q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

القيم وصناعة الإنسان المستقبلي

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

يعيش الانسان في واقع ملموس، يتوزع بين المكان والانسان، أو ما يُسمى بالمحيط الاجتماعي والارض، فقد جبلت البشرية على الاجتماع، وعرفت الثبات في ارض محددة، منذ أن غادرت عصور التكوين الاولى، فالمحيط (الارض والناس)، هما واقع الانسان، وهذا الواقع ينطوي على مصالح وعلاقات وسلطات مختلفة، وتضارب في المنافع والارادات، الامر الذي يتطلب سيطرة على الحراك البشري عموما، لاسيما بين الحاكم والمحكوم، ليس في الجانب السياسي فقط وانما في جميع المجالات التي تنطوي على نوع من السلطة، كما يتمثل ذلك برئيس الدائرة الخدمية، أو المؤسسة او المصنع او المدرسة وهكذا، فجميع هذه المرافق الخدمية والفكرية يديها هرم اداري يبدأ من أصغر عامل صعودا الى قمة الهرم متمثلا بالرئيس او المدير.

هذه الشبكة من العلاقات المعقدة بين الانسان ومحيطه الاجتماعي والعملي، تستدعي رابطا مشتركا للتنظيم والسيطرة، والتوجيه نحو الافضل دائما، وهذا الرابط هو القيم تحديدا، فهي التي تقوم بدور تحسين الواقع.

يقول الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، هناك علاقة تكاملية بين منظومة القيم وبين الواقع، بمعنى أحدهما يكمّل الاخر، فالقيم تحتاج الى واقع (يتكون من الانسان والمكان والعلاقات)، حتى تكون القيم فعالة ومؤثرة، إذ أنها لا يمكن ان تعطي أكُلُها في الفراغ!، أما الواقع فهو يحتاج الى منظومة القيم، لأنه من دونها سيكون واقعا متخلفا او صفرا على الشمال، لأن القيم هي التي تصنع الانسان المستقبلي.

كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي، بقولة في كتابه (فقه المستقبل): إن (القيم تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تضفي البعد المستقبلي على الواقع).

كما أن الامام يصف العلاقة التكاملية بين الواقع والقيم بالتعبير التالي: إن (القيم وحدها لا تؤدّي ثمارها، لابدّ من ملاحظة الواقع أيضاً، إذ لا يمكن تحقق القيم من دون الواقع، ولا يمكن تحقق الواقع السليم من دون قيم). من هنا يتضح أن الطرفان (الواقع والقيم) كلاهما يحتاجان بعضهما، نظرا لدور كل منهما في تركيبة الآخر.

استكشاف الواقع بدقة

لا يمكن لمنظومة القيم أن تعمل بطريقة سليمة ومضمونة النتائج، ما لم يتم استقراء الواقع واستكشافه بصورة دقيقة، بمعنى لابد من فهم احتياجات الواقع ثقافيا وفكريا، فإذا كان الواقع ذا دلالات ومؤشرات مادية يمكن لمسها او رؤيتها بحاسة النظر، فإن الجانب المعنوي والفكري من الواقع يتمثل بالقيم، ولا يمكن أن يكون الواقع سليما اذا اقتصر تطوره على الجانب المادي فقط، لأن القيم هي التي تسمو بالواقع من خلال دفعها للانسان كي يرتقي، بمعنى أن القيم تصنع واقعا راقيا، من خلال صناعة الانسان الذي ينحو الى الارتقاء.

كما أن القيم تخلص الانسان من نظرته الذاتية المستحكمة، والواقعة تحت سيطرة الانانية، لذلك تعمل القيم بقوة وانتظام على تشذيب أنانية الانسان، وتجعله اكثر عقلانية، واكثر ميلا لنكران الذات والنظر الى مصالح الآخرين وحقوقهم بمنظار المساواة مع حقوقه ومنافعه.

لذا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه على أن: (القيم هي التي تسمو بالإنسان فوق الواقع، وتجعله متطلعاً، واعياً، مدركاً لمهام مستقبله، فالقيم تخرج الإنسان من أفقه الشخصي المحدود، بل تخرجه من نصفية نظرته المحلية والموضعية وشبهها إلى إطلاقية نظرته الإنسانية، لتشمل العالم الذي يعيش فيه).

