q

نشر رسوم مسيئة للرسول الكريم بالتزامن مع الاحتجاجات الواسعة التي أثارها مقتل 12 شخصاً بينهم رجلا شرطة، و8 صحفيين، وإصابة 11 آخرين، الأربعاء الماضي، في هجوم استهدف مقر المجلة الساخرة في باريس، أعقبه هجمات أخرى أودت بحياة 5 أشخاص خلال الأيام الماضية، فضلا عن مصرع 3 مشتبه بهم في تنفيذ تلك الهجمات.

هل هي رسالة تضامن في الإساءة إلى الدين الإسلامي الذي يزيد عدد أتباعه على مليار وسبعمائة مليون إنسان بحجة حرية الرأي أم هي تعبير عن ثقافة الكراهية والعداء التي زرعها الساسة في ثنايا المجتمعات الغربية تجاه الإسلام كدين وثقافة وحياة؟! مع أن خطوة المجلة الفرنسية يمكن أن تصنف ظاهرياً في إطار التضامن مع ضحايا الإرهاب الاعمى، إلا أنها في واقع الأمر تأتي كنتاج لبيئة تُحقن منذ سنوات بأفكار ومواقف مشوهة تقصدت الإساءة إلى صورة الإسلام وإظهاره كعدو للحياة والإنسانية.

منتهى الإسفاف، في التبرير، عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الإسلامية، في مواجهة حماية الحريات الشخصية، عندما يتعلق الأمر بالغرب، والواقع أن الفارق، يكمن في الموقف العربي والإسلامي، في علاقته بالغرب، والذي يتسم بأنه موقف ضعيف، يقوم غالباً على رد الفعل الوقتي، والذي يغلب عليه الطابع الانفعالي، وهو أمر يعرفه الغرب تماماً، ويدركه، وينطبق ذلك على كل القضايا السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والفكرية، باختصار ينطبق على مجمل علاقتنا مع الغرب.

والحال نفسه، مع الكتابات المسيئة لديننا ولنبينا، منذ بدأت الهجمة الوقحة، في الدنمارك، قبل سنوات، وانتهاء بالفيلم القذر، والرسومات الحقيرة للمجلة الألمانية، ثم مجلة شارلي إيبدو الأخيرة... ماذا فعلنا...؟ انفعال جزئي، ثم تراخ، لنعاود الانفعال مرة أخرى... نريد تحركاً على الأرض، نشعر به الغرب، بحاجته إلى تغيير طريقة تعامله مع العالم الإسلامي، وإظهار احترام أكبر لقيمه الدينية ورموزه العظيمة والكريمة والجليلة...

لننظر ماذا فعلت إسرائيل سياسياً، (مرة أخرى، لا مجال للمقارنة، ولكن الفكرة لبيان مدى الضغوط التي تمارسها إسرائيل، ضد من تصفهم بمعاداة السامية).

في نهاية عام 2003، أعلن أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في ذلك الوقت خلال زيارته إلى بريطانيا، أن اليهود في العالم يواجهون حملة معاداة موجهة... فجاءت الإجابة من فرنسا، الرئيس جاك شيراك يعلن عن اتخاذ حكومته سياسة جديدة ضد معاداة اليهود في فرنسا، التي تطبقها حتى على الباحثين، في مجال ما يسمى بالمحرقة (الهولوكوست)!

وفي العام التالي مباشرة، جاء التحرك الأمريكي، من خلال إقرار الكونجرس، قانون معاداة السامية الذي يلزم وزارة الخارجية برصد وإحصاء الأعمال المعادية للسامية في العالم وتقويم مواقف الدول من هذه الأعمال... وصدّق عليه الرئيس جورج بوش الابن فور صدوره، وراحت العديد من الدول الأوروبية تحذو حذو الولايات المتحدة وتسن تباعاً قوانين مشابهة... والنتيجة أنه أصبح هناك حصانة لإسرائيل، وظفتها لتحقيق أهدافها التوسعية والعدوانية، وإرهاب كل من يقف ضد سياساتها الإجرامية مع العالم العربي...

