q

محمد الأديب

 

شكلت ظاهرة العنف التي اجتاحت العديد من بلدان العالم، مفاجأة عند بعض الناس، فكيف لمجتمع يتعايش أفراده بسلام منذ مئات السنين، أن تتحول مكوناته (الدينية والمذهبية والفكرية) إلى عصابات متقاتلة؟! وكيف لمواطن مسالم أن يصبح فئوياً ضيقاً وعدوانياً متعصباً وإقصائياً متسلطاً، وربما يكون قاتلاً أو نصيراً لقتلة؟!

في خضم انفجار العنف المجتمعي، بهذا الشكل الدموي المتوحش، وجد بعض آخر أن الذي عليه المجتمعات اليوم من كراهية وعنف (تفجيراً وذبحاً وحرقاً)، ليس أمراً طارئاً، بل هو عنف متجذر بالنفوس، وقد تفجر بتوفر الأجواء المناسبة لظهوره علناً، ما يعني أن هذه المجتمعات مأزومة قبل دخولها أزمة العنف المستشرية اليوم، فقد بدت تلك المجتمعات بحالة عنف لا يمكن أن تولد بين ليلة وضحاها.

منذ زمن، لم يكن فيه عنف كالذي يجتاح بلداننا اليوم، وإلى حين رحيله، ظل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي ولأكثر من نصف قرن، يدعو الأمة والبشرية إلى (اللاعنف) كخيار استراتيجي في الدولة والمجتمع، المعارضة والسلطة، الإعلام والثقافة، الحرب والسلم، وحقوق الأكثرية والأقليات، فيقول(قده): (نؤكد ضرورة الالتزام بسياسة السلم واللاعنف في جميع مجالات الحياة، كما أمر الله عزوجل، ورسوله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم بذلك، فإن القاعدة فيه هي السلم والسلام، والحرب استثناء).

حينها، وفي الوقت الذي كان البعض ينظر إلى كتابات الإمام الشيرازي في (اللاعنف) بأنها "ترفاً فكرياً لا حاجة للمسلمين أو غيرهم بها"، كان (قده) قد تشعب في نظريته بآفاق شملت (النظرية والتطبيق)، بل طرح ما يعد اتجاهاً شمولياً، امتد من الماضي إلى الحاضر، ويبني رؤى للمستقبل، وفي نظريته هذه أكد من خلال النصوص المقدسة كرامة الإنسان، ومعاصرة طروحاته للحاضر بكل تعقيداته السياسية واتجاهاته الفكرية المتناقضة، فالسلام واللاعنف في رؤيته مشروع يجب أن يسود كامل الحياة، بدءاً من الفرد والعائلة، مروراً بالمجتمع (أحزاب وتجمعات)، وصولاً إلى الدولة لتحقيق السلام العالمي، مبشراً - من خلال ذلك - بعالم جديد قائم على الإيمان والحرية والرفاه والسلام.

ومما كتبه (قده) في مؤلفات ومحاضرات حول السلام في الإسلام والدعوة الى نبذ العنف:

(إن السلم والسلام بمعناهما الأعم والشمولي يقتضيان الأمن والعافية، والاستقرار والازدهار، وكل ما يوجب تقدم الحياة وتطورها، ووضعها في أبعادها الصحيحة، صحية واجتماعية، واقتصادية وسياسية، وعسكرية وإعلامية، وغيرها. وهي كلمة تدخل في نفس الإنسان الاطمئنان والراحة والهدوء، وتوحي إليه بذلك. ومن الواضح أن الكل يبحث عن السلم والسلام في حياته، ويطلبه بفطرته، بل هذا ما نشاهده عند الحيوانات أيضاً، فكلها تطلب السلام. وإن للسلم والسلام في الإسلام مفهوما شموليا، يشمل العديد من الأبواب الفقهية المتعارفة من الطهارة إلى الديات، بل الأبواب الفقهية المعاصرة، كفقه السياسة، وفقه الاجتماع، وفقه الاقتصاد، وفقه الحرب، وفقه الإعلام، وفقه العولمة، وفقه القانون وغيرها).

(لقد سبق الإسلام القانون الدولي في تشريعه للظروف والأحوال التي تشرع فيها الحرب، ووضع القواعد، والمبادئ، والنظم لها، التي تخفف من شرورها وويلاتها، ولكن لا يعرف عن الغرب أنه التزم بشيء من ذلك عند التطبيق، وذلك بسبب مصالح قوى الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية لإذلال الشعوب المستضعفة واستعمار أرضها وخيراتها، وكما نرى اليوم من ازدواجية القيم والمعايير الدولية. بينما لم يذكر في التاريخ الإسلامي لاسيما في عصر النبوة وما بعده في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام انتهاكات لهذه القواعد والنظم التي وضعها الإسلام، وإن حدث شيء من ذلك في التاريخ الإسلامي، فهذا مخالف لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء يحتمل مسؤوليتها الحكام المنحرفون الذين استولوا على رقاب الناس).

وكتب أعلى الله درجاته:

(رفع الإسلام شعار السلام منذ الوهلة الأولى من نزوله، فتحيته السلام، وشعاره السلام، وآخر الصلاة السلام. فالعنف يوجب فوضى الحياة لا استقامتها. والسياسة المملوءة بالعنف والغلظة لا تؤدي إلا إلى الهزيمة. اللاعنف مبدأ إسلامي نابع من نظرة الإسلام إلى البشرية، ونابع من الرسالة المحمدية التي هي رسالة رحمةٍ للبشر، فلا تحمل أي جانبٍ من العنف والإرهاب، وفيها خطاب معقول للإنسان إذا لم يكن قادراً على الظالم باستخدام السلاح بوجهه، فالمفترض أن يقابله بسياسة اللين والصبر، إذ كانت سياسة اللين هي السلاح الذي استخدمه الأنبياء والمصلحون لمقابلة العتاة والطغاة).

(اللاعنف سمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم، والعقلاء الذين يقدمون الأهم على المهم في شتى حيثيات حياتهم. وإن الذي يتمعن في سيرة الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) العطرة ويتأمل في مواقفه الخالدة، يتجلى له كالصبح لذي عينين، أنه كان يدعو بشكلٍ حثيثٍ إلى اللاعنف والعفو والسلام، وكان يعتمد اللين، والصفح الجميل. وكذلك كانت السيرة النبوية وفاطمة البتول والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم) فكان السلام شعاراً لهم في كل شؤون حياتهم، وهذا النجاح المنقطع النظير لنبي الإسلام والأئمة عليهم السلام إنما هو لأسباب من جملتها السلام الذي يتحولون به).

لقد كتب الإمام الشيرازي تلك المؤلفات (في السلم والسلام واللاعنف)، قبل عقود، ليس فقط لترسيخ قيم المحبة والرحمة والسلام التي جاء به الإسلام ونشرها أهل البيت صلوات الله عليهم، بل كان (قده) في كتاباته تلك، محذراً من تداعيات تسرب أفكار العنف والوحشية الى نفوس الأفراد والمجتمع، وهو الذي وقع، فإن العنف بأبشع صوره يعم في بلاد عديدة، وضحاياه ملايين، ما بين مقتول أو مفقود أو جريح أو معاق أو نازح أو مشرد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اضف تعليق