ولا ينحصر هذا التأثير للقيم في جانب دون غيره او مجال دون غيره، فالعمل السياسي ينبغي أن تحكمه منظومة قيم، تجعل منه مشذبا من الاخطاء، لاسيما انه يتعلق بالسلطة والتسلط من جهة، وبمصالح الناس من جهة اخرى، لذلك يركّز دعاة الاصلاح الى وجوب ربط العمل السياسي بالقيم، حتى تتواءم مع مصلحة الانسان.

حول هذا الجانب يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه: إن (السياسة واقع، ولكنها عندما تمتزج بالأخلاق تصبح أفقاً واسعاً لا ينحصر في المصالح الضيقة، والأنانيات ولا بردود الأفعال الآنية، كما هي اليوم بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم). وهذا بالضبط ما يفتقر إليه عالمنا، لاسيما في الواقع من جانبه السياسي، حيث تسود الانانية وتفضيل الذات وتضارب المصالح والارادات، بسبب غياب دور القيم وعدم إلتزام القادة السياسيين وصناع القرار في العالم بالدور الحاسم للقيم في صناعة انسان مستقبلي لا يؤمن بالصراع طريقا للبناء، بل يعمل بشكل حثيث لبناء مستقبل انساني افضل، في اطار منظومة قيم قادرة على نزع الارث المتراكم من الاستحواذ في ذات الانسان، وتجعله اكثر استعدادا للتعاون مع الجميع من اجل صناعة غد مشرق لعالما الذي يعاني من مستقبل مجهول، خاصة ان الانسان لم يبذل ما يكفي من الجهد في مجال بناء القيم وتفعيلها، بل كان ولا يزال اكثر اهتماما بالتطور المادي.

كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي قائلا: (الملاحظ أنّ بعض الشعوب تقدمت كثيراً في صُنع الواقع، لكنها لم تتقدّم في مجال القيم. فعلى سبيل المثال: إنّ التقدم العلمي والصناعي في الدول الغربية لم يواكبه تقدم في نطاق القيم). وهذا يؤدي الى واقع خطير كونه يبقى فارغا من القيم وعاجزا عن صنع الانسان المستقبلي.

التكامل ينهي الصراعات

عندما يلتقي الواقع بمنظومة القيم بالطريقة المدروسة الجوهرية وليس الشكلية، فإن النتائج سوف تكون كبيرة، وتصب في صالح الجميع، لذلك تذهب جميع المشاكل الى الحل والتضاؤل، بسبب انتفاء الحاجة للصراع، فالكل يحصل على ما يريد، ويبقى الهدف بناء المستقبل بصورة مثلى، وهذه نتائج حتمية للتكامل بين القيم والواقع.

كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بوضوح: (عندما يتحقق التكامل بين الواقع والقيم تذوب الصراعات، وينتهي التنافس غير المشروع، وتعم العدالة، ويسود السلام، ويعلو صوت الحق، ويعيش الناس في طمأنينة وأمن، ويزدهر المستقبل يوماً بعد يوم). وسوف تحقق الامم القادرة على صنع هذه التكاملية بين الطرفين (الواقع والقيم) أهدافها المتمثلة بصنع مستقبل سعيد مشرق، وانسان ذي عقلية مستقبلية وإن كان يعيش في واقعه الراهن.

لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (هذه هي أهداف كل أمة صالحة تطمح إلى بناء المستقبل السعيد المشرق، فإذا انتهت البشرية إلى هذا الفهم، وإلى هذه النظرة الشمولية، وتمكنت من وضع المقاييس اللازمة لعدم الانفلات من هذا الفهم، يكون ذلك اليوم يوم سعادة وهناء لكل البشرية). بهذه الصورة وهذه المقاييس المرتبطة بمنظومة القيم، سوف يوضع حد لموجات الانفلات التي تعم العالم من حين الى آخر، وسوف تتم صناعة الانسان المستقبلي، القادر بدوره، على صناعة مستقبل تضمنه العلاقة التكاملية القائمة بين منظومة القيم والواقع، وعند ذاك يعيش العالم اجمع واقعا متوازنا، لاسيما اذا كان أهل العقل والحكمة هم من يبادر لتحقيق هذا الهدف من خلال توفير الظروف والمقومات اللازمة لتحقيقه.

لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الهدف تحديدا: (نطمح أن نرى المستقبل من خلال - التكامل بين القيم والواقع- فهي أمور يستحسنها العقل، وعلى عقلاء العالم السعي من أجلها، بعد توفير الوسائل للوصول إليها).

اضف تعليق