q

لا يبدو الأمر هيّنا حينما يتناول أي منا، الانحطاط الاخلاقي الذي وصلت اليه الزمر الارهابية وليس الجانب المتعلّق بالسلوك الوحشي لهذه التنظيمات وحده من يقف القلم عاجزا عند وصف ما يستبطن من بشاعة، بل وهو الأهم، ما يشكله التمدد الجغرافي المعلن، او التمدد الخفي للأفكار المتطرفة من مخاطر جدية وسط عالم تكاد تختفي فيه المسافات بين جهاته الأربع بفعل وسائل التواصل والاتصال الحديثة، وبما تنطوي عليه هذه الوسائل من تقنيات ترجمة فورية تضاعف من الاثر الكارثي لعملية التفاعل السلبي بين بني البشر حيث لم يعد اختلاف اللغة عائقا في طريق أفراد هذه التنظيمات في مضمار سعيهم الجهيد لشيطنة عقول شريحة الشباب وتوظيف طاقاتها في الاتجاه المعاكس لما ينبغي ان تكون عليه.

لا جدال في ان هذه التنظيمات لم تفلح في تجنيد الملايين للعمل الارهابي، وهو بطبيعة الحال ما تتجنبه نتيجة لما يترتب على تجنيد كهذا من التزامات مادية وتبعات تنظيمية، بل ما تطمح اليه وهو الأهم لديها السعي بأقصى امكانياتها لديمومة حركة التجهيل في المجتمع وتكريس طُرق تفكير آنية مُجردة من الرحمة والأمل ومعبأة بالكراهية واليأس، تتحين الفرص لإنصاف نفسها عبر الانتقام من الآخر، دون وعي بحقيقة وجودها او ادراك لأحقية الآخر في الوجود.. والمراد بالنتيجة مقايضة دين الفرد والمجتمع بدنيا رجل الدين والسياسي الحاكم.

وهو ما يشير اليه أحد أبرز أئمة الضلال والتضليل في المنطقة المدعو الشيخ القرضاوي (مفتي الاخوان المتأسلمون)، حيث يقول بصريح العبارة :- " عندما نطلب عددا من الشباب للقتال (في سبيل الله) والتضحية بالنفس، نجد استعدادا كبيراً جداً، وعلى سبيل المثال نطلب 100 شخص يأتي أضعاف العدد، ولكن حينما نطلب منهم المساهمة في مشروع خيري او دراسة العلوم الدينية للعمل في مجال الدعوة الدينية (التكفيرية) قد يأتي اثنان أو واحد وفي معظم الأحيان لا يأتي أحد".

في حقيقة الأمر ان تصريحاً خطيرا كهذا يتطلب وقفة جادة من جميع الأطراف الدولية، ويستلزم دراسة مستفيضة أيضا، فليس الحاجة الفعلية التي يفرضها واقع بعض المجتمعات البشرية الميالة لتحديد النسل الى الاستعانة ببعضها البعض لتجديد الدماء الشابة أو لإشباع النقص في الايدي العاملة في البعض الآخر عبر فتح قنوات الهجرة تارة أو اللجوء الانساني والسياسي تارة أخرى، ليس هذا وحسب ما يمكن له أن يشكل تهديدا محتملا على الأمن العالمي فيما بعد، بل ما يجسده من خطر آني يتمثل في رواج هذه الأفكار الموبوءة وبقوة في صميم المجتمعات الإفتراضية للشبكة العنكبوتية، فضلاً عن ما يسهم به الضخ المعلوماتي التضليلي والتجهيلي المنتج للكراهية والتطرف من قبل قنوات البث الفضائي المرئي والمسموع التي أخذت على عاتقها مثل هذه المهام المشبوهة.

ليس من المبالغة بشيء، القول بأن العالم برمته كان قد اقتحم عصراً لم يكن قد أعدّ نفسه له كما يجب: أي افتقار المجتمعات للحصانة التي تمكنها من مجابهة تحديات العصر وتحفظها من الانزلاق في مجاهيل الآثار الجانبية للترياق المعرفي، ولا شك بأن الدولة بمفهومها الحديث هي الضحية الأولى المحتملة التي لن يتعدّاها الخطر أينما وجدت وإن تفاوتت فترات صمودها ما بين منطقة وأخرى.. وهو ما أدركته بعض الاطراف في المنطقة التي تناغمت مع الانحراف والتراجع القيمي أملا في قطف ثمار المأساة العالمية عبر اعداد نفسها لتجارب تاريخية استطاعت ان تحجز لنفسها موقعا عالميا فيما مضى وسط ظروف تبدو من حيث اطارها العام متشابهة الى حدّ كبير لما يجري اليوم في المنطقة والعالم..

ان الاشارة الى الدور التركي في هذا الاتجاه ليس بالأمر الجديد أو بالسبق الصحفي الذي يستحق الاشادة بجهد من يشير اليه، بل ولا يشكل مدعاة للإدانة أيضاً، طالما ان العالم يسير في هذا الاتجاه وأن الفرص التاريخية استحقاقا لمن يبصرها عن بُعد، الاّ ان حجم الأنانية التي تنطوي عليه هذه السياسة والجهد المتتالي المبذول من قبل العثمانيين الجدد لتسريع الوتائر التصاعدية للانهيارات الامنية في المنطقة والعالم، يشكل مثارا للأسف العميق بما يعكسه هذا الفعل من استغفال للإنسانية وامتطاءِ للتحالفات الدولية التي تحظى الدولة التركية بشرف عضويتها، وبما يبطنه مثل هذا السلوك المُشين من أنفاس ثأرية متجذرة في نفسية وعقلية الطبقة السياسية الراعية لهذا المشروع.

لا يمكن انكار (المُنجز) الذي حققته السياسة التركية في هذا الاتجاه وعلى الصُعد كافة، ولا مجال لتجاهل الشوط الذي قطعته في طريقها نحو بلوغ الهدف، مع ذلك كان للإحتراز الغربي سواءً التحالف الأمريكي أو حلف الناتو والمتعلّق في عدم الانجرار السريع نحو ميدان حرب العصابات الكفيلة باستنزاف الجيوش النظامية وضبط النفس العالي والتريث المسؤول الذي أبداه صناع القرار فيما يخص النزول البري الكبير في المنطقة، أثره الكبير في كبح الاندفاع التركي وتأجيل المراحل التدميرية المحتملة، اضافة الى ما نتج عن التريث من توفير الأجواء التي يتمكن معها المراقبون من فرز الأوراق التي يسعى العثمانيون الجدد لخلطها ومن ثم التتبع الدقيق لاتجاهات الخطر.

ويجدر القول هنا، بأن مع ما للحرية من قيمة انسانية عليا في حياة الشعوب، الا أن ممارسة الحرية في بيئة آمنة، هو من يشكل باعثا على ادراك تلك القيمة: أي ان سيادة القانون هو الرقعة الزمانية والمكانية التي ترسم عليها حدود الممارسة الانسانية الحرة، وهو الضمانة الأكيدة دون تحولها الى فوضى عارمة تبدد أمن المجتمعات، وتهدد حياة الانسان داخل هذه المجتمعات مع ما تكتسبه الحياة من أهمية استثنائية وموقع متقدم في سلّم الأولويات اذا ما قورنت بالحرية بمفهومها الذي نتناوله في سياق الموضوع.. وذلك للأسف، ما تتغافله السياسة التركية وتتجاوزه استخفافا في معرض تعاطيها مع حكومات ودول المنطقة، سواءً مع العراق او سوريا ولبنان، أو سياساتها المفضوحة والاستفزازية مع الحكومة المصرية برئاسة السيد عبد الفتاح السيسي، رغم أن طبيعة الأوضاع في تركيا، تجعل منها الأولى باعتماد التطبيقات التي تطلب من الآخرين مراعاتها وانتهاج مساراتها، مع ذلك فما نراه هو العكس تماما، فبالرغم من الإستقرار الأمني الذي تنعم به الدولة التركية الا أن الاجراءات التعسفية التي تستهدف حرية المواطن التركي قائمة على قدم وساق على اليد الحزب الحاكم..

ومع ان الموضوعية تقتضي ابراز دور الاعلام التركي المعارض والرافض للسياسة الاردوغانية رغم كونه يخوض النزال وحيدا في قبال الطبقة السياسية في البلاد.. ولا يمكن تفسير الغياب التام للاسناد السياسي المفترض ان يكون مرادفا للإعلام، الا بوجود اتفاق استراتيجي غير مُعلن لدى الاطراف السياسية في الدولة التركية على اختلاف توجهاتهم السياسية ومشاربهم الفكرية.. وهو ما تشي به ردود الأفعال المهادنة في معظم الأحوال والضعيفة أيضا بالمقارنة مع تاريخ التجربة الديمقراطية في تركيا الذي يجعل من اختطافها عصيا على طرف من الاطراف كالحزب الحاكم، أو على أقل تقدير ليس بالسهولة والانسيابية التي تجري بها المصادرة اليوم، والتي تثير الكثير من التساؤلات حول الموقف السياسي التركي المعارض ومدى اتساقه مع استراتيجية الحزب الحاكم والتزامه بالغايات المعلنة وحقيقة موقفه من التدخلات السافرة في شؤون دول المنطقة، بل والعابرة للقارات أيضاً.

ليس تنظيم الاخوان المسلمين وحده من يُعد فرس الرهان المُعلن للسياسة التركية، فقيادات التنظيم الاخواني الخاصة بكل بلد من بلدان المنطقة، بدءاً بالهارب المُدان طارق الهاشمي من العراق مرورا بقيادات التنظيم الاخواني السوري وليس انتهاءً بوجوه تنظيم الاخوان المنبوذ في مصر، تلقى جميعها الرعاية والاحتضان في أجنحة فنادق الدرجة الممتازة سواءا في أنقرة أو المطلة على مضيق البسفور في اسطنبول، وتحظى بالتذاكر المجانية المدفوعة الثمن من ايرادات نفط العراق وسوريا للتنقل بين الدوحة والخرطوم وأينما اقتضت الضرورة لتواجدهم، ليس هذا وحسب، فذلك ماهو مُعلن بوضوح تام، بل ما بات معلنا هو الآخر التبني المفضوح للتنظيمات الارهابية من شاكلة (داعش وأخواتها)، وقد بدا ذلك جليا في انتهاك حُرمة الاراضي السورية بذريعة نقل رفات (سليمان شاه) حفيد مؤسس الدولة العثمانية، في ظلال قوة عسكرية تركية كبيرة نفذت ما أرادت دون انتظار لإذن بالدخول من الحكومة السورية ودون اشتباك يذكر مع التنظيمات الارهابية في ذهابها الآمن نحو العمق او في ايابها الأكثر أمنا نحو الاراضي التركية، وهو ما يُعد دليلا آخر على مدى التنسيق الكامل مع هذه التنظيمات التي أراقت مواطنين دول وأحرقت مواطنين دول أخرى، وهدمت قباب الأولياء، وعبثت بأضرحة الصالحين، ونبشت قبور الأنبياء والصحابة..

وما يؤكد صحة الدليل هو رغم تهديد داعش المسبق بنسف ضريح سليمان شاه الا أن داعش أو (تنظيم الدولة/ كما يحلو للحزب التركي الحاكم تسميته)، بقي طوال الفترة المنصرمة الحارس الأمين على ضريح الشاه سليمان الذي فر مدبرا نتيجة مطاردة المغول له، ليلقى حتفه غرقا في أعالي الفرات.. ولم يكتفي الدواعش بذلك، بل توّجوا حراستهم الأمينة للضريح، بنشر السيرة الذاتية لسليمان شاه وتسويقه الى الأذهان كأحد الأبطال التاريخيين الذين قرروا الزحف نحو القدس لتحريرها من الصليبيين آنذاك لو لم يلق حتفه في (نهر الفرات) الذي أعاق المهمة.!...

ولم يقتصر هذا الوصف على الدواعش لتبرير تعاطفهم مع الضريح، انما هو (ما صرّح به نائب من نواب الحزب الحاكم لقناة الميادين) أيضا، في معرض تعليقه على الحادثة الذي لم يخلو من تأكيد على حق تركيا في اعادة دفن الرفات في الاراضي السورية مستقبلا، في الوقت الذي تقرره الحكومة التركية وفي المنطقة التي تراها مُناسبة.. ولا شك ان رفات ثمينة تختزل بين جنباتها أمجاد الماضي وأحلام المستقبل، ترقى الى ان تكون الذريعة المستقبلية لانتزاع (منطقة عازلة) من الأراضي السورية ينام فيها الشاه سليمان قرير العين محاطاً بالدواعش.

أخيرا وليس آخرا، لم يعد تغافل التهور التركي والعبث القطري ممكناً، ولا التسويق الكاريكاتوري للمشهد الداعشي مُقنعاً، فإن الظاهرة التي أشار لها مفتي الاخوان المسلمين الشيخ القرضاوي، والتي تم التطرق لها سلفا باتت تتسع بشكل قد يصعب احتوائه فيما بعد، خاصة مع الوضع الأمني المرشّح للإنهيار في اليمن نتيجة اصرار بعض دول المنطقة على وجه استهلكته الأحداث بما يستحيل معه التدوير السياسي كالرئيس المستقيل والمنتهية ولايته (عبد ربّه منصور)، وبما يمكن أن يسهم به انهيار اليمن من توسيع لدائرة الفعل الارهابي عبر توفير أرضية يجتمع عليها (تنظيم الشباب الارهابي في الصومال) مع (القاعدة وداعش في مدن اليمن الجنوبي).. ولما لذلك من آثار سلبية قد يتخذ معها تتابع وتسارع الأحداث شكلا يفوق الامكانيات المتاحة لإحتوائه..

وأما القول فيما سبق، بأن مفهوم الدولة الحديثة هو الأكثر عرضة للإختلال، لا يقتصر على ما أفرزه وما يمكن ان يفرزه الواقع الأمني الهزيل في المنطقة من صراعات دموية مجتمعية في مناطق حيوية أو ما يمكن ان يسهم به الخطاب الديني المتطرف من استقطاب لأعداد أكبر من الفئة العمرية الشابة المتفاعلة مع مثيلتها على امتداد العالم عبر العالم الافتراضي وغير المستبعد لها ان تكون جزءا من واقع مجتمع آخر غير التي هي فيه اليوم.. كلا ليس هذا وحسب، وليس احتمالية زحف الارهاب نحو ضفاف الأطلسي الأفريقية مثلما حطّ رحاله على ضفاف المتوسط في ليبيا، ومع ان زحف كهذا ليس بالأمر المُحال ورغم خطورة ما ينطوي عليه تواجد كهذا فيما لو حصل، الاّ ان ما يستدعي الالتفات اليه أيضا، هو ان النزوع نحو الجريمة أمرا لا يكاد يخلو منه مجتمع على مر الأزمنة واختلاف الأمكنة، وطبيعة العصر الذي نعيش فيه تجعل من عدوى التمرد على القانون أسرع انتقالا وأشد فتكا، وأكبر تهديدا لسيادة القانون في كل زاوية من زوايا المعمورة..

فالإنسان هو ذات الكيان الذي تتجاذبه قوى الخير من جهة وقوى الشر من جهة أخرى، ومثلما أدى تدني مستوى الوعي بشريحة الشباب في الشرق الأوسط الى توجيه طاقاتها نحو مناطق الموت والفناء، لا يُستبعد ان يشكل استمرار ذلك باعثا على تنامي العمل المافيوي وتناسل الجريمة المنظمة في أماكن أخرى من دول المنطقة أو مناطق أخرى من العالم بشكل يطرح نفسه رديفا للسلطات ان لم نقل بديلا لها، بما يشكله ذلك من تهديد خطير لمنظومة القيم الانسانية وتعريض أكيد للمنجز الفكري والحضاري البشري للضياع والفناء.. وما يدعو الى القلق هو إن حُلما امبراطوريا كالذي يدور في أذهان ساسة الحزب الحاكم في تركيا كان قد اختتم مشهد الأمس بمذابح الأرمن، لا يمكن له ان يرى النور اليوم الا على أنقاض الشريعة الابراهيمية السمحاء وأطلال الدولة المدنية.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق