q

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1].

إن مؤسسات المجتمع الإيماني أو الإنساني، أو إن شئت قلت المدني، لها ثلاث مهمات: المهمة الأولى: هي بناء المجتمع والأمة، والمهمة الثانية: هي توفير الخدمات، والمهمة الثالثة: هي أن تكون سداً منيعاً ودرعاً حصينة أمام طغيان الدولة، وإفتراسها لمصالح الناس وسحقها لحقوقهم، وأنه يستفاد من هذه الآية القرآنية الشريفة، أن عامة المؤمنين وعامة المؤمنات مسؤولون ومسؤولات عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للدولة.

ولكن على مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني، وعلى كافة المؤمنين والمؤمنات مسؤولية أخرى رابعة، مغفول عنها عادة، وهي: أن تكون هذه المؤسسات التي تضم مؤمنين أو مؤمنات درعاً وسداً منيعاً أمام التداعيات والأخطار الخارجية، وفي مقدمتها المنظمات الدولية العابرة للقارات، التي قد تكون سياسية، وقد تكون اقتصادية، وقد تكون عسكرية، وهذه القضية ومع الأسف مغفول عنها عادة.

المؤسسات الدولية العابرة للقارات:

ولتوضيح ذلك، أن هنالك قوة عظمى في عالم اليوم، تسمى بالمؤسسات أو المنظمات الدولية العابرة للقارات، وهي في الواقع دول بدون جغرافية، وتترك بصماتها وتأثيراتها الهائلة على مجتمعاتنا، مع جهل عموم الناس بها أو بمدى قدراتها وتأثيراتها. إن المؤسسات الدولية العابرة للقارات عدة أقسام:

1- قد تكون سياسية، مثل الصهيونية، فهذه منظمة دولية عابرة للقارات، وكذلك (البهائية).

2- وقد تكون عسكرية، مثل منظمة القاعدة، وهي منظمة دولية عابرة للقارات، تضرب في كل مكان مستهدفة الأبرياء والمؤمنين، وما تدعيه من جهاد المستعمرين ما هي إلا كذبة، فهي في الواقع ألعوبة بيد الأعداء، يوجهونها كما يشاءون؛ لأنهم اتخذوا منها ذريعة لتحطيم المسلمين، ولتحطيم سمعة الإسلام، ولتحطيم سمعة المسلمين، ولأجل تقليص الحريات في بلادهم، فلكي يسيطر الاستعمار والحكومات الجائرة على شعوبها بشكل أفضل اتخذوا من القاعدة وأشباهها، بعبعاً مخيفاً لشعوبهم، لتمرير مخططاتهم في المنطقة.

3- وقد تكون المؤسسات الدولية العابرة للقارات اقتصادية، وهي التي ضربت دول نمور آسيا الأربعة المعروفة، والتي منها ماليزيا، التي انطلقت تلك الانطلاقة الكبرى، وإذا بها تتلقى صفعة اقتصادية هائلة لتحطمها تماماً، قبل حولي خمس عشرة سنة، إذ قامت المؤسسات الدولية الاقتصادية العابرة للقارات فجأة بلعبة اقتصادية، قوامها مئات المليارات من الدولارات، حطمت بها اقتصاد هذه النمور الأربعة.

نماذج المؤسسات الدولية العابرة للقارات:

أ- فرسان مالطا:

فعلى سبيل المثال، مجموعة(فرسان مالطة) تنظيم عالمي، يترك تأثيراً هائلاً على دول العالم، من العراق إلى أمريكا، ومن الصين إلى الهند، كما أنَّ بعض رؤساء دول العالم هم أعضاء في هذه المنظمة السرية سابقاً، وهي الآن أضحت غير سرية تقريباً، وقد صدرت بعض الكتب عنها، وكتبت تقارير وإحصاءات، والتي تظهر أن بعض أهم الشخصيات العالمية من المستعمرين أعضاء فيها، بمناصب رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو وزير بارز، فالبعض يرى أن هذه المنظمة هي في جوهرها إرهابية، فالشركة الأمنية التي كانت تعمل في العراق باسم » بلاك ووتر«، هي من فروع فرسان مالطة، وهكذا وهلم جرا.

ب - صندوق النقد الدولي:

ومن أمثلة المؤسسات الدولية الاقتصادية العابرة للقارات، البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، فهاتان المنظمتان تعدان في الواقع من مخالب الاستعمار، التي تمتص دماءنا، إذ تارة يكون ذلك عن طريق عسكري، عن طريق القاعدة، أو عن طريق حكام مستبدين مثل صدام، هم يأتون بهم وهم يذهبون بهم، وتارة يكون بقفازات حريرية، فقد تعلم الاستعمار بمرور الزمن أنه لكي يسيطر على بلد ما عليه أن يتجنب أية طريقة عسكرية؛ لأن هذه الطريقة تقاومها الشعوب عادة، بل هناك طريقة ثانية أكثر خبثاً وخفاءً، وأعمق تأثيراً، هي الطريقة الاقتصادية، وإن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من آليات ذلك.

