ما كتبه حلس يمكن وصفه بسيرة مشاعر مجتمع، عاشها بين نكبتين، الأولى تلك التي كابدها الآباء والأجداد وتعرفت اليها مشاعره من خلال روايات ودواوين قرأها وسمعها، وأشياء أخرى رآها، والثانية في غزة حين وجد نفسه نازحا. لا أريد التحدث عن هذا النص الذي يحتمل الكثير من الكلام ليس في السياسة...
هذا العنوان مستل من (بوست) نشره بلا عنوان صديقي الاستاذ الدكتور عاهد حلس عميد كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصى في فلسطين قبل ثلاثة أيام في صفحته الشخصية على الفيس بوك، ما كتبه حلس يمكن وصفه بسيرة مشاعر مجتمع، عاشها بين نكبتين، الأولى تلك التي كابدها الآباء والأجداد وتعرفت اليها مشاعره من خلال روايات ودواوين قرأها وسمعها، وأشياء أخرى رآها، والثانية في غزة حين وجد نفسه نازحا. لا أريد التحدث عن هذا النص الذي يحتمل الكثير من الكلام ليس في السياسة، بل في الوجدان العربي.
لذا وجدت لزاما ان أدعه يتكلم بنفسه اليكم، ولا أدري هل يحق في السياقات الصحفية لكاتب عمود استثمار المساحة المخصصة له ليقتبس نصا كاملا ويقدمه لقرائه، لكونه قد تأثر بهذا النص، او ان الحرية المطلقة التي أتاحتها الجريدة له تجعله على يقين بأنها لن تعترض على فعله، او لايمان القائمين على الجريدة بقضيتنا الكبرى، او ان ما ينطوي عليه الكلام يدور عن اخوة لنا يتعرضون لابادة جماعية، بينما لم يقدم لهم من كانوا يظنون انهم العمق المضمون سوى كلام ومساعدات لا ترقى الى حجم الجحيم الذي يواجهون.
غالبا ما تخونني العبارات المناسبة للتعليق على منشورات الدكتور عاهد حلس لعمق مضمونها وجزالة عباراتها وصدق مشاعرها، ولعل العبارة التي ختم بها منشوره الذي أتحدث عنه دليل على ذلك، يقول حلس « خلال دراستي الجامعية الأولى في بيرزيت دأبتُ على قراءة روايات غسان كنفاني، كنت أستلقي على السرير لساعاتٍ طويلة في أيام الإجازات وما أن أُبدأ برواية فلا أتركها حتى أصل إلى أخر سطرٍ فيها، ممتلئاً بالحزن الوطني الناعم ومتعة انكشاف مشهد جديد من زمن النكبة، ذلك الزمن الذي بدا لي وقتها سحيقا جداً، رغم أنه لم يكن قد مضى عليه أكثر من ثلاثين سنة!.
أحببت فلسطين في روايات غسان مثقوبةً مثل ناي، أحببت أوجاعها وعظمة نسائها، أحببت أنني أنتمي إلى ذات الوطن الذي ينتمي إليه غسان ومحمود درويش وإميل حبيبي، وتوفيق زيَّاد، وناحي العلي وفرقة الفنون الشعبية.
أحببت حب مرسيل خليفة وجوليا بطرس لفلسطين، واعتززت بفلسطين اكثر كلما تأملت عيون جوليا الدامعة وكفيها المفتوحتين بحسرة وألم وهي تغني « وين الملايين، الشعب العربي وين ؟ «، لم أكن سأشعر بفلسطينيتي لولا النكبة وما رشحَ عنها من روايات وقصائد صاغت وجداني ووجدان جيلي ومنحتني انتماءً وهوية.
أعيش الأن أحداث نكبة ثانية، أعيشها واقعا مراً أسوداً، ليس كما عشتها في روايات غسان على سريرٍ في غرفة ٍ يُطل شباكها على شجرة توت تحجب جزءاً من جبال بيرزيت الغارقة في الطمأنينة الأبدية.
أعيش في نزوحٍ قاسٍ ومرعب عن مدينتي منذ ثمانية أشهر.. ورغم التشابه الكبير في مشهد الخيام والنازحين في النكبتين فلا أظن أن غسان كان سينجح، لو ظل حيا، في العثور على معاني جميلة للوطن كتلك التي ألتقطها وجعلت أرواحنا تحلق في رواياته كطيورٍ من أثير، تهاجر الى حيث يهاجر المهاجرون الى جهات الريح، أحببنا في روايات غسان حالة الحزن والحنين والحلم الجماعي، أحببنا الهوية، لكن شيئاً مما كتبه غسان لم أحسه في هذه النكبة، هل خدعنا المجاز كما يخدعنا دائما!!.
فلم يكتب غسان، مثلا،عن الروائح الكريهة التي تنبعث من الخيام، ولم يصف درجة حرارتها التي تخبزُ أجساد النازحين، ولم يكتب عن جشع التجار في الحرب، وسرقة المساعدات الدولية من قبل أولي اللحى وأصحاب الضمائر الوطنية، لم يكتب عن قادة كبار تركوا شعبهم قبل أن يُلقى به إلى المحرقة، ولم يكتب أن شطرا من الوطن كان يحتفل بسباق السباحة، فيما كان الشطر الآخر منه يسبح في بحيرة من الدماء.. لم يكتب غسان شيئا من هذا كله.. ربما كان في زمنه بعض القُبح الوطني، لكنه ليس بمثل هذا القبح، في النزوح أدركت الفرق بين النكبتين، بين نكبة صنعت هوية، ونكبة أحدثت جرحا غائرا في الهوية..«.
اضف تعليق