q

هذا السؤال الحّ عليّ كثيرا، وانا استمع الى احاديث الناس اثناء الانتخابات الاخيرة التي جرت في العراق، وهو الحّ ايضا عليّ، وانا اتابع ملصقات المرشحين التي احتلت الفضاء العام للمدن العراقية..

كنت اسمع كثيرا سؤال الناس لبعضهم: من تنتخب؟ وهو سؤال يتقدم على غيره من الاسئلة ان وجدت..

وسؤال (من) كما لوحظ في الانتخابات الاخيرة والسابقة، هو سؤال العشيرة والطائفة الذي ساهم في بناء السلطة لرجال الدولة العراقية الجدد.. واقول الدولة مجازا، فهي لم تتحقق حتى الان بشكلها المتعارف عليه في الادبيات السياسية بما وصلت اليه في القرن الواحد والعشرين.

وسؤال (من) هو اعطاء صك بالطاعة لمن نصوت لهم، دون النظر الى برنامج واقعي وقابل للتحقق او حتى مساءلته وعرضه للنقد والتدقيق، لان الطاعة لايمكن ان تسمح بمثل ذلك النقد او التشكيك او التدقيق.

سؤال (من) يفترض الطاعة للشخص وليس للفكرة التي يمثلها، لانه لو حدث العكس فستكون الفكرة الممثلة هي لسؤال اخر هو لماذا نطيع من نطيعهم.

الطاعة مرض عربي، كما يذهب الى ذلك الباحث المصري فؤاد زكريا في مقال له منشور في مجلة العربي في العام 1986 ، ولم يتغير شيء رغم مرور ثلاثة عقود على تشخيص هذا المرض، لانه قد تجذر في ثقافتنا العربية والاسلامية، حتى عد (فضيلة الفضائل).

فالعربي منذ عصوره الاولى، مطيع لشيخ قبيلته ولاعرافها الاجتماعية، لايمكنه الخروج عنها، وان خرج عد صعلوكا من الصعاليك، الذين كانوا يتمردون على سؤال من نطيع، ويطرحون سؤالهم المركزي في فلسفة تمردهم: لماذا نطيع؟

في الاسلام وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) برز السؤال مجددا عند من عرف في التواريخ الرسمية الاسلامية بالمرتدين، الذين تم قمعهم بعد اخراجهم من دائرة الاسلام، واعطاء المبرر لقتلهم وانتهاك اعراضهم ومصادرة اموالهم.

ليتعزز بالتالي منطق الطاعة القبلي الجاهلي، وهو المنبعث والعائد مرة اخرى، والذي حاول الاسلام القضاء عليه..

في الدولة الاموية، يتعزز مفهوم الطاعة اكثر من خلال السيف عبر انتزاع البيعة ليزيد، وكان الحسين عليه السلام في نهضته اعاد طرح السؤال المسكوت عنه، لماذا نطيع؟ متقدما على اللاحقة الاخرى: من نطيع؟ لهذا عدّ (عليه السلام) في اراء كثيرين من مدرسة السلطة السياسية الاسلامية وفقهائها قد شق (عصا الطاعة) في (عصيانه) لولي الامر..

نجد ايضا مفهوما اخر من مفاهيم التسلط قد اخذ ينحدر الى وعي المسلمين وينحدر بهم، وهو مفهوم الحق الالهي للحاكم، من خلال ان (الراد عليه هو راد على الله)، ولم يفهم اصحاب تلك المقولة، ان السلطة بما الت ووصلت اليه لدى الحاكمين، تستلزم توترا اخلاقيا ضخما لأولئك الذين يخضعون لها.. وهو توتر سينفجر أكثر من مرة وفي أكثر من مكان من خلال ثورات شيعية عديدة كما سجلها التاريخ الاسلامي، باختلاف تفسيرها تبعا للمدرسة الرسمية للتأريخ ومدرسة المعارضة.

وليس غريبا ان اغلبية المسلمين في عهد الدولة الاموية وما تلاها، كانوا يخففون من حدة هذا التوتر، بتصور ان السلطة مبررة من قبل الله..

التجربة الاوربية في قرونها الوسطى وتحت تأثير من الكنيسة وهي تطرح مفهوم الحق الالهي للملوك، تتشابه في الكثير من النواحي مع التجربة الاسلامية في موضوع السلطة، الا انها تفترق عنها بعد ذلك، حين حدث هذا التغيير التام للذهنية الاوربية في سنوات التنوير، التي اتاحت للشكوك الدينية والدنيوية ان تنمو وتتطور، مما قاد الى ان مفهوم الحق الالهي أصبح غير قابل للتصديق كلية، والمثل الاعلى للحرية، كما كتب عنه روسو (الارادة العامة) او جون لوك (عدم الاكراه)، قد نقل عبء الاثبات في مسائل الطاعة الى جانب الحكومة.

وفي نفس الوقت فان الثقة بالنفس المتصاعدة والوعي السياسي للأوربيين منح العصيان طاقات كامنة لصنع التاريخ، وهكذا فان سؤال لماذا نطيع؟ اخذ يتردد بإصرار متزايد حتى وصل الاوربيون لما وصلوا اليه عبر تطوير مفاهيم الدولة والسلطة والحكومة.

المسلمون في راهنهم ولكي يخرجوا من حالة الفوات الحضاري التي يعيشونها عليهم ان يعيدوا الاولوية لأسئلة الاصلاح والتغيير، ويجعلوا من سؤال (لماذا) هو المتقدم على بقية الاسئلة.

اضف تعليق