q

صدرت يوم السبت آخر طبعة ورقية من صحيفة السفير اللبنانية إذ اضطرت للإغلاق بعد 42 عاما في عالم الصحافة بسبب مشكلات مالية فيما تواجه منافذ إخبارية أخرى في لبنان صعوبات مشابهة.

وجاءت في صدر الصفحة الأولى افتتاحية بعنوان "الوطن بلا السفير".

وقالت الافتتاحية "كانت الصحافة ولا تزال مرآة المجتمع. ولهذا تحديدا كانت متألقة وصارت تعاني. فالمجتمع ليس بخير والاقتصاد ليس بخير والسياسة ليست بخير وهذا كله لا يمكن إلا أن ينعكس على الصحافة وينهكها."

وفي وقت سابق من العام ألقى طلال سلمان رئيس تحرير السفير باللائمة في إغلاق الصحيفة على هبوط العائدات والمشكلات السياسية والطائفية في لبنان في ظل عدم انتخاب رئيس آنذاك وغياب مؤسسات فاعلة للدولة.

وانتخب البرلمان اللبناني ميشال عون رئيسا في أكتوبر تشرين الأول بعد أكثر من عامين دون رئيس كما تشكلت حكومة جديدة هذا الشهر.

وتباطأ نمو اقتصاد لبنان منذ انهيار حكومة الوحدة ونشوب الحرب الأهلية في سوريا المجاورة في 2011. ولم يسجل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد إلا اثنين بالمئة في 2014.

وقالت افتتاحية السفير إنه على الرغم من تفادي لبنان لمستويات العنف التي بليت بها أغلب المنطقة في السنوات الأخيرة فإن التأثيرات الاقتصادية والسياسية على البلد الصغير الذي يؤوي أكثر من مليون لاجئ سوري ألقت بضغوط هائلة على الصحافة التي كانت مزدهرة يوما في البلاد. بحسب رويترز.

وتأسست السفير - المقربة من جماعة حزب الله اللبنانية الشيعية - عام 1974 تحت شعار "صوت الذين لا صوت لهم".

وفي الصفحة الأولى من الطبعة الأخيرة نشرت الصحيفة رسما كاريكاتيريا تألف من قلم مكسور وحمامة دامعة وشخصية حنظلة الشهيرة التي ابتكرها رسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي الذي كان يعمل في السفير.

وتأثرت صحف أخرى بالمتاعب الاقتصادية في لبنان من بينها صحيفة النهار التي تستعد لخفض كبير في عدد العاملين بها.

وحثت نقابة الصحفيين اللبنانية الحكومة الأسبوع الماضي على اتخاذ إجراءات لتقوية الصحافة المطبوعة في البلاد. وقالت السفير إن هناك مناقشات مع وزير الإعلام الجديد بشأن تمويل محتمل للقطاع قد يصل إلى 15 مليون دولار سنويا. لكن الحكومة لم تصدق على تلك الخطة بعد.

وربطت احتجابها عن الصدور بالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان والمنطقة. واضافت "تعبت السفير لكنها ترفض أن تكون المثال، خصوصاً أنها ترى في أفق المهنة بعض النور. إذ لا يعقل أن يبقى الظلام المخيّم على المنطقة والبلد جاثماً على صدرها وزميلاتها لوقت طويل".

وابلغت الصحيفة موظفيها انها ستدفع كامل مستحقاتهم المادية منتصف الشهر المقبل تزامنا مع نشرها اعلانا على القنوات التلفزيونية تظهر مؤسسها ورئيس تحريرها طلال سلمان وهو يطفىء الضوء داخل مكتبه ويخرج منه، قبل ان يضيء المصباح وحده مجددا داخل المكتب مع عبارة "عالطريق". بحسب فرانس برس.

وكانت السفير اتخذت في شهر آذار/مارس قرارا بالتوقف عن الصدور لتتراجع عنه وتقرر خفض عدد صفحاتها من 18 الى 12، قبل ان تتخذ قرارا جديدا بالاقفال النهائي قبل اسابيع.

واستقطبت السفير التي عرفت منذ تأسيسها بتاييدها للقومية العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلال فترة الحرب الاهلية، عددا كبيرا من الكتاب والنقاد والصحافيين على مر السنوات، بينهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر السوري ادونيس. كما التصق اسمها لفترة طويلة باسم رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي.

