q

يصوت الكاثوليك المتدينون في فرنسا، الذين تتناقص أعدادهم شيئا فشيئا، عادة لصالح اليمين. اليوم لم يعد جزء كبير منهم يخفي رغبته بالتصويت لصالح مرشحي اليمين المتطرف. وهو أمر يمكن ملاحظته بين الكاثوليك المتدينين في ليبورن.

في ساحة القديس يوحنا في وسط مدينة ليبورن الفرنسية، يوم الخميس 30 آذار/مارس، كانت الشمس تضيء كنيسة القديس يوحنا المعمدان، وهي بناء ملفت للأنظار مشيد على الطراز القوطي يمكن أن يستوعب ما لا يقل عن ألف مصل. على مسافة بضعة خطوات من هذه الكنيسة يدير فرانسوا (52 عاما) وآن ليز (54 عاما)، شركة صغيرة للمعلوماتية في الطابق الأول من منزلهما البرجوازي. وما يميز شركتهم الصغيرة أن العاملين الستة فيها يعرفون أنفسهم على أنهم "كاثوليك ملتزمون"، "إنه محض صدفة أكثر منه معيار للتوظيف"، كما يدافع صاحب الشركة عن نفسه بعفوية.

يلتقي الموظفون يوميا عند الظهيرة في الطابق الأرضي لتناول وجبة الغداء، يوم لقائنا بهم، قبل الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية بثلاثة أسابيع، تجمع فرانسوا وآن ليز وشريكهم في العمل، غاسبار (35 عاما)، ليقتسموا غداءهم كعادتهم، وأخذوا وقتهم لتلاوة صلاة شكر الرب على النعمة قبل الأكل. "المسيح هو حياتي"، أكد فرانسوا بتلقائية. هؤلاء المتدينون الملتزمون الثلاثة ينتمون لـ1,8٪ من الفرنسيين الذين يرتادون قداس الأحد أسبوعيا. "مع ذلك لا أضع الديانة في واجهة علاقاتي المهنية أو الشخصية، أحاول ألا أؤذي الناس الذين أتعامل معهم" يوضح فرانسوا صاحب المؤسسة.

"في السياسة، يجب على المرشحين للرئاسة أن يفعلوا الشيء ذاته" وألا يستخدموا الدين، حسبما يؤكد غاسبار الذي لا يحب المزج بين الدين والسياسة. "على المرشح ألا يتدخل في المسائل المتعلقة بالحياة الشخصية" ذاكرا آية من الإنجيل لتبرير الفصل بين السلطات الزمنية والدينية "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وبرأيه فإن على الساعين للإليزيه أن يركزوا فقط على "الإدارة الاقتصادية للبلاد"، "أما أولئك الذين يريدون المساس بقانون الرحم البديل والموت الرحيم وحرية المعتقد فقد أخطأوا الطريق إلينا، نحن الكاثوليك".

كما يعتبر غاسبار الأب لطفلين، أن اختيار المرشح تحكمه مسألة التوظيف. "دون وظيفة، العائلة يمكن أن تفقد توازنها" علق الرجل الذي يرى "أن العائلة تمثل أساس المجتمع"، يوم 23 نيسان/أبريل سيصوت لفرانسوا فيون "المرشح الذي يقدم سياسة التشغيل الأكثر واقعية". "يجب أن يكون للمؤسسات القدرة على التوظيف. لكن ما يحدث هو أن المؤسسة كلما نمت أثقلت بالتكاليف".

وهو نفس رأي زميلته آن ليز، التي تأسف لعدم وجود المرونة الكافية لإقالة الموظفين اليوم، رغم أن شركتها تشهد نشاطا عاليا في العمل والإنتاج عدة مرات في السنة. هؤلاء الشركاء يأملون بأن يظلوا قادرين على البقاء أندادا ومنافسين لنظرائهم الأوروبيين، لذلك فإنهم يعتمدون على وعود فرانسوا فيون الذي تعهد بتخفيض الرسوم على أرباب العمل في الشركات الصغيرة والمتوسطة وتخفيف قواعد حماية الموظفين، وبشكل خاص في حال تسريح العمال لأسباب اقتصادية.

