q

بلاد ما بين النهرين تغيرت احوالها، والواصف المنصف لها ان تكون "بلاد ما بين الدولتين"، فالتاريخ القديم والحديث يتحدث عن صراعات دموية بين الدول العظمى على ارض العراق وأدت الى تأخر العراق عن تدوين اسمه في سجل الدول الإقليمية الكبرى او حتى قيادة العالم لا سيما وانه يمتلك من الموارد ما يجعله الرقم الأصعب في جميع المجالات.

العراق الذي تحول بعد عام 2003 الى ساحة للصراع بين عدة دول. اكبرها الصراع الإيراني-الأمريكي، وقد مر قطار هذا الصراع الذي سحق الكثير من العراقيين تحت عجلات سكته بمحطات ومطبات خطيرة كادت ان تؤدي الى انقلاب المركب العراقي باهله وبالربان الثنائي (أمريكا وإيران). وفي هذه الأيام يدور صراع المحاور حول قضيتين مصيريتين وتاريخيتين للجميع.

والقضيتين هما تحرير الفلوجة القريبة من بغداد والتي تهدد امنها باستمرار والمفخخات القادمة منها تحصد أرواح المئات من المدنيين في العراق، والقضية الثانية والكبرى هي تحرير مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق وعاصمة الجزء العراقي من دولة البغدادي. فالقوات العراقية على أبواب المدينين (الفلوجة او الموصل) والاستعدادات على أتمها في كلتا المنطقتين والقوات المتجحفلة مسنودة بانتصارات عراقية سهلة في الرطبة أدت الى فتح الحدود مع الأردن ولا نستبعد ان تؤدي الى إعادة فتح قلوب السفارات العربية بوجه العراق الشقيق المشاكس والمتهم بالولاء لغير العرب (والمقتول بفتاوى عربية إسلامية).

إيران وفصائل الحشد الشعبي الموالية للولاية الفقيه الإيرانية تبحث عن أهدافها او مشاريعها الصغيرة والتي تقتصر على دعم المشروع الإيراني في المنطقة المتمثل بالحفاظ على المكتسبات المتحققة في السنوات الأخيرة، وضمان استمرار التواصل بين اضلاع محور المقاومة والمتمثل بمجموعة الثلاثة زائد واحد (إيران، سوريا، العراق، + حزب الله كونه لم يصل الى مستوى الدولة).

مجموعة الثلاثة زائد واحد (محور المقاومة) والحشد الشعبي الموالي لإيران يهمها تحرير الفلوجة أكثر من الموصل لا سيما بعد ان اثبتت الولايات المتحدة الامريكية الرغبة والجدية بقيادة معركة الموصل من خلال ارسال المزيد من العناصر العسكرية والخبراء والدخول في محارك ميدانية مع داعش أدت الى مقتل احد جنودها قبل أسابيع، وبالتالي تضاءلت فرص مشاركة الحشد الشعبي في معركة الموصل. والسبب الأبرز لتركيز الإيرانيين والفصائل العراقية الموالية لإيران على معركة الفلوجة هي خضوعها للأهداف الإيرانية التي يصفها البعض بالتكتيكية لكننا نجدها استراتيجية بالنسبة للجمهورية الإسلامية وهي الحفاظ على حلقة الوصل بين اضلاع "محور المقاومة".

وليس هذا فحسب بل هناك اعتقاد سائد لدى فصائل الحشد الشعبي وجماهيره الواسعة بان التفجيرات التي حدثت في بغداد، كانت نتيجة عدم تحرير مدينة الفلوجة، نتيجة قربها من العاصمة العراقية بغداد. فضلا عن قضايا ترتبط بالصورة الذهنية على ان الفلوجة تمثل مركز الإرهاب والتطرف الوهابي في العراق ما يستلزم قضمه في أقرب وقت ما دامت انياب القوات العراقية جاهزة لتمزيق الفريسة الداعشية.

اما الرؤية الامريكية فهي أكثر شمولية وتنطلق من حسابات كبرى أساسها الصراع في الشرق الأوسط والعالم، او البحث عن نصر ضد الإرهاب يلمع الصورة الملطخة بالاتهامات لأوباما والديمقراطيين. فداعش أربكت الحسابات الامريكية وجاء التدخل الروسي في سوريا ليربكها أكثر، والبحث يدور عن فرص انهاء الحقبة الداعشية على يد أوباما على غرار تفكيكه لطلسم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

والخطة الامريكية مستعجلة ولا تحتمل التأخير، لإثبات جدية الولايات المتحدة في اتجاهين: الاتجاه الأول اثبات جديتها بمحاربة تنظيم داعش بعد النجاح الروسي "النسبي" في سوريا وخشيتها هي تحديدا من تأثير الجماعات الإرهابية على المصالح الامريكية الاستراتيجية. والاتجاه الثاني يتمثل بإثبات مصداقيتها امام الدول العربية التي تطالب بمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة على اعتبار ان ترك الأمريكيين لمعركة الموصل يفسح المجال للحشد الشعبي المرفوض عربيا.

اذن فقطار المعارك العراقية يبدو انه يسير على قضبان دولية إيرانية امريكية (معركة الإيرانيين وحلفائهم والامريكيين وحلفائهم)، فعلى الجانب الأمريكي أعلن مبعوث الرئيس الأميركي باراك أوباما في "التحالف الدولي" ضد تنظيم "داعش" بريت ماكغورك، منتصف الشهر الجاري في عمان، أنّ عملية عزل وحصار تنظيم داعش في الموصل ثاني أكبر مدن العراق قد بدأت. وقال ماكغورك، في مؤتمر صحافي، أّنّ "الحملة لعزل وسحق وحصار تنظيم داعش في الموصل قد بدأت". وهذه التصريحات تؤكد سيطرة الأمريكيين على الموقف واصرارهم على ان يكون تحرير الموصل بأيديهم للأسباب المذكورة انفا.

ولا تخلو المهمتين (مهمة الأمريكيين في الموصل ومهمة الحشد الشعبي في الفلوجة)، فالمعرقلات كثيرة للطرفين. أمريكياً تحاول الولايات المتحدة تجميع أكبر عدد من القوات العراقية المدربة من الجيش البيشمركة وحتى الحشد الوطني السني، كون مدينة الموصل مترامية الأطراف وتمثل عاصمة دولة داعش وتحريرها ليس سهلا على الاطلاق، كما انها قد تواجه ضغوطات من قبل إقليم كردستان الذي يريد الحصول على ضمانات مالية لمواجهة موجة نزوح متوقعة للإقليم.

اما فيما يتعلق بمحركة الفلوجة او معركة الحشد الشعبي وإيران فالمشكلة الأبرز ان داعش لم يعد يخشى من التهديدات واستراتيجيات التطويق لم تعد تنفع بعد ان تأقلمت داعش على الحصار منذ أشهر، كما ان الترسبات السياسية التي اخترقت جسم الحشد الشعبي أدت الى تآكل منظومته القتالية وقللت اسطورة تماسكه.

ومهما يكن فإننا امام معركتين تقف خلفهما مصالح استراتيجية لدولتين فاعلتين على الساحة الإقليمية والدولية، وبعد انهاء الخطط الكاملة للمعركتين يبحث المتحاربون ضد داعش والباحثون عن النفوذ عن التخطيط لما بعد الموصل والفلوجة وهو ما يأخر تحريرهما، فالوضع السياسي العراقي مقبل على تحولات كبرى والتغيير المقبل يطبخ على نار التظاهرات ووقود الانتصارات العسكرية.

اضف تعليق