وكانت الصحيفة خلال السنوات الاخيرة قريبة من حزب الله اللبناني ودمشق وتجاهر بمناهضة سياسات الادارات الاميركية المتعاقبة.

وتعاني وسائل إعلامية اخرى في لبنان من الازمة ذاتها ما دفعها الى الاستغناء عن صحافيين وموظفين يعملون فيها منذ عقود.

وتعاني صحيفة "النهار" الاعرق في لبنان (تأسست العام 1933) والتي يمكن اعتبار سياستها على طرف نقيض من "السفير"، من ازمة مالية كبرى، وكذلك صحف ومحطات تلفزة، بينها مؤسسات تابعة لرئيس الحكومة سعد الحريري.

وطلبت النهار الجمعة في كتاب خطي من اكثر من اربعين موظفا بين كاتب ومحرر ومراسل ومخرج اخيرا "الامتناع عن الحضور" الى مكاتبهم بدءا من مطلع كانون الثاني/يناير بانتظار "معالجة الازمة المالية" التي تعاني منها، وفق ما قال احد العاملين في الصحيفة لفرانس برس.

وجاء في نهاية الكتاب الموقع من رئيسة مجلس ادارة النهار نايلة تويني "التاكيد على ان هذا الكتاب لا يعتبر او يفسر بمثابة صرفكم من العمل". ولم يتقاض موظفو النهار اي رواتب منذ 15 شهرا، وتم خلال الاسبوع الماضي تسديد راتب شهر واحد فقط.

ويقول طلال سلمان، مؤسس ورئيس تحرير "السفير" ذات الميول اليسارية، لوكالة فرانس برس، "لم يعد لدينا بارود"، مضيفا "نبحث حاليا عن شريك لتعزيز الرأسمال مع ضغط المصروف... سنبذل اقصى جهد ممكن وحتى آخر قرش".

وبحسب سلمان، "لم تمر الصحافة في لبنان الذي لطالما كان رائدا على الساحة الاعلامية العربية، بأزمة بهذه الشدة من قبل. انها اسوأ الازمات على الاطلاق".

وانكفأ لبنان منذ بدء النزاع في سوريا المجاورة عن الواجهة السياسية والاعلامية في منطقة غارقة في الحروب. وساهمت الازمة في سوريا في تعميق الانقسامات الداخلية وفي شلل المؤسسات. فشغر منصب رئاسة الجمهورية منذ ايار/مايو 2014، وتم ارجاء الانتخابات النيابية مرتين. وبرغم تكدس الازمات المعيشية، يعجز البرلمان او الحكومة عن الاجتماع او اتخاذ القرارات.

ويقول سلمان "هناك خواء في الحياة السياسية في لبنان (...) ولا صحافة في غياب السياسة، ولا سياسة في لبنان اليوم".

ويؤكد محمد فرحات، مدير تحرير صحيفة "الحياة" الصادرة من لندن، ان "ازمة الصحافة اللبنانية جزء من ازمة لبنان، وحياة الصحافة نابعة من السياسة، وفي حال ماتت السياسة ماتت الصحافة".

وتنقسم وسائل الاعلام اللبنانية اجمالا حاليا، كما الخارطة السياسية، بين مؤيدة لقوى 14 آذار ومن ابرز مكوناتها تيار المستقبل بزعامة الحريري، وقوى 8 آذار وابرز مكوناتها حزب الله.

ويوضح الاستاذ في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية احمد زين الدين "الصحافة العربية عموما واللبنانية تحديدا ليست صحافة جمهور ولكنها صحافة تمويل. (...)، تقوم على التمويل الذي يأتي من جهات سياسية او اقتصادية ودول اخرى".

ومنذ حوالى عامين، تواجه صحيفة "المستقبل" وتلفزيون "المستقبل" المملوكان من الحريري صعوبات جمة في تسديد رواتب موظفيهم، وبلغ بهما الامر مرة الى التوقف عن الدفع لاكثر من عشرة اشهر متواصلة.

ونشرت تقارير مختلفة تتحدث عن مشاكل مالية يعاني منها الحريري، وصولا الى تساؤل البعض عما اذا كان السياسي ورجل الاعمال، نجل رفيق الحريري الذي صنع ثروته في السعودية، قد خسر شيئا من دعم الرياض، في وقت تشهد العلاقات اللبنانية السعودية فتورا متناميا بسبب غضب الرياض من نفوذ حزب الله المدعوم من ايران على الساحة اللبنانية.

