q

يشكل التغيير السياسي ركنا مهمّاً من أسس التغيير المجتمعي، فالارتباط بين السياسة والمجتمع يكاد يكون ذا تأثير متبادَل بين الجانبين، فلا تغييرا سياسيا من دون أن تحدث قفزات مهمة على مستوى تطوّر المجتمع، وفي حال حدث هذا التغيير فإنه سوف ينعكس بصورة واضحة على التطور السياسي أيضا، ولكن علينا كمستقبلين وفاعلين من أجل التغيير، وأعني بذلك النخب المتنوعة وقياداتها، علينا أن نتوقع إشكاليات وأزمات تتركها حالات الانتقال من وضع الى آخر.

وحول الوقائع التي حدثت في العراق، لابد أن نستطلع الأمر بتأنٍ ورويّة، خصوصا في مجال التغيير السياسي من مركزي فردي الى ديمقراطي تعددي، حيث تنعكس بؤر لأزمات عديدة بعضها سهل وبعضها معقد وصعب، تظهر تلك الأزمات بين حين وآخر، إذ تشوب تجربته السياسية، وتمتد الى ما هو أبعد من السياسة، فتتوزع في مجالات أخرى كالاقتصاد والتعليم والصحة وسواها، هذه البؤر تنمّ عن خلل في الديمقراطية المنقوصة في العراق وطرق تطبيقها، وبهذا تؤكد الوقائع السياسية عدم وجود ديمقراطية كاملة في العراق على الرغم من تأكيدات النخب السياسية على تمتع العراقيين بأجواء جديدة تختلف عن حقبة ما قبل 2003 ولكن ثمة دلائل تدحض مثل هذه التأكيدات القاطعة، حيث لايزال المسار السياسي مهددا بعودة النظام المركزي، إذا ما بقيت النخب المعنية غافلة عمّا يعتور ديمقراطية العراق من نواقص، خصوصا مع ظهور دعوات ذات نهج فردي مركزي، يطلقها هذا الفريق السياسي او ذلك الحزب، بحجة انسجام الأغلبية السياسية للظرف الراهن.

ولكن مثل هذه الدعوات لم تأتي من نظرة ثاقبة، ولا تقف وراءها أهداف بعيدة عن الاستحواذ وحب السلطة وامتيازاتها، لذلك تبقى غير ذات جدوى، ولا يقتنع بها العراقيون تمام الاقتناع، بسبب التخوف من الفردية في ظل ديمقراطية لا تزال قاصرة، أو أنها عرجاء بحسب وصف البعض، وحتما أن هنالك أسباب تقف وراء هذا الاداء الناقص للديمقراطية في العراق، منها على سبيل المثال قانون الانتخاب الذي تسهم بنوده وآلياته في تصعيد أشخاص الى مجلس النواب لا يمثلون الشعب بصورة فعلية، كما أثبتت تجربة السنوات الماضية التي تجاوزت العقد من السنوات.

أصوات الناخبين المهدورة

وقد تكون صحيحة تلك الاتهامات بحق قانون الأحزاب المعتمَد، حيث يصل أشخاص الى قبة البرلمان او مجالس المحافظات من دون أن يحصلوا على أصوات انتخابية كافية، لذلك فهؤلاء لا يمكن أن يمثلوا الشعب لأنه لم ينتخبهم أصلا، ولم يكلفهم أو يؤهلهم للقيام بهذا الدور، إنما الذي أوصلهم الى هذا المنصب (نائب في البرلمان، أو عضو مجلس محافظة) هو قانون الانتخاب ببنوده وفقراته التي تنطوي على ثغرات واضحة تسمح لمن لا يحوز على ثقة الشعب بتمثيله رغما عنه، وهذه حالة لا تتسق مع النظام الديمقراطي، وتعد واحدة من أهم الإشكاليات التي تواجهها الديمقراطية العراقية الراهنة ومنهجها التعددي.

والدليل أن النتائج التي تتمخض عنها تلك الإشكاليات، تجعل منها أدوات ووسائل وأساليب النظم فردية ذات طابع مركزي، لا يراعي أصوات الناخبين ولا يهتم بآرائهم ولا يحترم خياراتهم، فكما نعرف أن النظم الدكتاتورية تتجاهل أصوات الناس بالقوة والقمع، أما في نظامنا الديمقراطي فيتم ذلك بالتحايل والتمرير والمراوغة من خلال قانون انتخابي ذي آلية فاشلة وضعته النخب والكتل السياسية التي تؤكد ديمقراطية العراق لكنها بالاسم فقط، أما عند التطبيق فإنها تغض الطرف عن نواقصها والثغرات التي تنخر في كيانها وبنائها، ما يجعل التشبث بالديمقراطية كشكل خارجي لا يجدي نفعا، لأن الديمقراطية منهج حياة واضح ملموس ينعكس بصورة بيّنة على مجالات الحياة كافة.

