q

في ظل الهيمنة المادية لعصرنا هذا، يغدو الحديث عن ضرورات التثقيف الروحي ضربا من الرخاء المذموم، فالثقافة الروحية لا تنتمي الى مطامح البشر وهم يتراكضون بأقصى ما يمكنهم لجمع أكبر كمية من المال، لأن هذا العصر كما يردد الإنسان الحالي هو عصر المال، ولا مجال للتأمّل والتوقّف للحظة، كي تعاين البشرية حاجاتها الروحية التي تشكل جناحا ثانياً مع الجناح المادي، لمواصلة رحلة الصمود والصعود البشري الى قمة المطامح بحسب خبراء النفس والعلم السياسي.

ومما يزيد الطين بلّة أن الفقر الروحي لم يكتفِ بترك ساحة التفاعل والسعي لموازنة المادي، وإنما بدأ الأمر يتغلغل في عالم السياسة الثقافية وسواها، والهدف يتم في ضوء مفهوم التسميم السياسي، والذي يرى فيه علماء مختصون أنه ينمّ عن حملة شاملة تستخدم كل الأجهزة والأدوات المتاحة للتأثير في نفسيات وعقول وذاكرة الجماعة أو الأمة أو الشعب المحدد؛ وذلك بقصد تغيير أو تدمير مواقف معينة، وإحلال مواقف أخرى محلها تؤدي إلى سلوك يتفق مع مصالح وأهداف الطرف الذي يقوم بعملية التسميم السياسي، وغالبًا ما تكون هذه العملية موجهة إلى أمة أو مجتمع أو سلطة أخرى عادة ما تكون معادية، بحسب ما أورده د.حامد عبد الماجد وهو يضع ديباجة أكثر وضوحا لهذا المفهوم المستجد.

وإذا كان الشره المادي يهيمن على حواس الإنسان، ويمسك بتلابيبه، ولا يسمح له برؤية الوجه الآخر للحياة، فإن التسميم السياسي يتعقَّب عقلية الإنسان ونفسيته وليس جسده في محاولة للتأثير بثوابته ومنهج تفكيره، ويمثل التسميم السياسي جزء لا يتجزأ من مفهوم الحرب الشاملة، وقد تتم ممارسته قبلها، وفي أثنائها، وفي أعقابها، وغالبًا لا يتم إدراك مدى نجاحه أو إخفاقه إلا بعد سنوات، وعلى العموم يدخل الغزو الثقافي او الفكري في هذا المضمار، ليبقى المطلوب تحجيم الحضور الروحي، حتى تبقى سطوة المادة ذات فاعلية تقصي الثقافة الروحي وتضرب عليها طوقا من العزلة تحد من وجودها كعامل موازن لحركة البشرية وتطورها.

إن عزل الثقافة الروحية، يمكن أن يتم بوسائل أخرى، بيد أن التسميم السياسي يسرّع من بلوغ المسعى، على أن ينهض هذا (السمّ الفكري الثقافي)، على مقومات ذات طبيعة ثقافية سياسية مزدوجة، حيث تشمل تلك المقومات الهادفة لتحريك وإدامة عملية التسميم السياسي بضعة خطوات بحسب الكاتب نفسه، منها أن التوجه في الخطاب الفكري يسعى الى شل القاعدة الفكرية للآخر، فالدعاية هنا لا تسعى إلى الإقناع أو الاقتناع، بل تستهدف القضاء على الخصم وشلِّ قدراته الفكرية والمعنوية.

وفي الرؤية المتفحصة تلوح مساعي التسميم السياسي فتمضي الى تحطيم إيمان الخصم بعقيدته السياسية أو الدينية، أو بعدالة ومشروعية القضية التي يدافع عنها. مع العمل على تحطيم التماسك النفسي والإدراكي والعقلي للخصم، وتمزيق مكونات شخصيته القومية والدينية. وكذلك استغلال النجاحات التي يصل إليها الطرف المهاجم والقائم بعملية التسميم السياسي كوسيلة لإضعاف ثقة الطرف الآخر بنفسه وعقيدته، ويصل الكاتب نفسه الى أن جوهر عملية التسميم السياسي يراد بها التأثير على العقول والأفئدة عن طريق التلاعب بعناصر التكوين المعنوي، الأمر الذي يمثل قمة التوجيه السياسي أو المعنوي للخصم.

بعد هذا التقديم المسهب، تلوح أسئلة هامة لا مندوحة من التصدي لها، وليس هناك مفر من إشباعها والإجابة عنها بتأن، من هذه الأسئلة، هل صحيح لا يحتاج إنسان العصر الحاضر الى الثقافة الروحية، وهل عليه أن ينغمر بصورة كليّة في المادة، لدرجة يهمل معها أي نسبة من الانشغال بالثقافة الروحية؟، ثم ألا يعني ذلك محاصرة وعبث متعمَّد بثقافة الروح، وتدمير أركان الإيمان الذي يحتاجه البشر حتى في تدبير شؤونهم المادية وتطوير حياتهم المدنية، فالتطور المدني بحسب مختصين لا يستقيم له وجود بعيدا عن ثقافة الروح.

ثمَّ نماذج في مرمى البصيرة، وضعت انشغالها الأكبر بالمادة، وتطوير العمران، وتلميع الشكل، والبهرجة والأضواء البراقة، لكن حين البحث عن الروح نجدها مقصيّة، ملغاة، معزولة، مع الإشعار بأنها غير مرغوب بها ولا حاجة للتطور المادي بها، ذاك هو الجهل بعينه، تماما مثل صاحب العقل المغرم بملمح القشور، غير مدرك لما في الأجواف والصدور، يبقى شغوفا بلمعة كاذبة، وطلاء لا يكشف عن العمق، وما أجهل الإنسان حين يكون خارجه ملمَّعا وداخله مظلما، هو ذا حال العمران المادي الخالي من الروح والعمق، وهو نفسه حال الإنسان الذي يلبس أثمن البذلات والقمصان وأربطة العنق، لكنه يُصاب بالخرس أمام سؤال يجيب عنه طفل مثقف ثقافة روحية تضاهي ثقافته المادية.

مثل هذه النماذج تعج بها مدن الثراء المادي، تلك التي تقصي ثقافة الروح، وتناصبها العداء، حيث يذهب أصحابها الى تجميد الروح بأساليب مبتكرة، في وقت يثور الاهتمام بالسطحية المتضخمة، فلا فكر، ولا ثراء معرفي، حتى الثقافة المادية عرجاء لا تقدر تصمد حيال اشتراطات العصر، تحت استهداف عولمي يمور ليل نهار عبر التسميم السياسي، لعزل الروحي المعنوي، والإفصاح عن رغائب مشوهة، ذات غائية لا أدلة على نقائها، مع استخدام مادي مريض لآليات العصر، حتى تبقى الثقافة الروحية في أجواء الاعتكاف، فتسود القشور وتضمحل أصالة الحضور.

في الخلاصة، تعيش البشرية اليوم محنتها الأكثر إيلاماً، فالكل يمضي وراء البذخ المادي في بهرجة لا مثيل لها، تتكدس المليارات لدى أفراد، ويضرب الجوع أطنابه في موجات هائلة تفتك بالعالم المحروم، امرأة تغادر الحياة لتترك إرثا يبلغ مليارات الدولارات الى كلبها، يحدث هذا في الغرب المادي، وملايين البشر ينقضّ عليهم الضنك بأنيابه في أفريقيا مثالا، فالغرب أقصى الروح في غياهب العزلة، وصمم ماكنة التسميم السياسي المعولمة كي تقوم بواجب تدمير المعنويات للآخر، وتحطم أسس الإيمان، وتسحق الثقافة الروحية فيهم، حتى يكون الطريق سانحا ومفتوحا للمادية ورعاتها، على حساب الثقافة الروحية التي تعيش اليوم خلف قضبان العزلة.

اضف تعليق