أما فرانسوا، فلن يصوت، لأن هذا الألماني الذي يعيش في فرنسا منذ 25 عاما لا يريد أن يطلب الجنسية الفرنسية، لكن لو كان بإمكانه لصوت كذلك لفرانسوا فيون، لأنه "لا يرغب أبدا في أن تخرج فرنسا من الاتحاد الأوروبي لأي سبب كان" كما تعد مارين لوبان، التي "يخيفه ترشحها جديا".

"الرأي الكاثوليكي يفرض نفسه"

أبناء رعية ليبورن الثلاثة الذين شاركوا في حراك "التظاهر للجميع" العام 2012، ينتمون للتقليد الكاثوليكي للتصويت. فوفق استطلاع قام به المعهد الفرنسي للرأي العام، لصالح الأسبوعية الفرنسية "العائلة المسيحية" في عدد صدر في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، فإن 50٪ من الكاثوليك الملتزمين، يقولون إنهم سيصوتون لمرشح "الجمهوريون" منذ الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. لكن حسب مؤسس المركز المعاصر للدراسات الدينية المؤرخ جان-لوك بوتييه فقد اضطر القائمون على هذا الاستطلاع إلى "توسيع دائرة المعايير المتبعة لانتقاء المستطلعة آراؤهم لتشمل المؤمنين غير الملتزمين دينيا، وذلك ليتمكنوا من الحصول على عينة معيارية كبيرة بما يكفي لتكون قابلة للدراسة". وفي حقيقة الأمر فإن 17% فقط من المستطلعة آراؤهم قالوا إنهم مؤمنون ملتزمون بالممارسات الدينية.

هل كان فرانسوا فيون على صواب عندما تبنى "المسيحية" لجلب أصوات هذه الفئة من المواطنين؟ "ليست هذه المرة الأولى التي يدعي فيها مرشح المذهب الكاثوليكي"، أشار جان-لوك بوتييه. "ولكن ما تغير هو أن هؤلاء الناخبين يقل عددهم يوما بعد يوم، كما أنهم صاروا أكثر جرأة لأن حركة ’التظاهر للجميع‘ سمحت لهم بأن يسمعوا صوتهم خلال تحركهم في عام 2012 من خلال مجموعات مثل ’سانس كومان‘ (الحس المشترك)، وأصبح الرأي الكاثوليكي أكثر حزما وحضورا".

فهل يعني هذا أن أصوات المسيحيين ستظل وفية لفيون في السراء والضراء؟ يبدو أن توجيه الاتهام لفيون وزوجته لم يشكك في اختياراتهم. فغاسبار الذي يبدو أنه قد سئم من قضايا الفساد السياسي، اعترف أنه سيصوت "للأقل سوءا"، تنهد قائلا "نعرف منذ زمن أن السياسيين ليسوا نماذج يحتذى بها، قضية جديدة لن تغير شيئا..." وأضاف "فهو يبقى المرشح الوحيد الذي يتحلى بأفضل موقف دبلوماسي تجاه روسيا والولايات المتحدة".

شرق كنيسة القديس يوحنا المعمدان في "شارع الكاثوليك" كما يسميه بعض المؤمنين، تجمع ثلاثة أزواج من الأصدقاء في بيت ألكسندر (39 عاما) وسوزان (40 عاما) حيث علقت في كل غرفة باعتزاز أيقونة للمسيح، وعلى الثلاجة علق مغناطيس عليه صورة البابا يوحنا بولس الثاني. "وسائل الإعلام تعتبرنا متشددين، نحن لسنا أكثر من مسيحيين" أشار أحد الحاضرين، داميان (44 عاما) وزوجته إيزابيل، البالغة من العمر (31 عاما) والحامل بابنها السادس. جميعهم أصبحوا يهملون ترشح فرانسوا فيون، فبالنسبة إليهم، "فقد (فيون) مصداقيته عندما وجهت إليه التهم" بشأن قضية الوظائف الوهمية المزعومة.