وثمة أمراض رافقت المسيرة التي يطيب للعاملين أن يطلقوا عليها مصطلح الديمقراطية، لكن عند التطبيق قد نجد العكس، خصوصا عندما نلمس محاولات بعض القادة السياسيين إعادة العجلة الى الوراء، ومن الأسباب التي تنتقص من ديمقراطيتنا أيضا، الفئوية وعقد البروتوكولات السياسية بين النخب والكتل والاحزاب السياسية في محاولاتها للحصول على المناصب الحساسة والمكاسب الاخرى على حساب غيرها، وهو نهج لا يتسق قط مع المنهج الديمقراطي الذي يترفّع عن تحويل الديمقراطية الى حلبة صراع غير شريفة لا تحكمها رؤية وطنية ولا إنسانية، تضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل اعتبار، ما يدعو الى مراجعة شاملة وصحيحة ومستقلة، لكل النواقص التي تجعل من الديمقراطية الراهنة أمام تساؤلات لا إجابة عنها، خصوصا عندما يتطلب الأمر إجابات وافية عن الإشكاليات التي ترافق العمل السياسي في المرحلة الراهنة.

أولوية القضاء على الإرهاب

ومع أن المرحلة تستدعي تعاضد الجهود، وتقليل الخلافات، والوقوف صفا واحدا أمام الإرهاب، ومواصلة الجهود لتحرير الموصل والأماكن المغتصبة من زمر داعش، إلا أن ما يحدث هو اختلاق أزمات جديدة بين الكتل والأحزاب والشخصيات العاملة في الميدان السياسي، لذلك من الأسباب الأخرى وقد يكون من أهمها في إضعاف الديمقراطية وإعطائها طابع النقصان، هو غياب المعارضة المنتظمة والفاعلة، الأمر الذي يجعل من الديمقراطية قولا بلا معنى او بلا فعل قائم في ساحة العمل السياسي، لاسيما أننا في طور البناء المستمر لتجربة سياسية ينبغي أن تتخلص من ركام الماضي المؤسف وكل ما يتعلق بالفردية والدكتاتورية وأدواتها.

من هنا نحن بحاجة الى منهج ديمقراطي سليم، يمضي قُدُما بالعراق الى أمام، لذا فإن الديمقراطية المعافاة لا يمكن أن تستغني عن دور المعارضة، وجميع الحكومات التي تنتهج التحرر في ادارة شعوبها، لا يمكن أن تذوّب المعارضة او تلغي دورها بحجة حداثة التجربة او تحقيق التصالح بين الجميع او طبيعة الظرف العراقي وما الى ذلك من تبريرات لا ترقى الى أهمية تحقيق النهج الديمقراطي السليم الذي يستلزم حضور الدور المعارض بقوة لكي يصحح مسارات الحكومة التي قد تشط في هذا القرار او ذاك وقد تخطئ في هذا المجال او ذاك، وفي حالة غياب الدور المعارض فإن أهم ما يميز النظام الديمقراطي عن الدكتاتوري سينتفي وتغيب الحدود بين النظامين بغياب الدور المعارض للحكومة أو ضعفه أو صنعه بصيغة شكلية لا تؤدي الدور الصحيح للمعارضة الفاعلة.

في الخلاصة يحتاج العراق لكي يعبر المرحلة الحساسة بأمان الى مراجعة دقيقة للمراحل السياسية السابقة والمحصورة بين نيسان 2003 وحتى اللحظة الراهنة، فالمطلوب هو الشروع بالمراجعة الشاملة لتقيين التجربة على ان يشترك المعنيون في انجاز النتائج الواقعية لغرض الاستفادة من أخطاء المرحلة الماضية ومعالجة الإشكاليات والأزمات التي رافقت المسيرة الماضية من منظار عراقي يضع في حساباته بناء الدولة ومؤسساتها في ظل نظام ديمقراطي لا مركزي وتعددي قادر على حماية حقوق جميع المواطنين بلا استثناء او تفرقة.

اضف تعليق


التعليقات

عبد الرحيم محمد
العراق
ما وصل لي من هذا الموضوع أن الأزمات تعصف بالواقع السياسي، ولكن القادة أحزاب وكتل لا يهمهم سوى أن يكونوا بالواجهة.. لو أنهم يتحركون لمعالجة الأزمات يكون الوضع أفضل بكثير2017-03-29