q

من الأمور التي ميز الله تعالى بها الإنسان أنه مدني بطبعه، لا يحسن العيش لوحده، بل يشكل مع غيره من بني نوعه عناصر تتفاعل مع بعضها لتكوين مجتمع إنساني، تتجاذبه أواصر شتى، ويرتبط مع بعضه البعض بوشائج مختلفة: من العقيدة واللغة والدم والصداقة والثقافة والمهنة، وغيرها من الصلات الكثر.

وهذه العلاقات الاجتماعية التي يرتبط بها بنو البشر لا بد لها من دستور وقانون، ينظم هذه العلاقات ويوزع الأدوار، ويحدد المسؤوليات، ويرسم أطر الحقوق والواجبات على أفراد المجتمع، ليتحقق في ظل تطبيقها العدل والسلام، ويسود الخير والوئام، وينعم بالسعادة والخير. ويضمن استمرار الحياة المدنية الصالحة، ويصون الحرمات والمقدسات.

وليس خافيا على كل من ألقى السمع وأوتي نصيبا من الفهم، ما يتركه إهمال وإغفال تقنين القوانين وسنَّ الدساتير من تضييع للحقوق وتفشٍ للفوضى، وانعدام في الأمن والاستقرار، ويُضحي المجتمع في ظل تضييعها بائسا شقيا، تعشعش في جوانبه المختلفة عوامل التخلف والانهيار. وهذه حقيقةً ثابتةً في كل أدوار الزمان، وعلى كل بقعة من بقاع الأرض يعمرها بوجوده الإنسان. ومن هنا كان لا بد للمجتمع الإنساني من معرفة ما له وما عليه، وتوزيع الحقوق والواجبات بين أفراده.

وقد قدمت مدرسة أهل البيت(ع) منظومة تشريعية متكاملة تشمل الجوانب النظرية والتطبيقية، والتي من خلالها يصل الإنسان إلى مرتبة (الخليفة على الأرض)، بما صدر عنهم (ع) من أحكام وتشريعات وآداب وسنن، على المستوى القولي والفعلي. وكان للإمام زين العابدين (ع) الحظ الأوفر -في وقته- في توطيد الأسس العقائدية والأخلاقية والسياسية والحقوقية، والتي لا يزال المجتمع الإسلامي – بل الإنساني- يرفد من آثارها ومعالمها وبركاتها.

فقد اتجه الإمام زين العابدين عليه السلام ـ بعد واقعة كربلاء ـ إلى إنارة الفكر الإسلامي بشتى أنواع العلوم والمعارف، فترك للأجيال من بعده تراثاً ضخماً من الفكر والأدب والعلوم الإنسانية شيّد على أساسها من بعده أئمة أهل البيت (عليهم السلام) -لا سيّما الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام)- مدرستهم الفقهيّة والحديثيّة.

ووجد الإمام زين العابدين توجيه المجتمع نحو التسلح بالعلم والفكر والمعرفة خير وسيلة لأداء رسالته الإصلاحية، في وقت كانت الحياة العلمية شبه معدومة، حيث اقتضت مصلحة الدولة الأموية آنذاك إقصاء الوعي الثقافي في الأمة، وإركاسها في منحدر سحيق من الجهل.

ومن الإنجازات الفكرية والحقوقية التي أرسى الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) دعائمها، وعدّ بها رائدا في مجالاتها:

1) أثرى المجتمع الإسلامي، بل الفكر البشري، بكنوز العلم والحكمة عن طريق الدعاء، فحينما مُنع من إلقاء توجيهاته ودروسه عن طريق المنبر، تحول إلى المحراب ليبث علومه ومبادئه في (الصحيفة السجادية) المعروفة بزبور آل محمد، ولم تلك الأدعية للرهبانية والتصوف واعتزال المجتمع، بل هي كنوز معرفية ترسم للمجتمع الإسلامي البرامج العقائدية والأخلاقية.

2) عني الإمام زين العابدين (ع) بتنظيم الجانب الحقوقي للإنسان برفده بمنظومة نظرية من الحقوق تستجيب لنداء الانسان، وتتلاءم مع فطرته التي فطر عليها، ويتكفل تطبيقها بسعادة الانسان ورقيه إلى أعلى درجات الكمال ويأخذ بيده إلى ما فيه خيره في عاجله وآجله.

ان الجنبة الأخلاقية في القوانين المنظمة لحياة الإنسان وحقوقه هي نقطة الانقلاب التي يفترق فيها الفكر الإسلامي عن الأفكار المادية التي تتبناها الفلسفات المادية والقوانين الوضعية، ففي تلك القوانين غالبا ما تصطدم حقوق الإنسان بجدار من الأزمات الأخلاقية الناتجة من الصراع بين المصلحة العامة، التي تقتضي التنازل –ولو يسيرا– عن المنفعة الشخصية، والمنافع الذاتية التي تعتبر (الأنا) فوق كل الاعتبارات.

3) ان (رسالة الحقوق) التي نظمها الإمام زين العابدين(ع) تعدّ المنهاج الحقوقي الكامل الممثل لحقيقة الشريعة المقدسة، فقد أحاطت بشبكة علاقات الإنسان الثلاثة: مع ربِّه ونفسِه ومجتمعه. ترسم حدود العلائق والواجبات بين الإنسان وجميع ما يحيط به، وكانت الإنتاج الحضاري للإمام السجاد(ع) لمواجهة ما أصاب المجتمع من ظلم بني أمية. ناهيك عما تحمله من معارف اجتماعية وسياسية وأخلاقية، تمثل دائرة معارف إسلامية كبرى بسبب تعدد جوانبها وتنوع مضامينها، وهذا التنوع والغنى الفكري أكسب هذه الرسالة موقعاً متميزاً في التراث الإسلامي.

ان الأصل الفقهي لحقوق الإنسان الطبيعية التي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع)، هو العمومات القرآنية الدالة على تكريمه وتسخير ما في الأرض له، ومراعاة مصالح النوع الإنساني وصيانة حقوقه واحترام ذمته. ويعني هذا أنّنا في كلّ مورد من الموارد لا نجد فيه نصّاً خاصّاً أو تعبّداً خاصّاً على الاستثناء أو التخصيص أو رفع اليد عن هذه الطبيعة الأوّليّة التي هي (كرامة الإنسان) في التشريع الإسلامي، فإنّنا نعتمد على هذه القاعدة في التشريع.

وهذا الأصل قد أقره القرآن الكريم، إذ لم يخصّص المؤمنين أو المسلمين بهذا التكريم، بل قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ). وهكذا ورد في تعبير الإمام عليّ (عليه السلام): «إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، وقول الإمام الحسين (عليه السلام): «إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم».

نأمل من المهتمين بالشأن الحقوقي النظر بعين الاهتمام لرسالة الحقوق.

* باحث ومدرس في الحوزة العليمة في النجف الاشرف

اضف تعليق