ماران (34 عاما) وزوجته بولين (29 عاما) فكرا لفترة ما في التصويت لفيون، لكنهما تراجعا عن ذلك لاحقا بسبب لائحة الاتهام ضده، وبسبب إنفاقه 48000 يورو على الملابس. "يقول إنه مسيحي لكنه لم يشارك في ’التظاهر للجميع’ [المناهض لزواج المثليين] كما أنه لم يكن في الجمعية الوطنية أثناء التصويت على تجريم محاولة عرقلة الإجهاض" أكد مهندس المعلوماتية. لكنه وزوجته صوتا عامي 2014 و2015 لمارين لوبان في الانتخابات المحلية والأوروبية رغم كونها لا تعارض الإجهاض.

"الاستعراض السياسي المزعج"

ولتفسير هذا الاتجاه نحو اليمين المتطرف يهاجم ماران "الاستعراض السياسي المزعج". ويعلن اليوم "الحرب ضد وسائل الإعلام التي تقوم بالعملية الانتخابية بدلا منا". "لدينا انطباع بأنهم يختارون لنا مرشحين لننتخبهم"، يقول ملمحا إلى إيمانويل ماكرون. ومما يدل على ذلك حسب رأيه أن قناة "تي إف 1" لم تقم بدعوة "المرشحين الصغار" الستة للمناظرة الانتخابية الأولى التي نظمتها يوم العشرين من آذار/مارس، مما يعزز مواقف المرشحين الخمسة الذين يتصدرون استطلاعات الرأي. "هذا عار بعد أن أمضوا سنتين وهم يسعون لجمع التوقيعات الـ500 اللازمة للترشح!" يقول غاضبا.

بالنسبة لهذه العائلات التي تتبنى الرسالة الإنجيلية (التي توصي باستقبال الفقراء والمحتاجين) يطرح موضوع المهاجرين إشكالا هاما، خصوصا وأن أبرشيتهم قد تحركت لاستقبال عائلة عراقية. "تم تجديد مسكن كنسي قديم لاستقبال عائلة، والإجراءات الرسمية تم تنفيذها بالاتصال بعدة سفارات عراقية من أجل أن يتمكنوا من الوصول" كما يشرح ماران. "ومنذ عشرة أشهر تم تجميد أوراق المعاملات". والعائلة الآن عالقة في الأردن نتيجة لهذا. "وخلال هذا الوقت يجري البحث عن طريقة لإدخالهم إلى البلاد بطريقة غير شرعية". ويعلن أن "عدم التناسق بين خطاب السياسيين فيما يتعلق بالمسائل الإنسانية والممارسات الواقعية للحكومة هو المسؤول عن التأخير".

وحيال هذه النتائج، يشير داميان إلى أن السياسة الأوروبية في هذا الملف "لا تتسم بالحكمة". ويضيف "الأبواب مشرعة باتساع في غياب تام للرقابة التي تتيح معرفة من يأتي". وبالنسبة له يجب أن تكون الأولوية لضحايا الصراعات في سوريا والعراق، "ولكن لدينا انطباعا بأنهم لا يشكلون أغلبية القادمين". في فرنسا، يعطى السوريون والروس والسريلانكيون الأولوية في الحصول على حق اللجوء، حسب معطيات اليوروستات لعام 2014.

وبالنسبة لإيزابيل فإن مرشحا واحدا يتمتع بالقدرة على ضبط الحدود وهي مارين لوبان. مرشحة حزب "الجبهة الوطنية" تقترح تحديد عدد المهاجرين بعشرة آلاف كل عام. "ينبغي إيقاف تدفق المهاجرين لكي تكون لدينا الفرصة لتقييم قدرتنا على الاستقبال ولتحسين شروط الاستقبال" تقول ربة المنزل مؤكدة.

