q

تعاني المنطقة العربية، لاسيما دول مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا حالياً من نزاعات وحروب أهلية، وهذه من أكثر الظواهر الاجتماعية تدميراً للمجتمعات في العالم الحديث، اذ تؤدي الحروب الأهلية الى تراجع نمو الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 2% عن كل سنة من سنوات النزاع، ما يجعلها أكثر فتكاً من الحروب بين الدول، وقد نظرت دراسة (Cerra & Saxena) في 2008، في مجموعة متنوعة من الأزمات السياسية والمالية فتبين أن الانتاج ينخفض بنسبة 6% في البداية كمتوسط خلال الحروب الأهلية، ويمكن تعويض نصف الخسارة بعد أربعة أعوام، ولكن تبقى 3% من الخسائر التراكمية حتى بعد مرور عقد من الزمن، اما دراسة (Mueller) في 2012 فتقديراتها أكثر شدة، اذ بينت أن الناتج يتراجع بحوالي 18% في البداية كمعدل.

وتوصلت دراسة Murdoch & Sandler)) في عامي 2002 و2004، الى نتائج متشابهة من حيث حجم الاثار، كما أنها بينت ايضاً ان ثمة هناك اثار سلبية للحروب الأهلية على النمو في الدول المجاورة، اما دراسة (Blomberg & Hess) في 2002، فقد وضحت أن الركود يمكن أن يزيد خطر النزاعات الداخلية والخارجية، مايؤدي بدوره الى زيادة احتمال حدوث انتكاسات اقتصادية جديدة، وترى دراسات عديدة أن العنف السياسي يحد من حركة التجارة الدولية ، مايؤدي الى تراجع النمو الاقتصادي.

وتصنف دراسة (Collier) في 1999، كيفية تأثير النزاعات على التنمية من خلال التدمير، التعطيل، وتحول وجهة الأموال العامة والاسراف في الأنفاق، فالحرب تدمر مرافق الانتاج والمرافق الصحية وتخفض حالات الوفاة والتشوه الناتجة عن الحروب عدد الايدي العاملة، ويعيق تدمير طرق النقل التبادل الاقتصادي ويزيد من تكاليف النقل، وينتج التعطيل من انعدام الأمن بسبب انتشار العنف وانهيار النظام الاجتماعي ومن تبعات هروب السكان بأعداد كبيرة من منازلهم وأشغالهم.

كما تؤدي الحروب الأهلية الى تحويل أموال عامة كبيرة الى الانفاق العسكري، وتعاني اقتصادات الحرب من الاسراف في الانفاق ومن هروب رؤوس الاموال، وتنتج الاثار السلبية على رأس المال عن تدمير البنى الأساسية وارتفاع تكاليف المعاملات، فالقدرة على تنفيذ العقود تتراجع عندما تضعف مؤسسات المجتمع المدني، وتتراجع الثقة وتتقلص الآفاق الزمنية بسبب انعدام الثقة، وتصبح الانتهازية الوسيلة للحصول على الارباح، وتركز دراسة (Davies) في 2008، على هروب رؤوس الاموال، اذ تؤكد بأن حجم رؤوس الاموال الهاربة يزداد في الدول خلال النزاع وبعد، ويرافق ذلك معدلات تضخم مرتفعة، ويكون تمويل الحرب مكلف جداً، ويكون في الأغلب عن طريق الاستدانة من الخارج، فضلاً عن أنه قد يؤدي تمويل الحروب على المدى القصير الى التضخم، كما تتعطل حركة التجارة العامة.

ويؤثر النزاع المسلح ايضاً سلباً على بنية الاقتصاد، وبالنظر الى صعوبة نقل رؤوس الاموال المرتبطة بالاراضي كالسلع الزراعية وغيرها من السلع الأساسية، فأن النزاعات تحول الاقتصادات الى اقتصادات تعتمد فقط على السلع الأساسية، وفي العراق ساهمت الحرب على تنظيم داعش الارهابي بتكاليف باهضة وعلى جميع المستويات، اذ استنزف تحرير العديد من المناطق من قبضة داعش نفقات هائلة، رافقها تدهور كبير في أسعار النفط عالمياً، ماأنعكس سلباً على النمو الاقتصادي في العراق وعلى تفاقم العجز في الموازنة العامة للدولة.

فتدني أسعار النفط عالميا ترك تداعيات كبيرة على الموازنة العامة للحكومة العراقية بعد ان كان سعر النفط يقترب من 120 دولار للبرميل هبط الى اقل 30 دولار للبرميل، مما أسهم بزيادة نسب العجز في الموازنة العامة بسبب اعتمادها على عوائد تصدير النفط الى الخارج وبنسبة تقترب من 90 %، وهذا العجز بحد ذاته ادخل العراق في أزمة مالية خانقة وخطيرة ومهددة للأمن القومي العراقي لأنها متزامنة مع وجود تهديد امني يمثله تنظيم داعش فالميزانية العراقية تتعرض لضغوط كبيرة نتيجة زيادة الإنفاق الأمني وكلفة التعامل مع الأزمة الإنسانية التي تسبب بها تنظيم داعش، اذ هناك عدد كبير من النازحين ترتب عليه انفاق مبالغ كبيرة من اجل اقامة مخيمات للاجئين وكذلك توفير المواد الغذائية والطبية وغير ذلك من الخدمات، وعليه فالعراق مقبل على مرحلة أزمة تمويل كبيرة ستتفاقم في حالة بقاء العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش لان كلف الإنفاق على الدفاع والامن سوف تتعاظم بالوقت الذي نحن بحاجة الى تمويل لادامة متطلبات الحياة الكريم للشعب العراقي.

فعلى سبيل المثال، اشترى العراق خلال العامين الماضيين سلاحاً بأكثر من 100 مليار دولار تبدد معظمها في مواجهة التنظيم ويبدو إنها التكلفة التي يعتمدها المختصون في تقدير التكاليف المباشرة للحرب، كما تتضمن تكاليف الحرب ضد تنظيم داعش تكاليف الأضرار التي ألحقتها الحرب بالبنية التحتية وتكاليف توقف انتاج النفط وعوائد صادراته فضلا عن تكاليف التسليح والتدريب ورواتب قوى الأمن، وذكر مصدر في البنك المركزي العراقي إن رواتب ما لا يقل عن مليون شخص أضيفت إلى رواتب قوى الأمن العراقي، تتمثل في رواتب المتطوعين في الحشد الشعبي ومقاتلي العشائر.

وتراجعت صادرات العراق النفطية من حقول النفط في محافظات كركوك وصلاح الدين ونينوى بعد سيطرة التنظيم على هذه المحافظات وإضرارها بالحقول الواقعة فيها، ويصف الخبير الاقتصادي محمد العاني ما يعيشه العراق بأنه "حرب استنزاف بشري ومالي" مؤكداً إن استمرار المعارك مع هذا التنظيم قد يؤدي إلى تحلل الدولة العراقية، ويضيف العاني إن "كلفة الحرب على تنظيم داعش مرتفعة جداً وإن السلاح الذي يصل إلى القوات العراقية ويقع بيد مسلحي التنظيم لا يأتي مجاناً ويستنزف الخزينة العراقية"، وأن الاقتصاد العراقي مبني على منتج واحد وهو النفط، ومع وجود أسعار نفط متدنيّة يبقى الاقتصاد العراقي يعاني لحين ارتفاع اسعار النفط مرة أخرى، كما إن المحاولات لزيادة الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي ستبقى تعاني بسبب الأزمة الكهربائية و أزمة الوقود المستدامة في العراق، فضلاً عن غياب الأرقام الدقيقة لتكاليف الحرب ضد تنظيم داعش بسبب ظروف الحرب وعدم انتهائها حتى اليوم.

اضف تعليق