q

بينما تعلو جميع الأصوات في الأرجاء، يخمد صوت الحياة أكثر فأكثر، يصرخ الجميع بأعلى أصواتهم ولكن لا حياة لمن تنادي، يصرخ اليتيم بأعلى صوته، ينادي أباه ولكن لا رجوع لمن رحل، إنها حكاية مؤلمة، فيندب اليتيم حظه العاثر، ويستجدي الرحمة بلغة العبيد ولكن دون جدوى، تصرخ الثكلى بأعلى صوتها، تسهر ليلها، تموت مرارا بدلا من مرة واحدة، ولكن لا مجال يتسع لأيتام حلّوا في هذا الكون في غفلة من الزمن وفي غيبوبة للرحمة البشرية التي غابت تماما.

يصرخ المثقف لكي لا يسقط الناس في مستنقع الجهل ولكن دون جدوى، لا وقت للتعليم، يكاد المريض يموت عند باب المستشفى وهو يئنّ من وجع يكاد يأكل جسده الهزيل، ويمر الأطباء من جنبه دون أن يعيروه أي اهتمام، الأصوات تعلو يوما بعد يوم ولكن الإنسانية تستمر في نومها عميق، حتى تكاد تدخل في غيبوبة أبدية، فلا يهم أن تولد آدمياً.

ملايين الناس يفعل ذلك ويولد هكذا، ولكن المهم أن تموت إنسانا كريما مكرّما، والأهم أن يُكتَب اسمك في قائمة الطيبين السعداء، دوامة الحياة مستمرة منذ آلاف السنين، يذهب أناس ويأتي آخرون من نطفة، ثم علقة، الى مضغة، إلى الجسد الفاصل، إلى طور الكساء باللحم، ومن ثم مرحلة النشأة وطور القابلية للحياة، وبعد ذلك طور المخاض ومن هنا تبدأ قصة الآدمي فوق هذه المعمورة.

ربما يعيش حياة تليق باسمه وإنسانيته، وربما يبقى إجبارا لعقود عديدة ومن ثم يذهب الى العالم الآخر، كأنه ما كان ولم يطأ شخص مثله أعتاب هذه المعمورة، لقد جاء في مثل صيني: إذا أردت أن تزرع لسنة واحدة فازرع قمحا، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا.

وأضيف هنا: إذا أردت أن تزرع مدى الدهر ازرع الإنسانية.. أو الأدق من ذلك بكثير، لم تكن إنسانا إذا لم تشعر بمن حولك.

ما معنى الإنسانية؟

تعددت المعاني حول مفهوم هذه الكلمة، فكل شخص يراه من منظاره الخاص، ويفسره حسب علمه، وهناك التباس مستمر بخصوص استخدام هذا المصطلح لأن الحركات الفكرية المختلفة كانت قد عرفت نفسها باستخدامه عبر الزمن. فالإنسانية هي مجموعة من وجهات النظر الفلسفية والأخلاقية التي تركز على قيمة وكفاءة الإنسان سواء كان فرداً أو جماعة، وتفضل عموماً التفكير والاستدلال على المذاهب أو العقائد الثابتة أو المنزلة (العقلانية، التجريبية).

وتشير الإنسانية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية إلى اتجاه يؤكد بشكل خاص على فكرة "الطبيعة البشرية" (خلافاً للإنسانية). وقد أصبحت العديد من الحركات الإنسانية في العصر الحديث منحازة بقوة إلى العلمانية، حيث يستخدم مصطلح الإنسانية عادةً كمرادف للاعتقادات غير التوحيدية فيما يتعلق بأفكار مثل المعنى والهدف، ومع ذلك فقد كان الإنسانيون الأوائل متدينين، مثل أولريش فون هوتن الذي كان مؤيداً قوياً لمارتن لوثر والاصلاح البروتستاني.

‎وتدمج الإنسانية الدينية الفلسفة الأخلاقية مع طقوس ومعتقدات بعض الديانات، رغم أنها تبقى متمركزة حول الاحتياجات والاهتمامات والقدرات الإنسانية. ومع بداية الحركة الأخلاقية في ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح مصطلح "الإنسانية" مرتبطاً على نحو متزايد مع الفلسفة الطبيعية، ومع العلمانية وعلمنة المجتمع. وقد عرف البيان الإنساني الأول، الذي شُكل رسميا في جامعة شيكاغو عام 1933عرف الإنسانية العلمانية بأنها إيديولوجية تتبنى السببية القيم، والعدالة بينما ترفض على وجه التحديد الأفكار الخارقة والدينية كأساس للأخلاق ولاتخاذ القرار.

الإنسانية والخلق الرفيع

تتبنى الإنسانية على نحو متزايد إدراكاً شاملاً لجنسنا البشري، كوكبنا، وحياتنا. ومع الإبقاء على تعريف الاتحاد الدولي للدراسات الإنسانية والأخلاقية فيما يتعلق بموقف الحياة للفرد، فإن الإنسانية الشاملة توسع دائرتها ضمن الإنسان العاقل لتأخذ بعين الاعتبار صلاحيات والتزامات البشر المتوسعة وقد تتوسع أكثر ضمن رابطة الإنسان مع باقي المخلوقات نرى قمة الإنسانية عند ذلك الأمير العادل الذي لم يلحق الأذى بأحد ويراعي قيم الإنسانية في خلق الله كما قال الإمام علي عليه السلام :والله لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها لب شعيرة ما فعلت.

الإنسانية إذاً هي من أركان ديننا المبين ويحث ديننا الحنيف على الالتزام بكيفية التعامل مع الآخرين كما قال تعالى في كتابه الكريم :مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا *1. وورد في الحديث الشريف أيضا عن نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله): (المسلمون أُخوة، تَتَكافَأُ دماؤهم، يسعى بِذمَّتهم أدناهم، وهم يد على سواهم) .

جميل أن ندرك الإنسانية، فهي ليست مؤلمة كما يظنها البعض، ويكتب عنها بطريقة مؤلمة وبعين سوداوية، بل الإنسانية بيضاء اللون كنقاء روح الطيبين وخضراء اللون كجمال الطبيعة ووردية اللون كعنفوان الأطفال، والإنسانية هي تلك القيم التي يحترمها البعض وينساها الآخرون أو يتناسونها.

وهي ذلك الحب في قلب المحبين الذين يشعرون بصوت الألم من نظرات عيون الأيتام والثكالى، وهي ذلك الإحساس الذي يُبين إنك لازلت إنساناً.. وكم هو جميل أن ندرك الوقت لنغرس بذرة الخير قبل أن يدركنا الوقت كما قال الشاعر:

بالخير بادر إذا ما كنت مقتدراً

فليس في كل حين أنت مقتدرُ

______________________
هامش:
‏1 - سورة المائدة الآية 32

اضف تعليق