ولا يقتصر الامر على الصحف، اذ طردت محطتا "ال بي سي آي" و"الجديد" التلفزيونيتان في العام 2015 عددا كبيرا من الموظفين.

ويرى عميد كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية جورج صدقة ان احد اهم اسباب ازمة الصحافة اليوم يكمن في "تراجع المال السياسي والدعم من الانظمة العربية اللذين كانا يمولان قسما كبيرا من الاعلام اللبناني".

وعلى مر تاريخه الحديث، حولت مساحة الحريات في لبنان الاعلام اللبناني الى اداة للصراعات الاقليمية. ودفع صحافيون حياتهم ثمن هذه الحرية، من نسيب المتني وسليم اللوزي ورياض طه وغسان كنفاني وصولا الى جبران تويني وسمير قصير.

وتعرض طلال سلمان في العام 1984 لمحاولة اغتيال، واستهدفت صحيفته التي عرفت بتاييدها للقومية العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلال فترة الحرب الاهلية (1975-1990).

وخلال تلك الحرب، كانت ليبيا والعراق وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية من ابرز الجهات الممولة للصحافة اللبنانية. وبرزت بعد الحرب كل من السعودية وقطر وايران.

ويقول صدقة "فقد الاعلام اللبناني تأثيره وتراجعت سلطته ما يعني تراجع الفائدة منه بالنسبة للانظمة العربية التي كانت تموله"، فهي لم تعد بحاجة الى وسيلة لبنانية لتمرير رسائلها بل تعمد مباشرة الى تمويل وسائل خاصة بها.

وفي صيف 2015، اظهرت وثائق نشرها موقع "ويكيليكس" ان محطة تلفزيونية لبنانية مؤيدة لقوى 14 اذار حصلت على مساعدة سعودية بمليوني دولار، وهو "عشر ما كانت تطلبه" المحطة، بحسب الوثيقة.

ويضاف الى تراجع التمويل السياسي، تأثر سوق الاعلانات التي كانت تساهم في تمويل المؤسسات الاعلامية بالازمة السياسية.

ويقول رئيس المنظمة الدولية للاعلان - فرع لبنان ناجي عيتاني لوكالة فرانس برس ان شركات الاعلان باتت تدرك ان "اهتمام اللبنانيين بالصحف والمجلات التقليدية تراجع لصالح وسائل التواصل الاجتماعي او حتى التلفزيون".

ووفق شركة ابسوس لابحاث الاسواق، تراجعت الاعلانات في الصحف اللبنانية 10,7 في المئة بين 2014 و2015.

ويقول زين الدين "الصحافة اللبنانية لم تتأقلم مع السوق الاعلامي الجديد، ولم تستشرف الازمة"، مضيفا ان الحل اليوم في "اعادة تنظيم الصحافة لنفسها والتعامل مع التحولات الجديدة".

ماذا قال كتاب السفير في اطلالتها الورقية الأخيرة؟

كتب ايلي الفرزلي تحت عنوان الوطن.. بلا «السفير»:

تعبت «السفير»، لكنها ترفض أن تكون المثال، خصوصاً أنها ترى في أفق المهنة بعض النور. إذ لا يعقل أن يبقى الظلام المخيّم على المنطقة والبلد جاثماً على صدرها وزميلاتها لوقت طويل.

ثم، ماذا يعني أن تقفل صحيفة لبنانية أبوابها؟ هل قلّت مساحة الحرية في البلد إلى درجة لم يعد للصحافة المستقلة من مكان فيها، أم أن الخواء صار صفة ملازمة، لبلد يفشل مسؤولوه، خلال سنتين، من رفع النفايات من أمام المنازل، تماماً كما يفشلون في إنارة هذه المنازل بكهرباء صرفوا عليها مليارات الدولارات ولا تزال مقننة!

الصحافة واجهة الأوطان. ولأنها كذلك تميّز الإعلام اللبناني عن مثيله العربي. فتداول السلطة في لبنان سمح بوجود منصات إعلامية عريقة قادرة على مواكبته بصناعة متطورة وحرة. المعيار نفسه حكم الصحافة في العالم الأول، لكن في تلك الدول، يتم التعامل معها أيضاً كقطاع اقتصادي أساسي، مثلها مثل الصناعة والزراعة والتعليم، وكرمز وطني مثلها مثل العلم.

