q
التغيير الحاصل في العراق هو نقطة تحول استراتيجية تؤثر على مستقبل البلد، ولا بد من خطوات كهذه ان تخضع للمحاكمة المنطقية والعقلية في اطار المصالح العليا للبلد، وبما يسهم في حفظ حقوق الاجيال القادمة، السؤال يطرح هنا عن وجهة النظر الافضل التي يمكن اتباعها؟ المؤيدة للتطبيع مع السعودية ام المعارضة لها؟ وكيف يكون ذلك؟

العلاقات العراقية السعودية في تحسن متصاعد، والزيارات المتبادلة صارت شبه روتينية لتكسر حاجزا من الصراع والتوتر الذي استغرق بناؤه أكثر من ربع قرن تخلله التصعيد والوعيد وتنفيذ عمليات عسكرية بايدي أطراف ثالثة.

مشهد عدم الثقة تغير، وعمليات تهديم جدار "الكراهية" تتم في معول الرياضة وبمساعدة مادية تحت الطاولة اسفرت عن ملعب تبرعت به الرياض لبغداد تتم ترتيبات بنائه مستقبلا، فضلا عن استثمارات اقتصادية ضخمة واموال ستضخها السعودية في حال استمرت العلاقات في التحسن بنفس الوتيرة التي يريد لها ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان.

هذه الاخبار افرحت الكثير من الجمهور العراقي المتعطش لمشاهدة نشرات الاخبار خالية من اي اعتداء ارهابي يضرب المدنيين او قوات الامن والجيش والحشد، فمثلما كانوا يكرهون السعودية (سابقا) هم يكرهون الحرب ايضا، ولا يريدون استمرار الخلاف مع الرياض.

جمهور اخر ومعه تكتلات سياسية يعارض فكرة الصلح مع السعودية مطالبا اياها بتعويضات مادية ومعنوية لما لحق بالعراق من مآسي، تسببت بها الجماعات الارهابية المدعومة من السعودية، وبدلالة السيارات التي عثر عليها بلوحات تسجيل رسمية سعودية، فضلا عن الفتاوى التي تكفر الشعب العراقي وتصفه بابشع الكلمات المهينة، ويضاف الى كل هذا التحشيد الاعلامي الخليجي التسقيطي للحكومة العراقي منذ عام ٢٠٠٣ وحتى قبل اشهر قليلة.

هذا التكتل الرافض للتطبيع مع السعودية يعتبر اي خطوة في هذا الاتجاه مناقصة لبيع دماء الشهداء، وفي المقابل يراه المؤيدون للمصالحة حفظا لدماء ما تبقى من ابناء الشعب العراقي فاستمرار الحرب يعني مزيدا من القتل والتدمير وجيوشا من الارامل والايتام.

التغيير الحاصل في العراق هو نقطة تحول استراتيجية تؤثر على مستقبل البلد، ولا بد من خطوات كهذه ان تخضع للمحاكمة المنطقية والعقلية في اطار المصالح العليا للبلد، وبما يسهم في حفظ حقوق الاجيال القادمة.

السؤال يطرح هنا عن وجهة النظر الافضل التي يمكن اتباعها؟ المؤيدة للتطبيع مع السعودية ام المعارضة لها؟ وكيف يكون ذلك؟

الاجابة عن هذا السؤال لا تحتمل التأييد او الرفض لاي من وجهتي النظر، لان اغلبها نابع من مصالح سياسية خاصة لكل طرف، (وله الحق في ذلك) الا ان الواجب توضيح الاسس التي ينبغى ان تبنى عليها العلاقات العراقية الخارجية وخاصة مع السعودية.

في البداية يجدر بنا ان نستعرض السلوك السياسي السعودي في المنطقة وما هي الاسس التي يقوم عليها، فالرياض تعتمد على المال السياسي بشكل محوري لبناء علاقاتها الخارجية وتشكيل التحالفات، لتكسب بذلك حلفاء يضمنون بقاءها لاطول فترة ممكنة.

في ثمانينيات القرن الماضي اشتد الصراع على اوجه في المنطقة فدفعت السعودية وبعض العرب بصدام حسين الرئيس العراقي حينذاك بشن الحرب على ايران ودعموه بالمال والسلاح ونفخوا فيه ووصفوه بانه حامي البوابة الشرقية للعرب، وعلى هذا المنوال اغدقوا عليه بالمال والسلاح والاستثمارات لمدة ثمان سنوات انتهت بعدد مرعب من الشهداء والجرحى وبنتيجة صفر اليدين، فلا غالب ولا مغلوب.

الدعم المالي الذي حصل عليه العراق تم توثيقه كديون مالية على العراق يتم استفزازه بها متى ما حاول الانقلاب على اخوانه الذي هو حامي بوابتهم الشرقية، وحين انقلب عليهم بغزو الكويت لشعوره بالخيانة اخرجوا وثائقهم وطالبوه بالديون، والى اليوم لم تسقط السعودية وبعض الدول العربية ديونها على حاميهم السابق.

تمر المنطقة هذه الايام بتحولات استراتيجية كبرى، والصراع الاقليمي والدولي اكبر بكثير من ذلك الذي دفع بالعراق وايران لحرب الثمان سنوات، وكل طرف يسيعى ليكون هو المغناطيس للدول الاخرى، موفرا بذلك حماية لنفسه، ولكي يرعب عدوه ايضا.

الحرب في اليمن وسوريا والصراع على لبنان والبحرين والعراق، كلها تدفع بطرفي الصراع الكبار (السعودية وايران) الى استخدام كل الوسائل من اجل فرض الهيمنة، او الاستفادة من كل الادوات المتاحة.

السعودية مع ولي عهدها الشاب تريد محو اثار الماضي لكنها في الوقت ذاته لا تريد فعل ذلك مع ايران، وتبحث عن تعزيز مواقفها للايقاع بها متى ما حانت الفرصة، والعراق ساحة التنافس الاكبر، فهو جار للسعودية كما هو جار لايران، وكانه ذاك الجدار الذي يقام بين الطرفين واي منهم يستطيع اختراقه فقد هزم خصمه.

ومن الطبيعي في هكذا ظروف ان تتنافس الدولتان على كسب ود العراق، وهذا ما يجعل العراق امام فرص عظيمة لابراز نفسه كدولة ذات ثقل سياسي مؤثر، فهو يستطيع ان ياخذ من ايران ويضغط عليها من خلال ابراز ورقة الصلح مع السعودية، كبديل عن الدعم الذي كان يحصل عليه من طهران، حتى لا تطلب اكثر مما هو مسموح لها في حدود حفظ سيادة البلد.

في المقابل وبنفس الطريقة تستطيع بغداد ان تضع الورقة الايرانية كوسيلة ضغط على السعودية للحصول على المزيد من الدعم والمكاسب السياسية والاقتصادية، مع التشديد على اهمية رسم السيادة الوطنية بخط احمر واضح جدا.

اما الحديث عن علاقات غير مشروطة مع ايران، او مصالحة مفتوحة مع السعودية، فهو نوع من الغباء السياسي ونسيان لحقوق البلد وشهدائه الذي ضحوا من اجل الدفاع عن السيادة ورسم الحدود بخطوط حمراء من الدماء الطاهرة، وليس فتح الابواب من اجل مكسب انتخابي للضغط على خصم سياسي محلي، فالاولى ان يكون الخارج دعامة للجميع سواء كان سعوديا ام ايرانيا، والا سيعود الانقسام من جديد.

اضف تعليق