q

لكل بيتٍ عمود يرتكزُ عليه، فيُقال له (عمود البيت)، وكذا بالنسبة للدولة، يوجد لها عمود أيضا، وعمودها الذي يسندها من السقوط هو الدستور، على أن تؤخَذ في الحسبان عدة اشتراطات، أولها أن يكون الدستور مكتوب بيد الشعب أي بقلم وفكر وعقل من يمثله بصورة حقيقية وليست شكلية، والثاني أن يُستفتى الشعب على ما يرد في الدستور من فقرات وبنود، والثالث أن يتم العمل بالدستور حرفيا وبلا تجاوزات أو محاباة، وأخيرا تنطبق صفة مدنية الدولة عليها بقدر التزامها هي والمجتمع بالدستور من حيث التطبيق الدقيق.

وقد ظهرت بعض التوصيفات المهمة لوثيقة الدستور، فقيل عنه بأنه وثيقة موضوعة، تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على أن تستمد شرعيتها من الشعب، لكي يتجسد مبدأ حكم الشعب لنفسه فعليا كما عرفه أرسطو قبل مئات السنين، إذ يستدعي هذا المبدأ التزاما كليا وحرفيا بمضامين وفقرات وبنود الدستور، من لدن القادة السياسيين بمختلف مناصبهم ومسؤولياتهم، فضلا عن أهمية التزام المجتمع نفسه بما يفترضه الدستور من خطوات تنظيمية مدنية.

في السابق كانت الأنظمة السياسية في العراق عسكرية فردية، لا ترغب بتثبيت دستور دائم واضح البنود لأنه يحد من سلطتها، ويسحب البساط منها، فلا يمكنها تحقيق مصالحها على حساب الشعب، من هنا فإن المشكلة المستعصية التي كان يعاني منها العراق عبر الحكومات التي تعاقبت على حكمه، تتمثل بغياب الدستور الأصيل وحلول الدستور البديل أو المؤقت، ليفصل بين الحاكم والمحكوم، فغالبا ما كان قادة العراق يحتكمون الى دستور مؤقت، يضعونه بأنفسهم، حيث يكتبه أشخاص تابعون لتلك الأنظمة، وفقا لتصورات القادة ومصالحهم التي تصب في حماية عرش السلطة أولا وأخيرا، لهذا كان الشعب العراقي معرضا لحالات انتهاك الحقوق والحريات، من دون أن يجد مجيرا أو شفيعا له في الدستور أو في غيره، إذ كانت أمزجة الحكومات وقادتها تتحكم ببنود الدستور المؤقت كيفما تتطلب مصالحها، فتحذف منه وتضيف له ما ترغب وما يصب في صالحها، حتى لو أدى ذلك الى إلحاق أبلغ الأضرار بالمجتمع، وربما يجعل الدولة برمتها على حافة الانهيار.

الاستيلاء على السلطة بالقوة

حدثت هذه التجاوزات على الدستور أبان الأنظمة التي استولت على السلطة بالقوة، عبر الانقلابات العسكرية وما شابه، لذلك لم يذق العراقيون نعمة الدستور الدائم الذي ينظم حقوقهم وشؤونهم، ولذل استبشروا بعد نيسان 2003 خيرا بكتابة بنود دستورهم الدائم، وظهرت علامات تشير الى القضاء على مشكلة الدستور المؤقت، وصار الجميع يأملون ببداية عهد دستوري جديد، يستند الى وثيقة دستورية شاملة ودائمة، تنظم شؤون السياسة والحياة عموما بين الشعب العراقي وحكومته، وكان الأمل يحدو الجميع بجعل الدستور العراقي الدائم، صاحب الكلمة الفصل في معالجة وتنظيم شؤون العراقيين، والنظر إليه كمعيار دقيق، لحل جميع المشكلات والاختلافات التي قد تحدث بين هذه الأطراف أو تلك، فهل أخذ الدستور العراقي دوره فعليا في الإسهام ببناء الدولة التي كنا نحلم بها.

وبعد الانتهاء من كتابة مسودة الدستور ونشره في وسائل الإعلام، ومن ثم عرضه على الشعب لكي يستفتي عليه، ولأن التجربة جديدة على العراقيين وكانوا في تعطش لدستور دائم ينصفهم ويعوضهم عن مراحل الاستبداد والخلل السياسي المزمن، فقد أعلن الشعب موافقته في الاستفتاء المعروف على الدستور الجديد.

وبعد أن تمت موافقة الشعب ونظرا لهذه الموافقة التي تبدو متسرعة بسبب حداثتها، ولكن تم وصف الدستور بالدائم، فقد أصبح الأخير ذا شرعية لا يجوز المساس بها، وعلى جميع مكونات الشعب العراقي وقادته السياسيين احترام هذه الشرعية، والاحتكام الى هذا المعيار الدقيق، ولكن لو أننا سألنا المعنيين، بل حتى بسطاء الناس من الشعب، هل التزم السياسيون وقادة العراق بمختلف مكوناته ببنود الدستور العراقي الدائم، لحل الخلافات القائمة والعالقة بينهم؟ وهل أزيحت العقبة الكأداء فعلا من أجل بناء الدولة كما ينبغي، وهل قضينا على المشكلة المتمثلة بإشكالية الدستور المؤقت؟.

ماذا يأمل العراقيون من قادتهم؟

في الحقيقة كان العراقيون يأملون بذلك كثيرا، لذلك فإن الإجابة عن السؤال أعلاه يمكن أخذها من الوقائع التي حدثت أمام الأبصار والبصائر، حيث الجميع يتحدث عن ضرورة الاحتكام الى مضامين الدستور العراقي الدائم، وحل جميع المشكلات استنادا إليه، لاسيما السياسيون، مختلفون أو أصدقاء، حيث يعلن الجميع عبر الفضائيات والبيانات المتواترة، عن تمسكهم بالدستور وبنوده واللجوء إليه لحل المشكلات العالقة، ولكننا يمكن أن نؤشر بوضوح، تفوّق الكلام والتصريحات والبيانات على التنفيذ الفعلي، فمن كتب الدستور بنفسه ووفقا لتصوراته ثم وافق عليه، نجده يتهرَّب أحيانا من الالتزام به، كما أن كثيرين يتهرب من قضية مهمة تتعلق بإمكانية تعديل بعض مضامين هذا الدستور بما يتوافق ومصلحة الدولة والمجتمع.

ولعله من المفارقات الغريبة أن تستجد مشكلات أخرى بسبب الدستور الجديد الذي كان يُنظر إليه كمنقذ ومعوض للشعب، لكن للأسف أن معظم قادة العراق، ونعني بهم قادة الكتل السياسية والأحزاب، والشخصيات المستقلة صاروا يحملون الدستور كسلاح يوجهونه بعضهم ضد البعض الآخر، فبعضهم يُظهر نفسه على أنه متمسك بالدستور، وملتزم به، ولا يمكن أن يتجاوزه، لدرجة عالية من الضبابية، تختلط فيها الأوراق، وتضيع معها الحدود، وتتداخل فيها الأمور مع بعضها، والبعض الآخر يعارضهم في ذلك، وهكذا يبقى العراقيون في حيرة من أمرهم، وهم يتابعون الإشكالات العالقة والمستجدة بين السياسيين الذين يعلنون تمسكهم بالدستور، من دون العمل بهذا القول بصدق وإخلاص، لذا بات المواطن العراقي يلحّ في معرفة الفائدة الفعلية التي جناها من دستوره الدائم والبديل عن الدستور المؤقت، خصوصا أن المشكلات السياسية والاقتصادية تضاعف أكثر فأكثر، حتى أن التفكير في بناء دولة مدنية صار في غياهب المجهول بسبب عدم احترام الدستور.

لهذا السبب بدأ المواطن العراقي لاسيما العارف بالدستور ومضامينه يتساءل: متى تكون الكلمة الفصل للدستور؟ ففي الوقت الذي يطلب فيه القادة السياسيون من الجميع، ضرورة التمسك بوثيقة الدستور كحل ناجع لجميع المشكلات التي يواجهها العراق، نلاحظ أنهم هم أول من يخرق هذا التوجيه السليم، ولا يلتزمون به، فكيف بالآخرين؟! لذلك هناك انتظار شبه عام من كل العراقيين لإجابة واضحة من قادتهم، حول هذه القضية التي تدخل في صميم حياتهم.

بالنتيجة، لابد أن تكون هنالك رؤية دقيقة يمكنها استعادة ما ينبغي استعادته من النواقص وملء الثغرات التي فرضت نفسها في أماكن عديدة من الدستور، ومعالجتها بروح جماعية وطنية هدفها بناء الدولة التي ينبغي أن تتقدم مصلحتها على المصالح الفردية والحزبية وسواها، مثل هذه الرؤية الجمعية ليست مستحيلة، بل ينبغي توافر الإرادة السياسية الجماعية لمعالجة هذا الخلل الواضح ووضع النقاط على الحروف بدقة وتفاهم وسلام وانسجام.

اضف تعليق