q

جيفري فرانكل

 

كمبريدج ــ إن الحزبين السياسيين الرئيسيين في أميركا نادراً ما يتفقان، ولكن الشيء الوحيد الذي يوحد الحزبين هو غضبهما إزاء "التلاعب بالعملة"، وخاصة من قِبَل الصين. وربما بتحفيز من الارتفاع الأخيرة في قيمة الدولار والعلامات الأولى التي تؤكد أن هذا الارتفاع بدأ يتسبب في تآكل صافي الصادرات، يفكر الديمقراطيون والجمهوريون في الكونجرس مرة أخرى في إصدار تشريعات لمواجهة ما ينظرون إليه باعتباره خفضاً غير عادل لقيمة العملات. وتتضمن التدابير المقترحة الموازنة بين الرسوم والواردات من البلدان المسيئة، حتى وإن كان هذا يتعارض مع قواعد التجارة الدولية.

وهذا نهج خاطئ. فحتى لو قَبِلنا أنه من الممكن تعريف ماذا يعني التلاعب بالعملة على وجه التحديد. فالصين لم تعد مؤهلة. ففي ظل الظروف الحالية، إذا سمحت الصين بتعويم الرنمينبي بحرية، من دون أي تدخل، فإن هذا يجعله أكثر ميلاً إلى الانخفاض وليس الارتفاع في مقابل الدولار، الأمر الذي يزيد من حدة الصعوبات التي يواجهها المنتجون الأميركيون في المنافسة في الأسواق الدولية.

ولكن هناك نقطة أكثر جوهرية: فمن المنظور الاقتصادي، من الصعب للغاية نظرياً تحديد مفهوم التلاعب بالعملة أو خفض القيمة بشكل غير عادل. وانخفاض الرنمينبي بشكل طفيف في مقابل الدولار في عام 2014 ليس دليلاً على التلاعب بالعملة؛ ذلك أن عملات أخرى كثيرة، وخاصة الين الياباني واليورو، انخفضت قيمتها بنسبة أكبر كثيراً في العام الماضي. ونتيجة لهذا فإن القيمة الإجمالية للرنمينبي ارتفعت قليلاً في واقع الأمر على أساس متوسط.

إن الشرط الأساسي لتلاعب هو التدخل في سوق العملة: بيع العملة المحلية وشراء العملات الأجنبية للحفاظ على قيمة الصرف الأجنبي عند مستوى أدنى مما كانت لتصبح عليه لولا ذلك. ومن المؤكد أن بنك الشعب الصيني فعل الكثير من هذا على مدى السنوات العشر الأخيرة. فقد ساهمت تدفقات رأس المال في خلق فائض كبير في ميزان المدفوعات، كما اشترت السلطات الدولارات الأميركية، فقاومت بالتالي الضغوط التي تدفع الرنمينبي إلى الصعود. وكانت النتيجة مستوى غير مسبوق من احتياطيات النقد الأجنبي، التي بلغت 3.99 تريليون دولار بحلول يوليو/تموز 2014.

ولكن في الآونة الأخيرة تغير الموقف. ففي عام 2014، عكست تدفقات رأس المال في الصين اتجاهها، فأظهرت تدفقات رأسمالية صافية كبيرة. ونتيجة لهذا، تحول ميزان المدفوعات الإجمالي إلى المنطقة السلبية في النصف الثاني من عام 2014، وتدخل بنك الشعب الصيني فعلياً للحد من تراجع قيمة الرنمينبي. وهبطت الاحتياطيات من النقد الأجنبي إلى 3.84 تريليون دولار بحلول يناير/كانون الثاني 2015.

ولا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن هذا الاتجاه الأخير سوف يتراجع في المستقبل القريب. والضغوط النزولية المفروضة على الرنمينبي نسبة إلى الدولار تعكس التعافي القوي نسبياً لاقتصاد الولايات المتحدة، والذي دفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى إنهاء فترة طويلة من التيسير النقدي، وتباطؤ الاقتصاد الصيني، والذي دفع بنك الشعب الصيني إلى بدء جولة جديدة من التحفيز النقدي.

وهناك أسس اقتصادية مماثلة تلعب دوراً ملحوظاً في بلدان أخرى. فالمقترحات التي طرحت في الكونجرس بضم فقرات خاصة بالعملة في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية التجارة الحرة الإقليمية العملاقة التي تمر حالياً بالمرحلة الأخيرة من المفاوضات، يفترض أنها تستهدف اليابان (لأن الصين ليست ضمن الاتفاقية). وربما يرغب الكونجرس أيضاً في استهداف منطقة اليورو في المفاوضات المقبلة بشأن شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي.

