q

ونحن نعايش ذكريات تُحيي رموزنا وقادتنا، بين الفرح والحزن، ولادةً واستشهاداً، نعايش في الوقت نفسه المآسي والكوارث والنكبات المحيطة بشعوبنا، لاسيما في هذه المنطقة تحديداً من العالم، حيث واجهت شعوب الشرق الاوسط خلال السنوات الماضية، من القمع والاضطهاد والتشريد والتعذيب وغيرها... ما لم تجربه شعوب العالم في التاريخ المعاصر، فما هو السبب وراء كل ذلك؟.

الخبراء والباحثون والاعلاميون يأدون دورهم في تسليط الضوء على النتائج والافرازات في ابعادها الانسانية والسياسية والاقتصادية. فموجة الصقيع الراهنة – مثلاً- تسببت في موت عدد كبير من الاطفال والمرضى والشيوخ من ضحايا الحرب في سوريا من الذين يعيشون في الخيام وسط العراء. فهل ان خلافاً سياسياً على الحكم او بين المعارضة والحكومة، هو الذي تسبب في هذه المعاناة؟ أم إن مصالح شركات نفطية او مصانع ضخمة هي التي انتزعت المدنيين من بيوتهم وافقدتهم الامن والاستقرار وقذفت بهم في الصحاري والبراري...؟ وربما يُحسن بعض الخبراء في احاديثهم للاعلام، عندما يقطعون بعدم وجود رؤية سياسية ولا اقتصادية لتنظيم "داعش" الذي يرفع اليوم راية الحرب ضد الانظمة السياسية في المنطقة وضد الغرب. إنما هممهم نشر الفكر التكفيري الى العالم بـ "غلاف اسلامي"، بمعنى أن أساس المشكلة، فكرية – ثقافية ليست وليدة اليوم او الأمس، بقدر ما هي تستند الى جذور تاريخية تعود الى العهود الاسلامية الاولى.

بمراجعة بسيطة الى التاريخ الاسلامي الأول، وتسليط بعض الضوء على الوضع الاجتماعي والثقافي، نجد أن الامة واجهت مع السنين الاخيرة لعمر الدولة الاموية، وظهور الدولة العباسية، تحدياً فكرياً عنيفاً بسبب الانفتاح الحاصل على الأمم الاخرى، والسبب الآخر انشغال الدولة الحديثة بالهمّ السياسي والبحث في سبل تكريس السلطة وإطالة العمر على كرسي "الخلافة" اكثر من البحث في سبيل تكريس الثقافة الدينية الصحيحة من مصادرها الحقيقية. وبدلاً من ان يكون للتشريع مدرسة واحدة، هي نفس المدرسة التي أرسى دعائمها رسول الله، صلى الله عليه وآله، وبنى على اساسها أول دولة وحضارة باهرة، ظهرت المدارس الفقهية والتوجهات الفكرية الطامحة الى تشكيل وعي جديد لحياة الانسان، بعيداً عن بصائر القرآن الكريم، والاكتفاء بالبصيرة الانسانية. فالى جانب شخصية مثل "ابو حنيفة" في الساحة الفقهية، ظهرت الافكار الفلسفية القادمة من وراء الحدود، وظهر لها رموز ومتكلمين ومجادلين في مسجد رسول الله، بالمدينة المنورة وحواضر دينية وعلمية اخرى، وهم يرفعون راية التحدي أمام المدرسة الرسالية – المحمدية.

في هذه الفترة بالذات عاش الامام الصادق، عليه السلام، حيث كان التطرف الديني، بمنزلة الومضات في اذهان البعض. هذه الحالة غير السوّية كانت تعمّ معظم جوانب المجتمع، من الاحكام والسلوك والفكر، فكان الناس في حيرة من أمرهم إزاء الكثير من المسائل، لذا جاء الامام، عليه السلام، وحدد المعايير والموازين الصحيحة مستنداً في ذلك على منطق العقل وثوابت الدين، مثال ذلك؛ محاربته "القياس" في الاحكام الشرعية، واستدلالاته الرائعة ببطلان هذا المعيار في كثير من الامور والقضايا، الى جانب الاحكام الشرعية، وايضاً مواجهته "القدرية"، وأن "لا جبر ولا تفويض إنما أمرٌ بين أمرين". والتأكيد على مسألة الارادة وحرية اتخاذ القرار التي منحها الله تعالى، للانسان ليجد هو بنفسه الطريق الصحيح في الحياة.

هذا الخط الممتد الى رسول الله، صلى الله عليه وآله، هو الذي اجتذب حوالي ثلاث أو اربع آلاف عالم دين ومحدّث كانوا يتلقون العلوم الدينية والانسانية من الامام الصادق، عليه السلام، ومنهم رموز المذاهب الاسلامية الاربعة المعروفة، وهو الذي دفع بعلماء الغرب لأن يعترفوا بأحقية وأعلمية الامام الصادق. ففي كتاب ألفه مجموعة من علماء الغرب بعنوان "الامام الصادق كما عرفه علماء الغرب"، وصدر عام 1970، باللغة الفرنسية ثم ترجم الى العربية، وأقر فيه هؤلاء، بأسبقية الامام في العلوم الطبيعية والانسانية وكثير من المكتشفات العلمية التي توصل اليها الانسان اليوم، وأنه "سبق عصره بألف عام".

سماحة الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- في إحدى محاضراته القيّمة حول الامام الصادق، عليه السلام، يشير الى أن هذا الكتاب تضمّن مسائل علمية باهرة اكتشفها الامام، عليها السلام: منها؛ تخطئة نظرية "بطليموس" في كيفية حركة الشمس مع أن هذه النظرية كانت حاكمة في العالم لمدة (560) عاماً، واكتشاف الامام "الأوكسجين" من بين عناصر الهواء، ويتحدث الكتاب حول نسبية الزمن عند الإمام الصادق، وهي النظرية التي تُنسب إلى "إينشتاين"، كما يتحدث عن إنتقال الأمراض عن طريق الضوء...

ولنا ان نسأل اين نحن من كل هذه العلوم والمكتشفات...؟ ولماذا يجب أن ينام المسملون تحت الخيام في طقس شديد البرودة بعد ان تركوا ديارهم مهدمة تسكنها المجموعات الارهابية المسلحة؟

من المؤكد أن لا يجد الانسان الغربي، لاسيما في الدول التي صدّرت العناصر الارهابية والتكفيرية الى بلادنا، في مقدمتها فرنسا وبريطانيا، علاقة بين هذا السبق العلمي والحضاري، حوبين ما يجري اليوم من مآسي على شعوبنا، كما لو أن المسلمون – بمختلف طوائفهم – لا شأن لهم بما قدمه الامام الصادق، عليه السلام، من انجازات علمية، او انهم دون هذا المستوى، والسبب في ذلك، انفصال الامة عن ذلك الوجه المشرق للدين، ليحلّ محله الوجه المتطرف والبشع الداعي الى كل ما يناقض الفطرة الانسانية، من قسوة وحقد وكراهية وتضليل.

والمرحلة الخطيرة التي نعيشها؛ محاولة تنفخ فيها اوساط عديدة ذات مصلحة مشتركة في المنطقة، لأن تقدم الاسلام على الصورة التي نراها اليوم حتى بات "الرعب الاسلامي" أحد المفردات الاعلامية في العالم، بدعوى أن الذبح والنسف والتشريد وحتى انتهاك الاعراض والمقدسات من المباحات التي قام بها من يطلقون عليهم "السلف الصالح"، وهم ليسوا سوى بضعة اشخاص عاصروا النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وبعضهم ورد ذمّه الصريح في القرآن الكريم، والبعض الآخر من تلبّس بالنفاق منذ إعلان إسلامه...

بيد ان الحقيقة الناصعة لن تغيب أمام كل منصف وباحث موضوعي، حتى وإن بدأ بعيداً عن القناعات والمسلّمات المسبقة. فانه سيجد أن الامام الصادق، عليه السلام، وبالتحديد، صاحب الصورة التي يفترض ان تقدم للغرب والعالم على أنها الاسلام المتكامل والصحيح الذي لا تشوبها شائبة.

اضف تعليق