q

بعيداً عن اجواء ساحة الحرب الساخنة التي تخيم على بلادنا، حيث الذبح والاختطاف والنسف والتدمير في حروب اهلية، من جهة، والسياسات القمعية والارهاب الحكومي المنظم من جهة اخرى، هنالك ساحة حرب صامتة لا تقل خطورة عن السابقة، إن لم نقل أنها تمثل التأسيس الفكري والثقافي لمجمل التحركات والمواقف والسلوكيات.

فالشعوب التي انتفضت ضد الديكتاتورية والكبت والحرمان، سواءً فيما مضى من الزمن، او في الفترة الراهنة تحت مسمّى "الربيع العربي"، لم تطالب بـ"دولة الخلافة الاسلامية"، إنما بالدولة المدنية العادلة التي توفر لهم قدراً من العيش الكريم وتنصفهم في حقوقهم. وبعيداً عن عوامل تشكّل التنظيمات الارهابية والدموية، ومن هي الدول التي وقفت - وما تزال- ورائها، فان الشعوب هي التي تدفع ثمن التغيير والاصلاح الذي كافحت وناضلت من اجله، وهي مسألة بحد ذاتها مدعاة للتأمل حقاً. فقد قيل سابقاً أن الثورات تأكل ابنائها، واليوم نشاهد بأمّ أعيننا أن الثورات تأكل شعوبها.

فالشعوب التي كانت تأمل في تغيير سياسي –اجتماعي، اضحت اليوم مهددة ليس فقط في كرامتها وحريتها ولقمة عيشها، وإنما في هويتها الدينية والحضارية، والنتيجة ان تقف اليوم أمام خيارين أحلاهما مُر: إما التطرف الديني والانتصار للجماعات الارهابية، او في اقل التقادير السكوت عنها، وإما التخلّي كاملة عن الدين والتخلص من داء التطرف بعملية جراحية قاسية مع غير قليل من النزف والخسارة المريعة، وهذا ما تتابعه وسائل الاعلام حالياً وتروج له تحت عنوان "انتشار الالحاد" في البلاد العربية والاسلامية.

المناصرة للجماعات الارهابية شهدناها في العراق بشكل واضح، حيث الاحتضان وتقديم كل اشكال العون والمساعدة في بعض المناطق لأسباب طائفية وسياسية، فيما شهدنا الصمت والرضى والتفرّج إزاء هذه الجماعات، من دول عربية واسلامية وحتى من الجاليات الاسلامية في عديد دول العالم، وفي مرحلة لاحقة، تصدير الانتحاريين الى بلادنا وتحديداً العراق وسوريا. وعندما نفتقد للنموذج الصحيح والمتكامل للاسلام، من الطبيعي ان يهرب البعض من التطرف وتهمة الارهاب والفشل الذريع لبعض "الدول الاسلامية" في تقديم الصورة الحسنة للاسلام، ويلجأ الى الافكار الالحادية والمادية والعلمانية.

وقد ظهرت بوادر عديدة لظاهرة "التهرّب من الدين" في بعض بلادنا، وتحديداً مصر والسعودية اللتين تمثلان القاعدة المشتركة لانطلاق الفكر التكفيري ومن ثم تشكّل جماعات الموت المنظّم تحت مسمّيات دينية. بيد أن الحديث عن خطورة هذه الظاهرة كان قليلاً، كما لو أن الامر إفراز طبيعي لا يدعو الى الاستغراب. وكان آخر تحذير صدر مؤخراً من دار الإفتاء المصرية، حيث نشر تقريراً اشار فيه الى تنامي ظاهرة الإلحاد والعلمنة في عدد من الدول الإسلامية.

وحسب تقرير اصدره مرصد الفتاوى التكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية، فان متابعته لتصريحات عدد من الملحدين الشباب الذين جاهروا بإلحادهم، أظهر "أنهم لا يعارضون الدين ولكنهم يرفضون استخدامه كنظام سياسي، داعين الى فصل الدين عن الدولة، في حين رفض فريق آخر منهم الدين بصفة إجمالية، فيما ترك فريق ثالث الاسلام الى ديانات اخرى".

من جانبه استند مفتي الجمهورية المصرية ابراهيم نجم، الى احصائية مركز "ري دسي" الاميركي التابع لمعهد "غلوبال"، حول مؤشر الإلحاد في العالم، حيث جاء أن الظاهرة موجودة في مصر والسعودية والعراق وسوريا والمغرب والاردن وتونس والسودان واليمن وليبيا. وكانت الرقم الأكبر في مصر حيث سجل المركز (866) ملحداً، تليها المغرب (325) وتونس (320) ملحداً، ورغم أن الارقام ليست دقيقة، إلا انها تظهر – في كل الاحوال- تنامي وانتشار ظاهرة التهرّب من الدين بشكل عام من البلاد الاسلامية، بسبب انتشار الفكر الظلامي والتكفيري العنيف.

ولكن؛ هل هذا كل شيء...؟! وهل أن قدر المسلمين، تشويه هويتهم وحتى تضييعها بهذه الطريقة، وبكل بساطة؟ الحل الثالث المغيّب يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "نحو نهضة اسلامية" حيث يطرح حلاً عملياً يشترط وجود الهمّة والارادة والشجاعة ايضاً، لان ربما يتقاطع مع مصالح معينة وقوالب جاهزة تكتسي نوعاً من القدسية، مثل الانتماءات الاثنية والاتجاهات الفكرية وبعض التصورات والقناعات.

ويدعونا سماحته الى التزام الطريقة الخاصة بالتفكير إسلامياً... إذ ان " للإسلام لون خاص من التفكير بالنسبة إلى الحياة والكون، والمبدأ والمعاد، والعائلة والاسرة، والقيم والمقاييس، والسلوك والأخلاق وغيرها، فاللازم إعادة هذا اللون من التفكير إلى الحياة. فمثلاً "العفو" و"احترام الإنسان" و"صلة الرحم" و"حرية الإنسان في كل شؤونه" و"جزاء الإنسان بما عمل" هي من الأوليات الإسلامية، نابعة من: قوله تعالى: {خذ العفو}، والآية الكريمة: {اتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام}، والحديث الشريف: "ليرحم كبيركم صغيركم وليوقر صغيركم كبيركم"، و"الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم" إلى غيرها وغيرها....". بمعنى أن قاعدة التفكير (الفكر) يجب ان تكون لصيقة بالمبادئ والقيم وليس بالتصورات الذهنية والتجارب والاستنتاجات القائمة على متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية. ويؤكد سماحته المعادلة القائمة حالياً؛ وهي ان فقدان القاعدة الصحيحة للفكر الاسلامي أسفر عن ظهور "القوانين الوضعية الكابتة للإنسان، فمثلاً تقييد الاقتصاد بالإقليمية والقومية، وتقييد الإنسان بالأقطار بواسطة الهويات وما أشبه، مما يمثل انهزاماً عن قاعدة "الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم"، وغيرها من القواعد الإسلامية".

هنا يأتي السؤال المحوري؛ ما هو السبيل الى صياغة هذا الفكر؟

سماحة الامام الشيرازي يطرح عدة خطوات في هذا الطريق، وإن كان البعض يعدها على مسافة عن واقع الناس الذين يعيشون على صفيح ساخن، بيد أن الافكار المغلوطة هي التي دفعتهم الى هذا المآل والواقع المأساوي.

أولاً: الاهتمام بالنتاج الفكري والثقافي والعلمي والعمل على إعادة طبعه ونشره، فهو – قدس سره- يشير الى وجود مخطوطات عديدة "تبعثر تفي مختلف بلاد العالم، وفيها من التفسير والاعتقاد، والفقه والأخلاق وسائر العلوم الدينية والدنيوية الشيء الهائل، فاللازم أن تكوّن لجنة مهمتها جمع التراث الإسلامي وطبعه...".

الشيء المهم الذي نستخلصه من هذه الخطوة، الوصول الى جوهر الافكار والعلوم التي كان لها الفضل في تشييد مجتمعات ناجحة بعيدة عن الازمات الفكرية والسياسية. وتكون النموذج الأصح أمام بعض النتاجات – ونقول بعض- الموجودة التي تسببت في تشويش الاذهان وإثارة الاستفهامات واللغط، مما يؤدي الى رسم صورة مغايرة عن الاسلام وما يدعو اليه في الحياة.

ثانياً: الاهتمام بحل جميع الاستفهامات والاجابة على كل الاسئلة عن الانسان والمجتمع والعلوم والمعارف، وكل ما يتعلق بالحياة والكون والوجود. بل ان سماحته يدعو الى تأليف كتاب خاص يتناول "فلسفة الأحكام"، بما يبين للناس الاسباب الكامنة وراء تشريع الحجاب للمرأة -مثلاً- او حرمة الربا في التعاملات وغيرها.

هذا الكتاب من شأنه ان يطابق بين الاكتشافات العلمية وبين الاحكام والتشريعات الواردة في مختلف شؤون الحياة، وتبين الحكمة والفائدة المادية الملموسة لعديد التشريعات وحتى الوصايا الاخلاقية المتعلقة بالسلوك والعادات، والنتيجة؛ تعزيز روح الثقة في النفس وايجاد حالة الفخر والاعتزاز بالهوية والانتماء. لذا يصف سماحة الامام الراحل هكذا كتاب بانه "نصر كبير لصالح الإيمان...".

الثالث: الندوات والمؤتمرات التخصصية مثل مؤتمر خاص بالمفكرين والمثقفين، وآخر لأصحاب المؤسسات الدينية وندوات للكتاب والصحفيين ومؤتمرات للخطباء وغيرها. وهذا لا يكون منحصراً في بلد معين، إنما يتخذ طابعاً دولياً في اطار العالم الاسلامي، عندئذ يكون بالامكان بلورة رؤى وافكار كبيرة تجمع المختلفين على قواسم مشتركة ثم رسم صورة مناسبة ومقبولة للاسلام امام العالم. كأن يكون الحديث عن حرية الرأي وحقوق المرأة والطفل والتعايش وغيرها. وهذا ليس بالامر المستحيل او المثالي، اذا توفرت هنالك الارادة المستقلة والحرص الحقيقي على مصير الامة والشعور بالمسؤولية في خضم المواجهة الحضارية المحتدمة، والوقوف بوجه المحاولات الرامية لرسم صور نمطية بعيدة كل البعد عن روح الاسلام.

اضف تعليق