وتشارك إيزابيل مارين لوبان أيضا في رغبتها بالخروج من الاتحاد الأوروبي. في حال فوزها، ستنظم المرشحة الرئاسية استفتاء حول هذه النقطة. هذه الأم لعائلة كبيرة، التي لم تجذبها يوما أفكار اليمين المتطرف، تقول إنها ستصوت بقناعة للمرشحة التي "تعجبني فكريا". وتؤكد "أجدها شجاعة لأنها تريد أن تعيد لفرنسا عظمتها". ويقول زوجها موافقا إن "اليمين المتطرف حاليا يتطابق مع ما كان عليه حال اليمين منذ 25 عاما".

تأتي هذه النوايا للتصويت لتؤكد "الفكرة حول تطور التصويت الكاثوليكي، الذي يصوت تقليديا بنسبة 85% لصالح اليمين" كما يلاحظ جان-لوك بوتييه، المستشار الثقافي السابق للسفير الفرنسي في الفاتيكان. ويتابع "إن كان الكاثوليك لسنوات عديدة لم يصوتوا لصالح اليمين المتطرف، فإن 25% منهم يقومون بذلك حاليا. فعدد الأصوات المضمونة لصالح الجبهة الوطنية قد ارتفع".

بالنسبة لألكسندر المتعلق ثقافيا بيسار المشهد السياسي، يبقى التصويت لصالح الجبهة الوطنية غير مقنع. "تربيت في جو معارض للجبهة الوطنية" يقول موضحا. ولكن فكرة "فريكسيت" (خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي) تغريه. وكمدير لجمعية، يستنكر رب العائلة هذا "تعقيد الموارد الاجتماعية الأوروبية". تعقيد يدعي امتلاك مفهوم للعدالة الاجتماعية من أجل "تعزيز التعايش في فرنسا بين السود والبيض والعرب" وهذا دفعه للاتجاه نحو "المرشح الوحيد الذي يقترح بشكل واضح الخروج من الاتحاد الأوروبي، كشرط أساسي لأي إصلاح اجتماعي" وهو فرانسوا آسلينو.

ويوضح "إنه يعرف المؤسسات، وهو دقيق جدا في المسائل الدولية، ويفهم أن فرنسا بتاريخها هي أكثر قربا للمغرب منها لليتوانيا أو رومانيا". وبشكل عام "يغريني التصويت له لأنه يأخذ وقته لشرح أفكاره. ومع ميولي اليسارية، أظن أن بمقدوره أن يوحد المعسكرين (اليمين واليسار)". ماران، البالغ من العمر (34 عاما) يميل أيضا نحو مرشح الاتحاد الشعبي الجمهوري الذي تمنحه استطلاعات الرأي بين 0,5% و1% من نوايا التصويت. "إنه المرشح الوحيد الذي يدخل فعلا في عمق القضايا". ويزعجه أن الإعلام لا يمنحه التغطية التي يستحقها: "إنهم لا يدعونه في أوقات ذروة المتابعة".

في ساحة القديس يوحنا، وعند مركز استقبال الرعية الكنسية، تحدثنا نيكول، وهي إحدى آخر راهبات الأبرشية، في السياسة دون محرمات: "لم أشاهد قط نشازا كهذا خلال الحملة الانتخابية الرئاسية. ولكن بالنسبة لي، الإعلام يركز كثيرا على فرانسوا فيون. من الأحرى بهم التركيز على الأشخاص الأكثر أهمية" تقول مؤكدة ودون تردد، "فعلى سبيل المثال، إنهم لا يتحدثون أبدا عن الفقراء!"، تقول الراهبة التي تخرجت من مدرسة المعلمين متحسرة.

ستصوت نيكول لصالح جان لوك ميلنشون "من أجل أن تصمد أوروبا" ومن أجل "طي الصفحة والانتقال إلى الجمهورية السادسة". وتختم متشائمة "ولكن وقبل كل شيء من أجل أن تلهم الروح القدس (سياسيا) إنسانيا".

اضف تعليق