q

بعد أكثر من ستة أشهر من الأزمة بين تركيا وروسيا، فوجئ الجانبين على حد سواء بما أعلنه المتحدث الرسمي باسم الكريملين ديمتري بيسكوف، عن تقديم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اعتذارا لنظريه الروسي فلاديمير بوتين بسبب إسقاط المقاتلة الروسية، وداعيًا إلى إصلاح العلاقات بين البلدين خلال الفترة المقبلة. وليس هذا فحسب بل عبر اردوغان عن تعاطفه وتعازيه الحارة لعائلة الطيار الروسي الذي قتل نتيجة الحادث، متعهدًا ببذل كل ما بوسعه لإصلاح العلاقات الودية تقليديًا بين تركيا وروسيا، إضافة إلى التعهد بتقديم المتورطين في هذا الحادث للمحاكمة، وتعويض أهالي الطيار القتيل.

موسكو المتعطشة لهذه اللحظة لاستثمارها سياسيا لم تتردد لحظة في قبول الاعتذار والترحيب به بصورة كبيرة، معتبرة ذلك انتصارًا دبلوماسيًا يعيد لها هيبتها في وقت حاسم، وتاكيدا لرغبة الطرفين بمحو ازمة المقاتلة الروسية من ذاكرة العلاقات بين الطرفين قبل وزير الخارجية التركي مولولد جاويش أوغلو دعوة روسيا الرسمية لحضور مؤتمر اقتصادي في مدينة سوتشي الروسية في الأول من الشهر المقبل، كأول خطوة نحو استئناف العلاقات بين البلدين.

خمسة قرون من الشد والجذب بين الجانبين الروسي - التركي اتسمت علاقاتهما بالبراغماتية على اساس ضمان مصالح الطرفين، ومن الصدف ان يصعد نجم رئيسي البلدين بوتين واردوغان في فترة زمنية متقاربة او متزامنة وهما المعروفان بطموحاتهما الواسعة، وبالنسبة للرئيس اردوغان صاحب الاعتذار الشهير فقد مرت بلاده ب ثلاث محطات رئيسية منذ صعود نجمه وحتى اعتذاره لروسيا:

مرحلة ما قبل الازمة السورية: في هذه المرحلة يعود الفضل للرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالارتقاء في بلاده للمكانة التي وصلت اليها في السنوات الاخيرة بفضل خططه الاقتصادية وبرامجه الاصلاحية في السياسة التركية والمؤسسة العسكرية ايضا، وقد اتبع سياسة صفر مشاكل كما يحلو لبعض المحللين تسميتها، مستفيدا من رفيقه السابق المستقيل مؤخرا من رئاسة الوزراء "احمد داوود اوغلو" والذي يصفه البعض بالاستاذ او مهندس السياسة التركية. وفي هذه المرحلة اتسمت بتوسيع علاقات تركيا مع مختلف دول العالم بما فيها روسيا واصبحت مركزا مهما للجذب الاقتصادي والسياحي.

مرحلة الازمة السورية: في هذه المرحلة انعطفت تركيا نحو المعسكر السعودي التركي ودخلت في دوامة السياسات الارتجالية لهذه الدول، والسبب في ذلك هو الحسابات الخاطئة للقيادة التركية، فهي كانت تظن ان ايام الرئيس السوري بشار الاسد باتت معدودة منذ الايام الاولى للازمة، ولم تكن تتوقع ان يتدخل الايرانيون بهذا المستوى اما التدخل الروسي فحتى بشار الاسد ربما لم يكن يتوقع ذلك. وفور تدخل موسكو حتى بدت الخلافات واضحة بين الاتراك والروس، بسبب الرؤية المتقاطقة للحل في سوريا، الى ان وصلت الامور لاسقاط المقاتلة الروسية والتي ادت الى قطع العلاقات التجارية وفرض عقوبات اقتصادية روسية على تركيا اضرت بالطرفين.

مرحلة ما بعد الاعتذار لروسيا: هذه المرحلة بدأت بعد الاعتذار عن اسقاط المقاتلة الروسية وهي تسير بخطى متسارعة ربما لا نستطيع الحديث عنها كثيرا وقد يكون من غير المنطقي ان نكتب عن مرحلة لم تحدث بعد، الان ان كل المؤشرات تؤكد اننا اما مرحلة جديدة تختلف عن المرحلتين السابقتين وقد تؤسس لعلاقة جديدة تصل الى مستوى التحالف بين الطرفين لا سيما وان العالم يعيش هذه الايام في اجواء متناقضة تماما فعدو الامس قد يصبح من اكثر الاصدقاء قربا والعكس صحيح.