فهاتان المؤسستان ونظائرهما تقدم- مثلاً -قروضاً كبيرة للبلاد المنكوبة، أو للبلاد النامية حسب تعبيرهم، والدول الإسلامية تعد من الدول النامية، ذلك إن هذه الدول قد تحتاج إلى قرض، عشرين مليار دولار مثلاً أكثر أو أقل، والدول الغربية ومؤسساتها لا تتبرع بإقراضها قربة إلى الله تعالى، بل في الواقع هذا أخطبوط، وهذه طريقة للسيطرة.

ولتوضيح ذلك لنتذكر أن أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) يقول: (احتج إلى مَن شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره)، فإن المحتاج أسير ذليل، وهذا هو الجانب الأخلاقي والواقعي في الموضوع، ولكن لنبحث في الأرقام والمعادلات:

أولاً: عندما تقترض تلك الدولة النامية- إن كانت إسلامية أو غير إسلامية- من خلال البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو من أية دولة أخرى من الدول الاستعمارية الكبيرة، فتلك الدولة أولاً تريد ربا على القرض، وهذا يعني أن صندوق النقد الدولي لا يمنح الأموال بالمجان، بل في مقابل الفوائد والربا، فتلك العشرين مليار دولار، يجب أن تعود لتلك الدولة على شكل ثلاثين مليار دولار، أو أربعين مليار دولار، وهذا محرم قطعاً شرعاً، وهو محرم عقلاً، فإنهم إذا كانوا يدفعون للدولة النامية بإقراض خيري، أي بدون فوائد لكان الأمر معقولا، ولكن مع الفوائد والربا فإنهم يزيدون على الدولة النامية المستضعفة حملاً على حمل!

ثانياً: إن (صندوق النقد) لا يكتفي بأخذ الربا فقط، فإنهم لا يعطون الأموال هكذا للدولة، وإنما يعطوها ضمن مخطط يهدف إلى توجيه دفّة الاقتصاد، وهكذا نجد أن صندوق النقد أو البنك الدولي يحدد للدولة المقترضة وبكل وضوح وصرامة نطاقات صرف هذه الأموال، وأنهم يجب أن يصرفوا هذه الأموال، في صناعة المطاط مثلاً، وليس في الزراعة التي نحن نحتاج لها.

في العراق مثلاً، هم يستهدفون الزراعة ويريدون تدميرها، فالمخطط الغربي هكذا، والكثير منا من المؤمنين والمؤمنات غير المتصدين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غافلون عن معرفة حقائق الأمور.

والحاصل: إنهم هم الذين يحددون الموارد والمصارف، ويفرضون إنفاق الأموال في صناعة محددة من المعامل، أو في إنتاج نوع من البضائع التي يحتاجونها، ويخططون لها.

ثالثاً: حيث إن البلد في هذا الحقل لا يملك الخبراء بالمقدار الكافي فالمقرِض يفرض خبراءه[2]، بدعوى عدم توفر الخبرة الجيدة في هذا الحقل، فتبعث لهم الخبراء، وهؤلاء يتعاطون رواتب ضخمةً على الدولة النامية أن تصرفها لهم من أموال الفقراء والضرائب وخزينة الدولة! كما أن إدارة المشروع تكون بيد هؤلاء الخبراء في مفاصلة الحساسة، فهم أصحاب الأمر والنهي.

رابعاً: في نفس الوقت، هؤلاء الخبراء بعضهم على الأقل جواسيس، لكنهم جواسيس محترمون، جواسيس على الاقتصاد والتحولات الاقتصادية في البلد، حيث يطلعون على أوضاع البلد كله، ولهم كل الشرعية في ذلك! بل على الدولة أن تقدّم لهم التقارير الدورية عن الوضع الاقتصادي تفصيلياً، لماذا؟ لكي يضمنوا إدارة مشروعهم الاقتصادي بنجاح كي يدر على الدولة الأرباح المستهدفة!

