q

الفكر أرض وتربة صالحة ومياه وبذور وفلاح، وقبل هذا وذاك أو تلك يحتاج الأمر الى عقل نافر ناهض يفكر خارج السرب، وينطّ عاليا بعيدا عن الأنساق القارّة، عقل يسبق الزمن ويعيش في قلب المستقبل، يبني في الخيال المتألق الفاعل، ليس أحلاما من ورق، وإنما ركائز فكرية ينهض عليها التجسيد المادي النابض بالجودة وهذا الهدف الكبير الذي تم تشخيصه في السطور القليلة أعلاه، يلزمه نوع فكري محايث له يساويه في الجودة ويتفوق عليه في الطموح، تُرى ما هو هذا الفكر والى أي نوع من الأفكار ينتمي؟.

الرشاد أو الرشد مفردة تقترب في معناها من العقلانية، والعقل هو مصنع الذكاء، فهل ثمة تشابك بين الذكاء والرشاد؟، بلى هو كذلك، والرابط بينهما هو العقل، لأنه المنتِج لهما، فأمامنا معادلة يقف العقل في أحد طرفيها، يعادله في الطرف الآخر عنصران هما الذكاء والرشد، ولكن كيف نعثر على كنز الرشاد ولماذا هذا الحثّ الشديد على لزوم العثور والوصول الى الرشد؟.

إن الفكر الخلاق كما أسلفنا له ترابط وثيق مع الرشد، ولكن هناك أمر ثالث ينبغي توافره، ويقصد به المختصون العارفون (ثبات القصد)، بمعنى لا يكفي أن تفكر بطريقة رشيدة، وإنما يلزم الأمر أن يرافق هذه الطريقة نيّة شاخصة قوية لا تقبل التخلخل أو الزوال، فصار لدينا الآن عنصر ثالث مضاف الى الذكاء والرشد، ونعني به ثبات النيّة، فلا فائدة من تفكير سلام من دون أن يتجه نحو إنتاج الرشد، ولا فائدة من الأخيرة أن لم ترافقه نيّة الخير الملتصقة بالثبات.

وعندما نُسأل لماذا التركيز على ترافق النيّة مع الرشد، فإن الإجابة سوف تنص على أن التفكير بلا نيّة سابقة راسخة سوف يكون عرضة للضياع، والانحراف، وبدلا من أن ينتج الرشد الفكري ويكون في صالح البشرية، فإنه يمكن أن ينشط ليعمل بالضد من وجودها وصالحها تماما، وهنا يمكن أن تكون الخطيئة حاضرة بقوة، فقد ينأى الفكر في مراميه ليكون سندا للهدم وليس البناء، أو داعما للشر وليس الخير، وليس ثمة مفر من البحث عن عنصر مساعد ديني أو زمني كما هو الحال في الاستفادة من شهر رمضان كعنصر دافع لإنتاج الرشد والخير بأنواعه.

هنا ترشح بقوة مسألة ثبات النيّة المسبقة، فإن كان هدفك التفكير الذكي العقلاني الهادف الى الرشد، إذاً يسترعي هذا النوع من التفكير إلتزاما ووضوحا مسبقا، لأن التفكير المجرد يمكن أن يقع في فخ الإرادة الشيطانية، وهنا سيكون المنتَج الفكري وبالا على الإنسان وليس معينا له أو وسيلة لتحسين عيشه.

يرد في هذا المضمار قول جميل للسيد المرجع صادق الشيرازي يقول فيه: (لنكن على حذر من ألاعيب الشيطان الرجيم وأساليبه، ونطلب من الله تعالى نيّة الرشد والثبات عليها./ المصدر: كتاب حلية الصالحين لمؤلَّفه السيد صادق الحسيني الشيرازي).

هكذا يسترعي الأمر المزيد من النباهة، فطريق الرشد الفكري له شرائط ما أن تُهمَل أو يُغَّض الطرف عنها، حتى ينسلخ الرشاد من ذلك المنتج الفكري ليتحول على حين غرّة الى الطريق المضاد، حيث يكون هذا النوع من الفكر مخلوطا بإرادة شيطانية تمسخ الفكر وتمسح الرشد الذي يرافقه، فيُصبح وبالا على صاحبه ومنتجه والوسط الذي يرمي إليه، ويصير الخلاص من هذا النوع الفكري هدفا للجميع، بعد أن كان أملهم في تحسين العيش!!.

كل هذا كيف يحدث ولماذا؟؟، نصوغ السؤال بطرقة أخرى فنقول: لماذا يتحوّل الفكر من الرشاد الى نقيضه، وكيف يصبح الأمر على هذه الشاكلة، وبعد هذا وذاك هل هناك وسيلة أو طريقة أو صيغة محددة المعالم تحمي الرشد الفكري من الانزلاق في مدارات البؤس والخديعة والضلال؟ وهل هناك وقت معين يمكن أن يكون أكثر فائدة لمثل هذا الفكر كشهر رمضان مثلا؟.

في الحقيقة ليس هناك شيء مادي أو معنوي أو فكري يستحق سقوط الإرادة البشرية الفردية أو الجمعية في الحضيض، بسبب خديعة شيطانية بائسة، كان من الممكن للعقل أن يتحاشى خطرها ويدرأ تأثيرها لو كان على مقدار كافٍ من الثبات والإيمان، فالرشد الفكري لا يتضاد مع العقل ولا الذكاء لكن تحاشي الخدع الشيطانية أحد الشرائط غير القابلة للإهمال أو النسيان.

نعود لنستشهد بنص للسيد المرجع صادق الشيرازي جاء في طرحه: (قد يخدع الشيطان الإنسان بأهون شيء فيبتاع منه دينه. إنّ كلّ شيء يمكن أن نُخدع به في هذه الدنيا لا يستحقّ أن نساوم به على ديننا، فإنّ الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا فرق بين المليار والفلس الواحد من المال الحرام إلا في الحجم).

فتحصيل الرشد الفكري يبقى هدف النفوس الكبيرة والعقول المؤمنة، ولكن ثمة دائما حاجة ملحّة لثبات النية، وهذه تسترعي دافعا مساندا لها، وليس هناك أسمى من شهر رمضان، يقوم بهذه المهمة، فهو شهر نافر متفرّد، كما الطود الناهض، وليس ثمة أنسب منه وسيلة تؤصّل الفكر وتساند العقل لينتج الرشد الفكري، بما يتماهى ويتوافق ويتناسق مع ما ينتمي الى العقل المنتِج، على أن يترفع حاملو هذه العقول عن هفوة الانزلاق في شراء الدنيا ونسيان الدار الأهم، فمن يسرق دينار كمن يسرق مليارا، حيث السقوط يتساوى على الاثنين من حيث المبدأ.

وفي المحصلة ما علينا سوى التشبث بشهر رمضان كمجير لعقولنا المؤمنة مؤازرا لها، محقّقا لتأصيل الرشد الفكري، وجعله منهج حياة منتقاة من بين براثن الحرام، فمن يروم إنتقاء الفكر وفرزه وتشخيصه، ثم تأصيله وربطه بثبات النية، ونزع مآرب الشيطنة بأنواعها عنه، لا ريب سوف يصل الى ما يبتغي، فالمهم أن يكون الفكر نافرا خارجا عن الأنساق القارّة المتعارف عليها أو السائدة، مع الاحتفاظ باشتراط النظافة الفكرية وتأصيلها.

اضف تعليق