للصحافة المكتوبة اللبنانية تاريخ عريق، جعل العاملين فيها ينتشرون في مختلف الدول العربية، فيزرعون فيها بذور المهنة. لكن هؤلاء الصحافيين أنفسهم مارسوا المهنة في بلدهم كفعل نضال يومي.. بعدما تخلّت السلطات المتعاقبة عنهم، ولم تتعامل مع الصحافة كوجه حضاري، بل كانت في معظم الأحيان ولا تزال على خصومة دائمة معها.

الصحافة الورقية تحديداً لم تمُت. لا بل إن مرضها قابل للعلاج. ليست المعجزات مطلوبة بل السياسات. وهذا يستدعي بداية وجود سلطة تملك رؤية. الأمل ليس كبيراً في سلطة لبنانية لم تتأخّر في التنبّه إلى أن التصدع الذي يصيب المهنة، إنما يصيب البلد أيضاً، بل في كونها تريد أن تكدّس ثروة وسلطة ومحسوبيات ولو على حساب هواء الناس وشربهم وأكلهم وحياتهم.

الصحف الورقية تعاني أزمة وجودية، لكنها لن تموت. هو عصر جديد ينبغي التعامل معه بأدواته. الانتقال مطلوب جماعياً لا فردياً فقط. وجماعياً يمكن قراءة الموضوع من عنوانه. فنقابة صحافة تغرق في الزبائنية، ولا تمثل سوى أصحاب الامتيازات والأموال، ولم تنتبه إلى أن الصحافة تعاني.. لا يمكن أن تؤتمن على مهنة مرهقة، وينسحب ذلك أيضاً على نقابة المحرّرين.

المطلوب ثورة في الجسم الإعلامي حتى يُعيد الحد الأدنى من الاعتبار لنفسه، قبل أن ينطلق لمطالبة الآخرين بواجباتهم.

وكتب فريد الخازن تحت عنوان لا سفارة ولا أوطان:

لطالما سارت «السفير» في الاتجاه المعاكس للسائد في السياسة والثقافة والاقتصاد، إشارة للإنذار المبكر في زمن الرتابة والخواء. ومن صفوفها، خرج قناصل باتوا سفراء. قالت كلمتها وهي الآن مضطرة أن تمشي.

سفارة طلال سلمان لا تشبه سوى نفسها، في عالم عربي لم يعد يشبه أهله، أو الأهل الذين أنجبوا الزمن الذي أطلق «السفير» ولم يعد قادرا على الانطلاق بعدما تكسرت الاجنحة. زمن كانت السفير فيه صوت لبنان، الدور والمبادرة والحريات، في الوطن العربي، وصوت الوطن العربي الخافت في كل مكان.

وكتب محمد صالح الفتيح تحت عنوان على أبواب المستقبل هل نصل متأخرين مرةً أخرى:

تنتهي اليوم المسيرة الحافلة لصحيفة «السفير»، ولهذه النهاية جملة من الأسباب الخاصة، المتعلقة بمؤسسة «السفير» نفسها، والأسباب العامة، المتعلقة بالنظام السياسي والاقتصادي العربي والتغييرات الكبرى في مجال الصحافة والإعلام وتقنيات الاتصالات، ولا حاجة هنا للتذكير بعدد المؤسسات الإعلامية العريقة التي واجهت خلال السنوات الماضية خيارات الإغلاق أو الخضوع لتغييرات جذرية للتأقلم مع الوقائع الجديدة. ولكن لو قدر لصحيفة «السفير» أن تستمر لعقد أو عقدين آخرين، لواجهت غالباً حزمةً مختلفةً من التحديات التي تعكس التطورات المتسارعة في مجالي الاقتصاد والتكنولوجيا. والمجالان مرتبطان بطبيعة الحال.

وكتب الفضل شلق تحت عنوان صوت الذين اختفى صوتهم:

«صوت الذين لا صوت لهم». خَفت هذا الصوت أخيراً، فباتت «السفير» تنازع. ترحل الآن بعد أكثر من أربعين عاما من النضال، الكثيرون يملأ الأسى قلوبهم. بعضهم يقيس عمره بسنوات «السفير». ترحل «السفير» ويشعر الواحد منا بأن أنفاسه ترحل معها.

إذا كان المال هو المشكلة فمن سوف يصدق أنه لم يعد لدى المتعاطين من هذه الأمة ما يكفي من المال لإدامة عمر «السفير». أما كان بالإمكان إجراء عملية بيع وشراء من أجل الاستدامة.

.. أم تتعلق المسألة بالخط الذي انتهجته «السفير». صارت قضيتها مرفوضة لدى أهل رأس المال، حتى تركوها تنازع كي يخلصوا منها.

مع رحيل «السفير» يتساءل الناس حول أنفسهم، وهي الجريدة التي كانت متكأً لمن وافقها وعارضها. صحيح ان لبنان دون «السفير» أمر آخر. الاصح ان القراء أو من بقي، منهم سيفتقدون علاجاً صباحياً.

في كل العالم تنتشر تقنيات جعلت الصحيفة الورقية غير لازمة. كثير من الناس، بمن فيهم من المثقفين، يقرأون الألواح الذكية، هذا إن قرأوا. احدى مشاكل مجتمعنا ان القراء من كل نوع انخفض عددهم بقي جيلنا الذي تعود تحسس الورق كل صباح.

آخر فرسان الساموراي (اليابانيون في أواسط القرن التاسع عشر) وجد اميركيا يدربه. فارس السفير، طلال سلمان، ابى ذلك: قضايانا يدافع عنها أهلها وحسب.

عشت مع «السفير» من خارجها، خلال السنوات العشر الأخيرة. افتتاحية كل أسبوع. لم أتخلف يوماً عن الكتابة لنهار الجمعة. كنت اعتقد أن لديّ رسالة هي أن اكتب من موضعي في صحيفة انفض عنها من يفترض أن سجلّ قيدي يجعل انتمائي لهم. التوسط لم يعد ينفع. كل مستقل مضطهد، سواء أنا أو جريدة «السفير».

حزن عميق على جريدة «السفير» وعلى أنفسنا. قلق شديد على مجتمعنا. شيء ما يتغير. الأكيد أنه ليس نحو ما هو أفضل.

وكتب غسان العياش تحت عنوان المشهد الأخير:

ساعات ويطفئ العام الجاري شمعته الأخيرة. إنها الساعات نفسها التي تسبق إقفال «السفير» وغياب شعاعها المنير، الذي رفض أن يبهت أو يختفي، فيما الأمّة تحتضر شيئا فشيئا وتغرق في غياهب الظلام.

كيف لا تقفل «السفير» أبوابها وتمتنع عن الصدور؟

بات العالم كله يعرف أن الصحافة المكتوبة تواجه أزمة وجود، في كل مكان على وجه الأرض. ولكن أزمة الصحافة شيء ومحنة «السفير» شيء آخر.

«السفير» ليست بمنأى عن أزمة الصحافة وأسبابها، لكن محنة «السفير» أعمق جذورا وأوسع مدى. فقد كرّست الجريدة حياتها لتكون صدى العروبة في لبنان، ولتكون صوت حركات التحرّر والاستقلال العربية، وصوت فلسطين. لكن العروبة اختنقت على مرّ السنين وتلاشت القوّة الداعمة لقضاياها، وصار الشعب الفلسطيني يتيما. مع ذلك بقي صوت العروبة في لبنان صادحا ومغرّدا، لأن «السفير» لم ترفع الرايات البيضاء.

بنى طلال سلمان من خلال «السفير» صرحا للعرب وقضايا العرب، وبات هو، بشخصه، واحدا من أبرز أقطاب الصحافة العربية، في عصرنا وعصره. لا عجب في ذلك، فلطالما كان لبنان مدرسة تصدّر عمالقة الصحافة والرأي إلى العالم العربي، روّاداً يرشدون العرب إلى دروب النهضة والتنوير عندما تبلغ الأزمة القومية حدّها ويسود الظلام والسكون.

فماذا تفعل «السفير» في «زمان الطائفية»؟ في زمن الاستسلام، ليس الاستسلام لضياع هذه الأرض العربية أو تلك، بل ضياع روح العرب وعقلهم وقلبهم.

ولا يخفى على متابعي مسيرة «السفير» عن كثب حجم المعاناة التي عاشتها الجريدة مع محبّيها عندما تجاوزت المجال الزمني للمرحلة الوطنية، ودخلت قسرا في قلب المجرّة السوداء.

اضف تعليق