادئ العلمانية".

وحتى لا تختلط الامور على "اوربا اليوم" وهي تكافح التطرف والعنصرية داخل مجتمعاتها، ينبغي عليها العمل على تبني "مقاربة جديدة" لا تعتمد على فكرة "الاسلام فوبيا" او "الاسلام المتطرف" و"الاسلام المعتدل"، وانما تعتمد على بناء الثقة واندماج المسلمين في المجتمع الاوربي مع احترام ثقافاتهم ومعتقداتهم، والعمل على بناء المشتركات الاخلاقية والثقافية والانسانية التي تحترمها جميع الاديان والقوانين والثقافات الانسانية، وحتى لا تخسر اوربا هويتها الحضارية عليها ان تجتاز هذا الامتحان بنجاح، بعيدا عن الاحكام المسبقة او التأثيرات العنصرية، التي قد تزيد من حدة الاحتقان والتطرف داخل هذه المجتمعات.

اضف تعليق