خامساً: إن صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي لا يكتفي بذلك؛ وذلك لأن الدولة ملزمة بإرجاع الأموال بعد خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة، حسب هذا المخطط الاقتصادي الذي يفرض تواجد الخبراء على مدى سني القرض، لكن هذه الحكومة المستبدة أو العميلة لا تستطيع في كثير من الأحيان أن ترجع الأموال المستحقة عليها، وهو ما يخطط له، لأنهم في الواقع يريدون أن يمسكوا مفاصل الأمور بأجمعها، حتى يضمنوا أن تسير العملية الاقتصادية بما يضمن مصالحهم، وهنا وبحجة توفير الإمكانات لإرجاع المستحقات، تبدأ سيطرتهم على مفاصل اقتصاد البلاد، من مناجم ومصانع وغير ذلك.[3]

وبوجه آخر، لو عجزت الدولة بعد ذلك عن التسديد- وهذا ما يُخطط له- فإنهم سيعيدون جدولة القروض ولكن بشروط جديدة، ليغرق العملاء في بحر العمالة أكثر فأكثر.

إن مؤسسات المجتمع المدني أو الإسلامي، أو الإنساني، مسؤولة عن هذه الأخطار، الناتجة عن مخططات وأنشطة المنظمات العابرة للقارات.

مثال آخر للمؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات (البورصة)، وهذا مما يستدعي بحثاً مفصلاً لعلنا نتطرق له في المستقبل بإذن الله تعالى.

ج- الوهابية:

مثال آخر: الوهابية مثل الصهيونية، هي منظمة عابرة للقارات، صنعها الاستعمار البريطاني لخنق المسلمين، ولتحطيم البلاد الإسلامية، وأول ما بدأوا به هو تكفير المسلمين أجمعهم بعنوان الشرك، و(الشرك) حسب منطقهم يعني أن كل المسلمين كفرة يجب قتلهم، وهم فقط يمثلون الإسلام الأصيل المحمدي، وكمثال لذلك: عندما استولى الوهابيون على بلاد الحجاز أصدروا قراراً جائراً بهدم قبور أئمة البقيع (عليهم السلام)، وكل المقابر الموجودة في البقيع، وهناك عشرة آلاف صحابي من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفنوا في البقيع، وكثير منهم كانت لهم قباب، بعضهن أيضاً كن من زوجات الرسول(صلى الله عليه وآله)، وكذلك السيدة أم البنين (عليها السلام).

لكن لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن البناء على القبور شرك، ونقول: إذا كان البناء على القبر شركاً، فقبر النبي (صلى الله عليه وآله) هو أيضاً شرك، حسب منطقهم (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (ولا فرق بين أنواع الشرك كله! والآن يمكن أن تحاكم الوهابية بنفس سلاحها، فإذا كان شركاً، فكلاهما شرك، وإذا كان إيماناً فكلاهما إيمان، ولا فرق في الشرك وأن نشرك بالله غيره بين أن يكون هو الرسول (صلى الله عليه وآله) أو حفيد الرسول، الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أو زوجة الرسول، أو صحابي الرسول.

ولكن الحقيقة هي إنه كان مخططهم هدم قبر الرسول الأعظم بعد هدم البقيع؛ إذ كلاهما شرك! لكن ردود فعل مسلمي العالم كانت قوية، فإنه حيث انتشر الخبر في العالم خرج المسلمون في مظاهرات عارمة، ففي الهند خرج مليونا إنسان، وفي مصر خرجت مظاهرات ضخمة، وهنا خشي الاستعمار البريطاني على مصالحه، فأوعز إلى العملاء الوهابيين في بلاد الحجاز أن يكفوا عن هدم قبر محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وكان أن استجاب العملاء لأوامر الرب البريطاني!

إن الوهابية منظمة دولية عابرة للقارات، وهي منشأ لمجموعة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وهي وراء الإرهاب، وما القاعدة إلا إحدى نتاجاتها، وكل فساد يصيب الإسلام والمسلمين فهؤلاء لهم فيه نصيب!

وموجز القول: إن من مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني أو الإسلامي أو الإيماني، أن تقف أمام هذه المنظمات الدولية العابرة للقارات، سياسية كانت مثل الصهيونية والوهابية والبهائية، أم اقتصادية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أم عسكرية مثل القاعدة أو غير ذلك، وهذه مسؤولية واجبة شرعاً، لكن أغلب الناس عنها، غافلون!

فالآية الشريفة تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وعليه، فإن المسؤولية لا تنحصر بأن نواجه المنكرات الفردية، أو المنكرات التي تصدر من الحاكم الجائر، بل تعم المنكرات والظلم الذي ينطلق من المؤسسات الدولية العابرة للقارات.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي
والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

....................................
[1] سورة التوبة، الآية 71.
[2] هذا إذا لم تكن حكومة هذه البلدان النامية، هي التي تبادر باستجداء الخبراء.
[3] كأن تعطى لهم ملكية أو نسبة من ملكية بعض المعادن، ليستخرجوا منها على مدى 5۰ عاماً ما يسد الدين، وما يعطونه للدولة أيضاً متفضلين عليها!

اضف تعليق