ولكن سنوات مرت منذ تدخل بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي في سوق صرف العملات الأجنبية. وفي اجتماع مفاجئ لوزراء مجموعة الدول السبع قبل عامين، اتفقوا على اقتراح تقدمت به وزارة الخزانة الأميركية بالامتناع عن التدخل الأحادي الجانب في سوق صرف العملات الأجنبية. وأولئك الذين اتهموا اليابان أو منطقة اليورو بشن حروب عملة كانوا يضعون في اعتبارهم التحفيز النقدي المتجدد الذي انطوت عليه ضمناً برامج التيسير الكمي الأخيرة التي أقرها بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي. ولكن كما تعرف حكومة الولايات المتحدة حق المعرفة، من غير الممكن أن نطلب من البلدان ذات الاقتصادات المتعثرة أن تمتنع عن خفض أسعار الفائدة فقط لأن الآثار المحتملة تتضمن انخفاض قيمة العملة.

الواقع أن الولايات المتحدة هي التي اضطرت إلى تقديم تفسير إلى العالم مفاده أن التحفيز النقدي ليس تلاعباً بالعملة عندما تبنت التيسير الكمي في عام 2010. وفي ذلك الوقت، كان وزير المالية البرازيلي جيدو مانتيجا هو الذي صاغ تعبير "حروب العُملة" واتهم الولايات المتحدة بكونها المعتدي الرئيسي. والواقع أن الولايات المتحدة لم تتدخل بشكل كبير في سوق العملة لبيع الدولارات منذ التدخلات المنسقة التي ارتبطت باتفاق بلازا في عام 1985.

وتستخدم معايير أخرى إلى جانب التدخل في سوق العملة للتأكد مما إذا كانت عُملة ما مقومة بأقل من قيمتها عمدا، أو على حد تعبير البنود المؤسِسة لاتفاقية صندوق النقد الدولي "تم التلاعب بها" لصالح "ميزة تنافسية غير عادلة". وأحد هذه المعايير هو التجارة الكبيرة إلى حد غير مناسب أو فائض في الحساب الجاري. ويتلخص آخر في قيمة الصرف الأجنبي الحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) المنخفضة إلى حد غير مناسب. ولكن العديد من البلدان لديها فوائض تجارية ضخمة أو عملات ضعيفة. ومن الصعب عادة أن نجزم بما إذا كانت مناسبة.

قبل عشر سنوات، بدا الأمر وكأن الرنمينبي يلبي جميع معايير خفض القيمة بشكل مفتعل. ولكن الحال لم تعد كذلك. فقد ارتفعت قيمة الرنمينبي الحقيقية في الفترة من عام 2006 إلى عام 2013. وتُظهِر أحدث إحصاءات القوة الشرائية أن سعر العملة في نطاق طبيعي بالنسبة لبلد حيث يبلغ نصيب الفرد في الدخل الحقيقي نحو 10 آلاف دولار.

وعلى النقيض من ذلك، فإن المعيار الذي يركز عليه الكونجرس الأميركي ــ التوازن التجاري الثنائي ــ لا قيمة له في نظر خبراء الاقتصاد (وقواعد صندوق النقد الدولي). صحيح أن فائض الصين التجاري الثنائي مع الولايات المتحدة لا يزال كبيراً كما كان في أي وقت مضى، ولكن الصين تدير أيضاً عجزاً ثنائياً مع المملكة العربية السعودية وأستراليا وغيرهما من البلدان المصدرة للنفط والمعادن، ومع كوريا الجنوبية التي تستورد منها مكونات تدخل في صادراتها المصنعة. والواقع أن المدخلات المستوردة تشكل نحو 95% من قيمة الهاتف الذكي "الصيني" المصدر إلى الولايات المتحدة؛ وهذا يعني أن 5% فقط تشكل قيمة مضافة صينية. وبيت القصيد هنا هو أن الموازين التجارية الثنائية لا تعني الكثير.

إن الكونجرس يلزم وزارة الخزانة الأميركية قانوناً بأن ترفع له مرتين سنوياً تقريراً حول أي البلدان مذنبة بالتلاعب بالعملة، مع تحديد الميزان التجاري باعتباره أحد المعايير. ولكن ينبغي للكونجرس أن يتوخى الحذر في أمانيه. وسوف يكون من عجيب المفارقات إذا وافقت الصين على مطالبات الولايات المتحدة بتعويم الرنمينبي وكانت النتيجة انخفاض قيمته على النحو الذي يعزز القدرة التنافسية الدولية للمصدرين الصينيين.

* أستاذ في كلية كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، وشغل سابقا منصب عضوا في مجلس الرئيس بيل كلينتون للمستشارين الاقتصاديين

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق