q

يتمحور دور الثقافة في الأمم الرائدة حول إرشاد شرائح المجتمع نحو الصواب، ووضع خرائط طريق لها، حتى يكون بمقدورها تلمّس الطرق السليمة وهي تغذّ السير بحثا عن التجدد والاختلاف عنا سبق أو عما هو سائد، فالمغايرة هي الهدف الأسمى للثقافة، هكذا تؤكد العقول الخلاقة، لكن ثقافتنا لم تقم بهذا الدور، لأسباب سيجري الحديث عنها، فقد وصف بعض المعنيين الثقافة العراقية والعربية وبعضهم ذهب الى الأبعد فأضاف لهما الثقافة الإسلامية ليؤكدوا بأنها ثقافات صانعة للأزمات وليست مكافحة لها!.

ولكن هل ثقافتنا بالفعل منتجة للأزمات، أما أن هنالك إدّعاء في هذا التوصيف المعادي للثقافة والمثقفين؟، قبل الإجابة يستحسن أن نفهم ماهية الخطاب الثقافي، وطبيعة الدور الذي تنهض به ثقافتنا، وهل تؤدي دورها في الحراك المجتمعي والرسمي، أم أنها لا تتدخل إلا عندما يتعلق الأمر بصناعة أزمة في السياسة أو الاجتماع وسواهما، والسؤال الأهم من وجهة نظرنا يمكن أن يُصاغ بالطريقة التالية:

هل هناك أزمة تكتنف خطابنا الثقافي الراهن؟، هذا السؤال يدور في أذهان المثقفين العراقيين والمعنيين من العرب والإسلاميين حتما، بل كثيرا ما يُثار مثل هذا التساؤل في صور وصيغ عديدة، تدل من دون شك على علم المثقف بالمأزق الذي يعيشه الآن، وتؤكد معرفة المثقف بأنه لا يمتلك الخطاب المنسجم والمسؤول إزاء الأحداث الجسيمة التي تعيشها في مرحلة ما بعد التغيير التي شملت العراق والمنطقة وربما العالم، في الحقيقة لم نلحظ على مدى عقد ونصف تحركا ثقافيا يدرأ خطر الأزمات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، إنما كان حال الثقافة في أفضل الأحوال التزام الصمت والحياد، إن لم تكن صانعة للأزمات ومغذية لها.

بعض طرق التقويم والمعالجة

كما لاحظنا ذلك في تغذية الفكر المتطرف والميل الى إشعال الحرائق الفكرية هنا وهناك، ورضوخ العقل المثقف لظاهرة الابتزازي السياسي الفكري المالي، ذلك نلاحظ بزوغ فوضى في الخطاب الثقافي، وهناك تشرذم في الرؤية الى الأحداث التي ضربت المنطقة والعالم، وفي المواقف والمعالجات، هناك تناقضات كثيرة وكبيرة تحد من فاعلية الخطاب الثقافي إزاء الأحداث الجسام والمرحلة العصيبة التي نسعى كي نجتازها بسلام، على الرغم من أن نذر الشؤم والقتل والموت والصراع العصبي والقبلي والعقائدي والعرقي والفكري، كلها تلوح في الأفق، وتجعل العراقيين وكثير من المجتمعات العربية وبعض الإسلامية تعيش في حالة من القلق والخوف من المصير المجهول، ذلك أن المتغيرات والتعقيدات فاقت قدرة الثقافة على أن تكون مصدر معالجة، بل تحولت الى صانعة للأزمات من خلال التصادم الفكري في الخطاب المتشنج لاسيما التكفيري المتطرف منه.

أما عندما يحين الكلام عن سبل التقويم والمعالجة، فمن الواضح أن المؤسسة الثقافية بشقيها الرسمي والأهلي، ليست قادرة على بلورة رؤية واضحة للأحداث، كما أنها عاجزة عن بلورة خطاب ثقافي جاد ومؤثر في شرائح ومكونات المجتمع، لذلك يبدو دور المثقف معطّلا أو ضعيفا في أفضل الحالات، وهو في الغالب لا تأثير له بسبب ضعف المؤسسة الثقافية نفسها، وانشغال النخبة القيادية بالصراع على الامتيازات لاسيما بعض الجهات الثقافية التي باتت مصدر تندّر واستنكار، ليس من لدن الشعب فحسب، بل من لدن المثقفين أنفسهم، وهم يتابعون حالة الضعف والوهن التي تعتور المكون الثقافي الذي بات ضعيفا، بسبب تقاعسه وعجزه، في طرح الخطاب الثقافي الصائب وتوحيد الصوت المثقف، والتأثير في المجريات الخطيرة، وهكذا يلزم تعديل دور الثقافة والمثقف من صانع أزمة الى منتج للمعالجات وطرح الرؤى الكفيلة بإضاءة السبل أمام النخب والقيادات السياسية والاجتماعية وسواهما.

تحييد الإشكالات السياسية والاجتماعية

وعندما يُقال أن تحويل الثقافة من صانع للأزمة الى عقل يعالج الإشكالات المجتمعية والسياسية والأنساق السلوكية المختلفة، أمر يقع على عاتق النخبة الثقافية، فهذا القول لا يشوبه الخطأ، ولا غبار عليه، على الرغم من أن جميع النخب لاسيما السياسية منها، معنية بحالة النكوص الذي يعتور الخطاب الثقافي ويصيبه بالوهن والضعف إزاء ما يحدث من تدهور خطير في السياسة الثقافية أو المجتمعية وسواهما، ومن ذلك على سبيل المثال حالة الاحتقان الطائفي التي تحاول جهات معادية أن تستثمرها لصالحها، من خلال إشعال فتيل الصراع الطائفي، في حين نلاحظ غيابا غريبا لدور المثقف، وضعفا لدور المؤسسة الثقافية، وكأنها تعيش في كوكب آخر، لا يتوقف الأمر عند هذا الموقف السلبي بل قد يتعداه الى مساهمة الثقافة بصناعة أزمات تتعلق بالفكر المتطرف والتكفير وما شابه ما يجعل المكونات المجتمعية في حالة تصادم واحتدام مستدام.

لذلك هناك مشكلة لها جذور عميقة في تربة الحواضن المجتمعية، فضلا عن إشكاليات الوهن التي تصيب النسيج الثقافي نفسه، وانطلاقا من مبدأ أولوية المعالجة الذاتية قبل الخارجية، فإن الحل له علاقة مباشرة بالثقافة والمثقفين، إذ أن الخلل في عدم القدرة على بلورة رؤية وخطاب ثقافي مؤثر، لا يحتاج الى إثبات، لان الواقع اليومي الذي نعيشه يثبت ذلك ويؤكده على مدار الساعة، وهذا دليل قاطع على أن النخبة الثقافية على مستوى الانتاج الفكري وإدارته، ليس الرسمية فحسب وإنما المنظمات الثقافية الأهلية ايضا، أما لا يعرف بفن الإدارة ومهاراتها، وأما يؤمن بأنه غير معني بالتصدي للأزمات التي تعصف بمجتمعاتنا، وهكذا يتضح هذا الخلل بجلاء، ولم يبق سوى الانطلاق في رؤية قوية ثاقبة علمية ذات ثوابت صارمة تذهب في اتجاه تحويل الثقافة من منتجة للأزمات الى معالِجة لها.

وهذه مهمة المفكرين تحديدا، على أن تكون هنا إستراتيجية واضحة الملامح، تقوم على العلمية والتأني المدروس في معالجة الخلل، وانطلاقا من ذلك لابد من أن ينتج المثقفون خطابا ذا رؤية جادة وعميقة، تتعامل مع أزمة المرحلة الراهنة بجدية عالية ومسؤولة، لأن الثقافة كما يتفق الجميع، وكما أثبتت تجارب الأمم المتقدمة، هي التي تتقدم النخب الأخرى في أوقات الأزمات، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون صانعة لها.

اضف تعليق