في هذه المراحل الثلاثة حاول اردوغان ايجاد مكانة مميزة لبلاده، فتركيا تطمح الى لعب دور فاعل في منطقة الشرق الاوسط وكل ماتفعله يسير في هذا الاتجاه بغض النظر ان كان ذلك صحيحا ام خاطئا، فالمؤكد انها دولة طموحة بقيادة تريد العودة الى الامجاد العثمانية، واصرارها على الدخول في الاتحاد الاوربي احدى محطات البحث عن المكانة المفقودة في العالم المتحضر، وقد استخدمت كل ما تملكه من اوراق سياسية وغير سياسية من اجل الحصول على عضوية الاتحاد الاوربي الا انها فشل في ذلك، وحتى استثمارها للاجئين كوسيلة ضغط لم يكن كافيا لهذه الغاية بل اعطى نتائج عكسية.

الاستفتاح البريطاني وتصويت ما يصل الى 52% من الناخبين للخروج من الاتحاد الاوربي وما رافقه من ارباك وفوضى عمت الاتحاد الاوربي قد تكون احدى العوامل الرئيسة التي عجلت بالاعتذار التركي لروسيا، فاوربا بعد الاستفتاء البريطاني لم تعد كما قبلها وبريقها للاتراك لم يعد كما في السابق اضافة الى ما تمتلكه الدولة الطامحة للامجاد العثمانية من رصيد كبير من الرفض والابتزاز لرغبتها بمشروع انضمامها لهذا الاتحاد القاري، وبالتالي فليس غريبا ان يتزامن الاعتذار التركي مع خروج بريطانيا حيث فقدت الامل بسند اوربي حال تعرضها لخطر خارجي (لا سيما بعد تخلي حليفها الامريكي عنها)، فهذا الحدث قد اجل ان لم يكن انهى كل الاحلام السابقة وبالتالي فليس من المنطق التمسك بهذا المطلب.

الاتراك اعادوا حساباتهم بشكل جذري والعلاقات الدولية لا تعترف بالصدفة وكل شيء يسير وفق خطط مرسومة بشكل دقيق، وتزامن تطبيع العلاقات التركية - الاسرائيلية مع الاعتذار لروسيا يعد دليلا على هذا التغيير الجذري، واردوغان وادارته شعر بالاخطار التي تحاصره وما من سبيل للخروج من الوضع الراهن الا الاتجاه شرقا وبالتحديد نحو روسيا، الشريك الاقتصادي الذي يسيل له لعاب الشركات التركية.

المشتركات بين روسيا وتركيا واضحة تماما فالمصالح الاقتصادية هي المحرك الاساسي للعلاقات بين الطرفين، الا ان هناك ما هو ابعد من الاقتصاد وقد يدفع العلاقات بين البلدين الى البدأ بمرحلة جديدة قد ترتقي الى مستوى التحالف غير المعلن فتركيا بدأت تدفع فاتورة الارهاب والاانفجاران اللذان ضربا مطار أتاتورك الدولي في مدينة اسطنبول ليس اول الغيث ومؤكد سيكون القادم اصعب لتركيا في هذا المجال، وروسيا تشاركها هذا الخوف، بالاضافة الى ان الطرفين يطمحان الى استعادة مكانتهما في العالم (المكانة الدولية بالنسبة لروسيا والاقليمية بالنسبة لتركيا).

النقطة الابرز والتي يتشارك فيها الطرفان هو الاضرار التي لحقت بهما جراء السياسات الغربية، فروسيا تقبع تحت العقوبات الغربية بسبب الملف الاوكراني واقتطاعها جزيرة القرم، وتركيا تعاني من الرفض الاوربي المتكرر لطبها بالانضمام للاتحاد الاوربي وبالتالي فهما يتحملان نفس الضرر السياسي وما يتبعه من نفس المصدر اي اوربا والقول الماثور يقول: "عدو عدوي صديقي".

المصالحة التركية الروسية ستعيد ترتيب الاوراق في العلاقات الدولية التي تسير هذه الايام على رمال متحركة، الاتحاد الاوربي الذي لا يزال يعاني من اوجاع العملية القيصرية البريطانية قد يكون في وضع اصعب امام روسيا التي سيكون موقفها اقوى مع فرض نفسها كقطب عالمي ماثر في السياسية الدولية، وفلادمير بوتين قناص الفرص لا يمكنه ان يفوت هذه الفرصة للتصالح مع تركيا مع ما توفر له من اضافة لمعانا اكثر لسمعته اللامعة في عالم القادة الكبار، بالاضافة الى الفوائد الاقتصادية التي تكون هي الاهم من كل شيء. ومن المفارقة ان يستعيد الروبل بعضا من قيمته مقابل الدولار بالتزامن مع اعتذار اردوغان في الوقت الذي تهبط فيه العملة الاوربية الموحدة مع استمرار ازمة الطلاق البريطاني.

اضف تعليق