q

أكثر شيء يهدد ثقافة الاعتدال؛ هو سيادة مفهوم التعصب، وهيمنة مكوناته على الإنسان، بحيث يغيب عنه الإحساس بقيمة الحياة ومعنى أن يكون مسالماً مشتركاً مع الآخرين.

وأمام هذا التهديد، بات لنا أن نفكر بشكل جدي في إحداث ثقب معرفي في جدار التعصب السائد؛ حتى يطل من خلاله عنصر يبعث الأمل في النفس البشرية، فعنصر الاعتدال حين يحضر ويتطور إلى مشروع وسلوك إنساني جمعي؛ سيحقق معادلاً موضوعياً يواجه التعصب ويعمل على تقهقره للوراء ممهداً لسيادة قيم التسامح.

ولابد من رصد مسببات غياب الاعتدال واستنفار الجهود لتحقيق فعل ثقافي يؤسس لعقلية وسطية، وبين الرصد والاستنفار تقف الوظيفة الانسانية على العتبات الأولى في مشروع صناعة الاعتدال ونفاذ عناصره إلى المجتمع، وتحقيق المعادل الموضوعي المرجو.

وحتى لانكون حالمين وبعيدين عن واقعنا، وفي نفس الوقت غير متشائمين أو متقوقعين على ذواتنا مستسلمين ليأس أو احباط؛ يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار حين ننطلق لتصدير الاعتدال كمشروع حياة أن نؤمن بأننا إزاء واقع يقول أن ثقافته الراهنة متدنية رائدها فقدان المعايير، وكأن الانسان يعيش هذا الفقدان المعياري وظيفياً بحيث يصير السوء ممثلاً بالتشدد والتعصب والكراهية أمراً شائعاً، بينما تكون قيم الخير من الأمور الغريبة على واقعه وثقافته، وهنا تكمن أشد حالات النكوص الحضاري؛ لأن الذي يهدد الثقافة المعتدلة هو ذلك التعاطي الغريب مع الزمن بآليات المعايير المفقودة.

فالعبرة إذن في كيفية خلق مناخ عقلاني، يمهد لتجانس عناصر الاعتدال من ثقافة ترتفع بالوعي لمصاف ماتنشده الحضارة من قيم رائدها الوعي؛ لأن الوعي بقيمة الاعتدال يبرهن على أن كل التجارب المؤمنة بوعي الثقافة هي تجارب متصالحة مع ذاتها متجانسة على صعيد العلاقة بين الفرد والجماعة. المناخ العقلاني يقود إلى انتظام الفكرة، ونضج المشروع باتجاه حل إشكالية غياب عناصر الاعتدال الذي يمثل طريقاً معبداً لعبور مفاهيم التجديد والاصلاح وهو مايجب الالتفات إليه في عالمنا اليوم، حيث تسود اللاعقلانية في كثير من القضايا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ولاينطبق هذا على البلدان التي تصنف على أنها من الصف الثاني أو الثالث بحسب تصنيفات موازين القوى العالمية، بل حتى في البلدان التي يُشار لها على أنها ديمقراطية تنشط فيها المؤسسات المجتمعية والمنظمات المدنية؛ والسبب هو أن تشكيل هذه المؤسسات، وطرح الشعارات التي تناغم الهاجس الانساني ماهو إلا قناع تتخفى خلفه مصالح إيديولوجية تحاول فرض نفسها كقوة أحادية في صراعها مع مثيلاتها من الإيديولوجيات الأخرى، وعندئذ تكون قيمة الاعتدال قد ضُربت في الصميم، حيث أنها لايمكن أن تلتقي بالانحياز المؤدلج بأية حال من الأحوال.

والعقلانية لايُفهم منها أن تكون فردية فقط، حتى مع تحمل الأفراد المسؤولية، فالأهم أن تسود العقلانية والطرح العقلاني كل بنية المجتمع من مؤسسات دولة ونقابات ومنظمات، ومطالبة الفرد بالوعي بقيمة الوسطية وعدم التطرف في ظل مناخ معيشي مضطرب واقتصاد سيء وبطالة مستشرية ؛ ستكون مطالبة مترفة وفوقية، وقد تؤدي لنتائج عكسية؛ لأن الفرد سيشعر بأنه أجير عند من يطالبونه بوعي في هذه القضية أو تلك دون أن يلتفتوا لهمومه ومشاكله، ما قد يأتي بنتائج عكسية، وهو ما حدث في بعض البلدان التي ترفع شعارات الحرية والمساواة ..الخ بينما يعيش شعبها في بطالة كبيرة، حيث قادت هذه الأمور المتناقضة بين التنظير والسلوك بعض شبان وشابات تلك البلدان للالتحاق بالجماعات الارهابية المتطرفة فكانت المطالبات بالوعي مطالبات فوقية غير واقعية وأدت إلى ما أدت إليه من نتائج عكسية لم يكن أشد المتشائمين يتنبأ بحدوثها.

وإذا أردنا أن ندخل لعمق خصوصيتنا في العراق؛ فإننا نعتقد أن المناخ العقلاني يجب أن ينصب بالدرجة الأساس على قضية بناء الدولة المضطربة نتيجة التجاذبات والصراعات السياسية التي خلقها النظام الحالي؛ بسبب نظام المحاصصة الفئوية والحزبية الذي أرهق الدولة والشعب معاً، وكذلك في اعتماد العدالة التي ستكون نتيجة طبيعية لتلاقي النظام بالحرية، وهو ما سيجعل الذهنية الحزبية الراديكالية في تراجع أمام تقدم ذهنية الاعتدال والانفتاح.

وحتى لو غاب الوضوح عن مفهوم الاعتدال بالنسبة موسوعاتنا الفكرية الموروثة كما يشير الدكتور (عبد الجبار العبيدي)؛ فإننا يمكن أن نجتهد في تحديد ملامح لهذا المفهوم، وعناصر تنسجم مع راهننا ولا نبقى أسارى عدم وضوحه. يقول الدكتور العبيدي : " عاشت الدولة العربية من بعد دولة المدينة المحمدية في القرن الأول الهجري حياة التطرف على المصالح ومحنة الهوية، بعد أن ضربت الشورى تحقيقاً لمصالح الحاكم، لذا وقعنا فريسة الأحكام العشوائية والناقصة".

ومن أهم الاشياء التي يمكن العمل عليها للوصول إلى قيمة اعتدال ناضجة؛ التحلي بالشجاعة في مناقشة كل ما هو غير قابل للنقاش لتداعيات تاريخية أو غير ذلك، فالجمود على الماضي والخدر عليه؛ لن ينتج وعياً أو مناخاً عقلانياً وبالتالي لن نصل لحالة الاعتدال التي تتطلب المصارحة والمكاشفة ووضع النقاط على الحروف من جهة، والعمل على إصلاح مايمكن إصلاحه بروية وهدوء، ومن دون أي تشنج أو استفزاز من جهة ثانية.

اضف تعليق