ومع احترامنا الكامل للديانة اليهودية، كديانة سماوية، إلا أن البعد السياسي، لتجريم معاداة السامية، قنن دولياً حقوق الحرية الدينية لليهود، ورصد الأعمال الدعائية في وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية التي تبرر الكراهية لليهود أو التحريض على العنف ضدهم...

حكاية حرية الرأي التي يتعلل بها الغرب للتنصل من المسؤولية عن نشر الأسبوعية الفرنسية الصفراء على صفحتها الأولى رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد يذرف دمعة حاملا لافتة كتب عليها (انا شارلي) على غرار الملايين الذين تظاهروا الأحد دفاعاً عن حرية التعبير وكتب على أعلى الرسم بالعنوان العريض (كل شيء مغفور)... فحرية الرأي عند الغرب أقرب ما تكون إلى الحدوتة التي ترويها أم لطفلها قبيل النوم.

وصراحةً، لم يعد هناك عربي أو مسلم واحد يمكن الضحك عليه وإقناعه بأن الغرب بريء، ولا حتى بالقول كما فعلوا، وأن الحكومة الفرنسية لا تستطيع الوقوف ضدّ حرية التعبير في بلادها، وهذه لعمري كذبة الأكاذيب التي كنّا سنصدقها فقط لو أن الإدارة الفرنسية والغرب عموماً لا يكيل بمكيالين، أمّا وأن حكومات الغرب تتشدّد في منع أي إساءة للدّين اليهودي بل وتجرّم كل من يشكك في أسطورة الهولوكست بينما تدخل الإساءة للدين الإسلامي في دائرة حرية التعبير، فهذا ضحك على الذقون لا يصدقه أحد حتى وإن اجتهد ملوك النفط وسياسيو الاخوان وشيوخهم في محاولة تسويقه...

إن اعتبار مثل هذه الانتهاكات لحرمات الإسلام والمسلمين من قبيل رسم ونشر الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، على أنها ضرب من ضروب ممارسة حرية التعبير، هو بمثابة إضفاء الغطاء القانوني والحقوقي عليها.

فحرية التعبير في الغرب في مجملها انتقائية بمعنى أن أي حديث عن المحرقة اليهودية هو أمر مرفوض ويعد من الخطوط الحمراء، ومازلنا نتذكر مدى الهجوم الشديد الذي تعرض له المفكر الفرنسي روجيه غارودي الذي تحدث عن المحرقة بأسلوب علمي تاريخي، كما أن مسألة معاداة السامية تعد من الثوابت التي لا تجرؤ صحافة الغرب حتى على الإشارة لها. ومع ذلك فإن السخرية من الأديان والرسل عليهم السلام مراراً وتكراراً اعتبرت في الغرب حرية تعبير.‏

أليست مفارقة صارخة ومستفزة لمشاعر المسلمين في العالم، باعتباره في النتيجة على أنه شكل من أشكال ممارسة حق حرية التعبير؟ أي بتعبير أوضح، إن مجلة شارلي إيبدو بنشرها للصور المسيئة لنبينا عليه أزكى الصلوات، مارست حقاً طبيعياً إنسانياً من حقوقها التي تقررها الشرائع الحقوقية وتكفلها الدساتير! أليس هذا وأمثاله من أشد المفارقات ومن أغرب أشكال الخلط في المفاهيم الحقوقية الإنسانية؟ في الوقت الذي حوكم فيه الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي على كتاباته النقدية المفندة لبعض حكايات المحرقة النازية.

وفي الوقت الذي تمنع بعض القوانين الغربية التجديف ضد بعض الديانات والأعمال العبادية، وقد طالب المواطنون المسلمون في بريطانيا أثناء تداعيات كتاب الآيات الشيطانية لـ سلمان رشدي، بإضافة الدين الإسلامي إليها فلم يقبل طلبهم. والسؤال: أليست هذه الممارسات ترجمة واضحة لمزاولة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين؟

في الواقع إن إدراج مثل هذه الانتهاكات للمقدسات الإسلامية ضمن حرية التعبير، يعني إضفاء المشروعية القانونية والحقوقية عليها، وهو من شأنه أن ينقض منظومة قيم التسامح واحترام التنوع الثقافي والتعددية الفكرية واحترام الآخر والتعايش السلمي بين الشعوب المعتنقة لمختلف الأديان والمذاهب والمنتمية إلى مختلف الفلسفات والحضارات. إذ لا معنى للدعوة إلى تلكم المفاهيم والقيم فيما إذا اعتبر التعدي على مقدسات الأديان المتنوعة مزاولة لحق من حقوق الإنسان.

فأي قيمة تبقى لقبول تعدد الأديان والثقافات، وأي احترام يبقى لها إذا اعتبر تبادل انتهاك الحرمات الدينية بين أتباعها مزاولة لحق حرية التعبير؟ أخال أن هذا التخريج القانوني ـ اذا جاز التعبير ـ سيؤدي في النهاية إلى انهيار بناء هذه المنظومة من المفاهيم والقيم التي يتفاخر بها الإعلام الغربي ليل نهار، ويدعو شعوب العالم إلى تجسيدها.

وأيا كان، ونظراً لانتشار التنوع الديني والمذهبي والثقافي في مختلف دول العالم، وفي ضوء الترابط والتشابك الوثيقين بين دول العالم، فإن من شأن انتهاك المقدسات الدينية لهذا الفريق أو ذاك أن يسبب إخلالا بالأمن والسلم المجتمعيين في كثير من الدول في العالم، وقد ينعكس سلباً على مصالحها وعلاقاتها، فلا بد من وضع سقوف واضحة ومحددة لممارسة حرية التعبير بحيث لا تنتهي إلى التفلت والفوضى والتعدي على مقدسات الغير وإحداث فتن وتوترات دينية وعقائدية بين شعوب العالم.

ان المسلم العادي ليتساءل: ماذا بقي للمسلمين من حرمة عقدية أو مقدس ديني بعد انتهاك قدسية بعد الإعتداء اللا أخلاقي المتكرر على شخصية خاتم الأنبياء والمرسلين؟

يشعر المسلمون بالألم العميق لهذا التشويه المتعمد لسمعتهم وسمعة نبيهم وتعاليم دينهم، لكن لا يقبلون أيضاً أن يعبر بعضهم عن هذا الغضب برفع ساطور، أو إحراق سفارة أو تبني شعارات وأفعال مخالفة للقانون وأخلاق الإسلام،‏ وكل سلوك من هذا القبيل مرفوض رفضاً تاماً من دون أدنى تحفظ، ويشعر المسلمون أيضاً بالألم عندما يتهمون بمعاداة حرية التعبير من طرف بعض الكتاب والساسة الغربيين.

والحقيقة أن حرية التعبير مبدأ شريف ونبيل ينحاز له المسلمون بأغلبيتهم الساحقة ويكافحون ويقدمون التضحيات من أجله في بلدانهم والساحة العالمية،‏ والحرية أيضاً هدف من أعظم أهداف الإسلام ومن عظم شأنها في الإسلام أن شرط قبول إيمان الرجل أو المرأة هو أن يكون هذا الإيمان على الإرادة الحرة لصاحبه لأنه لا إكراه في الدين،‏ لكن الحرية لا تعني الشتم وإساءة السمعة والتحريض على كراهية المسلمين أو السود أو اليهود أو أي عرق آخر.‏

وفي القوانين المعمول بها حالياً في الدول الغربية تمييز واضح بين الحرية وبين التحريض على العنف والكراهية، ‏والمسلمون لا يريدون التمييز بحق أو معاملة خاصة على حساب المِلل والشعوب الأخرى، إنهم يريدون فقط أن تكون لهم نفس الحقوق وذات الحماية المكفولة للشعوب والديانات الأخرى.‏

لا ينبغي أن نكتفي بالشجب أو الإدانة، بل لا بد من تحرك عملي، ينتج عنه مراجعة السياسات الغربية، بدلاً من هذا الموقف الغربي الناقص والمائع، الذي لم يرق لمستوى الإدانة الرسمية المباشرة الواضحة والمحددة...

إن الخطوة القادمة، بالتحرك أيضاً، إزاء حث الأمم المتحدة لإصدار قانون دولي ملزم، بمنع إزدراء الأديان، هي خطوة وإن كانت متأخرة، إلا أنها تحتاج إلى إرادة سياسية، حان الوقت الآن لتحقيقها... ولابد من إدارة دبلوماسية إسلامية، على مستوى عال من الحرفية، للوقوف في وجه هذه الإساءات، وتفعيل العديد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، التي تحظر ازدراء الأديان، ومن بينها المعاهدة الدولية لمناهضة التمييز العنصري الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1965...

وقد آن الأوان من أجل أن تتجاوب الأسرة الدولية مع هذه المطالب العادلة فتسن قانوناً دولياً ملزماً يحمي الإسلام وسائر الديانات الأخرى في العالم من الحملات الظالمة التي تستهدف تشويه السمعة والتحريض على كراهية الشعوب بسبب انتمائها الديني ولن يكون هذا القانون بدعة تخترع بسبب إلحاح المسلمين إنما هو أمر معمول به في بريطانيا، حيث يوجد قانون يحمي المسيحية وقانون آخر يضمن حماية اليهود والسيخ ولن يضار أحد في العالم إذا استفاد العالم كله من التجربة البريطانية ووسعها لتكفل حماية الإسلام وسائر الديانات الأخرى.‏

هذا القانون أصبح اليوم مطلباً ضرورياً مستعجلاً ليس فقط من أجل حماية الإسلام والمسلمين من خطاب التحريض والكراهية ضدهم، لكن أيضاً من أجل حماية بقية الأديان، ومن حماية حرية التعبير والحيلولة دون استخدامها شعاراً تتستر به النزعات العنصرية وأيضاً من أجل السلام العالمي ومن أجل إتاحة الفرصة لتنمية علاقات الصداقة والتعاون بين المسلمين وأوروبا وبينهم وبين الغرب عموماً.‏ وسن مثل هذا القانون على الصعيد الدولي وتأييد الأوروبيين للمساعي الإسلامية المبذولة من أجل هذا الهدف سيكون الحل المنطقي والمشرف لجميع الأطراف وسيكون دليلاً على انتصار خطاب العقل والاعتدال والحرية على حساب خطاب التعصب والعنف والكراهية.‏

نريد في العالم الإسلامي أن نتحرك في هذا الاتجاه... علينا أن نضغط بكل ما أوتينا من قوة، سياسية ومادية واقتصادية وثقافية، لمنع ازدراء الإسلام، أو التعرض لمعتقداته، أو رموزه الشامخة... يمكننا أن نترجم ذلك، على الواقع، بدلا من العنف الذي نلجأ إليه، للتعبير عن رفضنا، لهذه المواقف الكريهة، من قلة جاهلة، لا تعرف قدر الإسلام...

إنني أدعو إلى مؤتمر إسلامي موسع لشرفاء الأمة وأحرارها وعلمائها ودعاتها ومفكريها... لا لحكامها التابعين الخانعين والمستسلمين، لوضع تصور حقيقي، لما يمكن أن يكون عليه التحرك الإسلامي، تجاه كل من تسول له نفسه المريضة، النيل من الإسلام... وأتصور أن مبادرة إنشاء مرصد عالمي لمتابعة الإساءات ضد الإسلام، هي خطوة مهمة، في هذا الاتجاه، بخاصة مع ضرورة وضع القواعد التي تنظم، كيفية التعامل مع مثل هذه الإساءات، ومن بينها، المقاطعة وفرض العقوبات السياسية والاقتصادية...

نعم المقاطعة وفرض العقوبات، (انظر فقط إلى فاتورة الواردات الإسلامية من الغرب)، نستطيع أن نستخدم المقاطعة الاقتصادية، وتوجيه الاستثمارات، لوقف هذه الإساءات.

وماذا بعد؟‏

لنغضب بقوة، دون عنف، لنرفض الإساءات، دون اعتداء، ولنغير من سياساتنا من رد الفعل إلى المبادرة.

..........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق