q

 

في التغيير الذاتي.. القدرات المهدورة

 

كل شعوب العالم تمتلك قدراً من المؤهلات والقدرات للتغيير والإصلاح ثم التقدم الى الامام، تبقى الارادة والعزيمة سيدة الموقف، تقرر الزمان والمكان، بيد ان هذا التغيير – وإن حصل- ليس بالضرورة يفي بالغرض ويحقق المطلوب من طموحات واهداف الشعوب، فما اكثر الشعوب التي فجرت  الثورات والانتفاضات وبذلت الكثير من الدماء والتضحيات، لكنها بعد حين وجدت انها لم تحصد إلا القليل مما كانت تطمح وتريد.

وحسب قراءة بسيطة للواقع العراقي، فانه يمتلك قدرات ومؤهلات عديدة للتغيير نحو الاحسن، وقد أثبتت الايام ان مجرد تفعيل هذه القدرات، فانها قادرة على تغيير المعادلة وصنع واقع جديد، حالما وجدت العزيمة والارادة الحقيقية، والاهم من ذلك، التغيير الذاتي على صعيد الفرد والمجتمع. وفي كتابه "مستقبل العراق بين الدعاء والعمل" يؤكد سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- على هذه الحقيقية عندما كان يسعى لتقويم حركة التغيير السياسي في العراق فيما مضى من الزمن، ليجعلها جذرية وشمولية، وليست ترقيعية وسطحية، لذا نقرأ قوله: "ان همنا بتغيير الوضع المأساوي لشعبنا المسلم في العراق يجب أن يقترن بسعينا نحو تغيير أنفسنا ومجتمعنا أولاً وهذا يتم بالعمل الجاد والمتواصل..".

ان تجارب السنين الخوالي كافية لأن تدلل على ان التغيير السطحي ليس فقط عاجزاً عن تحقيق المطلوب والمنشود من الاهداف، إنما تكون له نتائج عكسية بل وكارثية، فنحن نعيش الوضع المأساوي والمرير في العراق، بيد أنه بالحقيقة امتداد لمسيرة طويلة من التغييرات الترقيعية والتعامل السطحي مع الامور لاسباب كثيرة لسنا بصددها، ربما في مقدمتها قلة الوعي ونزعة العصبية والتطرف الى جانب السياسات القمعية والتعسفية من قبل الانظمة الحاكمة. وهذا تحديداً ما يشير اليه سماحته من عدم وجود التغيير الحقيقي في العراق طيلة العقود الماضية رغم تبدل الانظمة السياسية، فما هو السبب في "تأييد الشعب المسلم لأية حكومة تأتي أو أي شخص يجلس على كرسي الحكم في العراق؟، ولماذا يصفق الشعب المسلم لكل رئيس يحكم العراق؟، وهل نسي بعض أبناء الشعب الذي صفقوا بأيديهم لهذا الحاكم أو ذاك بانهم ذاقوا الأمرَّين من نفس الحاكم"؟.

وطالما يشير سماحة الامام الراحل في مؤلفاته الى القدرات الكامنة في هذا الشعب للتغيير الكبير في مقدمتها القاعدة الجماهيرية العريضة متمثلة في الغالبية الشيعية الممتدة على شرائح مختلفة من الشعب، من عشائر وقبائل وشريحة متعلمة وعلماء دين وحوزة علمية. الى جانبها قوة الحق والمنطق التي لا تقاوم اذا ما نزلت الميدان بقوة وارادة حقيقية. و يورد في ذلك مثالين واقعيين من أمثلة عديدة:

الاول: عن الضغوط التي واجهها سماحته خلال نشاطه الفكري والثقافي في سني الستينات، بعد طباعة و توزيع خمسة وسبعين ألف نسخة من كتاب "هكذا الشيعة" – من مؤلفات سماحته، طبع أول مرة عام 1964- في موسم الحج، مما اثار انزعاج وعضب السلطات السعودية والعراقية على حدٍ سواء. فبلغه أن وزير العدل آنذاك، كاظم الرواف، بصدد رفع شكوى ضده بإدعائه "إثارة النزاعات الطائفية بين المسلمين وتعميق البغضاء والشحناء.."، وقد جاءه مبعوث من الوزير ينقل رسالة الاعتراض، فكان جواب سماحته كما يرد في هذا الكتاب: أنكم "لا يحق لكم الاعتراض والتضييق علينا في أمور مذهبنا، فإذا فعلتم شيئاً من تهديداتكم فان الشيعة ستضج ضدكم وتثور عليكم.. وانتم تعلمون بالتفاف الشيعة حول العلماء ومراجع التقليد..". يقول سماحته: " فخاف من ذلك واضطرب وانصرف عن هذا الأمر نهائياً".

ولم تتوقف الضغوطات أمام الامام الراحل وابناء الحركة المرجعية، حيث واصل وزير العدل استقزازاته للحد من النشاط الثقافي والفكري. يقول سماحته في كتابه: "للمرة الثالثة نزل إلى الميدان نفس وزير العدل وأراد أن يشتكي ضدنا، فأرسل له بعض الأصدقاء رسالة قال له فيها: بأنك إذا أردت أن تقيم هذه الشكوى فإني سأفضحك أمام الرأي العام واثبت لهم بأنك لست بوزير شرعي والآن إذا لم تخف من ذلك فامض في شكايتك هذه! فخاف من ذلك وتراجع..".

المثال الثاني: عن قوة المنطق وصلاة الموقف التي تجسدت في سماحة الامام الراحل السيد محسن الحكيم – قدس سره- زعيم الحوزة العلمية في حينها، بوجه الرئيس السابق في العراق عبد السلام عارف، المعروف حينها بتوجهه الطائفي وعدائه الواضح للشيعة، فاراد يوماً ان يزور سماحة الامام الحكيم في داره بالنجف الاشرف، فجاء الرفض سريعاً وصادماً، بالمقابل حاول عارف بوساطات من هنا وهناك لاقناعه بالعدول عن رأيه وأن تتم هذه الزيارة التي يعوّل عليها عليها كثيراً في كسب الشارع العام والشيعي تحديداً. إلا ان الامام الحكيم بقي مصراً على رأيه بعدم استقباله، وبعد ايام من الاتصالات والوساطات وافق سماحته على استقبال وفد الرئاسة من دون عارف، فجاء الوفد صاغراً وحصل اللقاء.. يروي سماحة الامام الشيرازي أن اعضاء الوفد "اظهروا احترامهم البالغ له وقالوا نحن مستعدون لأن نفعل أي شيء تأمرون به ولكن اسمحوا لعبد السلام عارف أن يزوركم، ولكنهم قوبلوا برفض السيد الحكيم - رحمه الله- القاطع. وكان أحد أفراد هذا الوفد مدير جهاز الأمن فقال للسيد الحكيم: إن رئيس الجمهورية رجل ثوري ومن الممكن أن يقوم ضدكم بأعمال لا تحمد عقباها.. ـ وكان يقصد من ذلك اخافة السيد الحكيم وتهديده علّه يرضخ ـ فقاطع السيد الحكيم كلامه وقال: أنت لا تحدث طفلاً حتى تخيفه بكلماتك الجوفاء هذه، إنني لا ولن أسمح باللقاء بعبد السلام عارف أبداً، ومهما كانت عاقبة ذلك سيئة فإني صامد..".

أن التغيير الحقيقي الذي يكون بمنزلة القاعدة الصلبة التي تنطلق منها مشاريع البناء والاعمار نحو التطور والتقدم، هو أن يكون جذرياً وشاملاً يبدأ من الانسان الفرد ثم المجتمع، ويعيد الثقة في النفوس ويجعل الانسان قادراً على تقرير مصيره بنفسه، لا من خلال الآخرين، سواء كانوا رموزاً سياسيين او احزاب وتيارات او وجهاء او اي واجهة اخرى تسلب من الانسان كرامته وحرية تفكيره وارادته.. من هنا نجد أن الامام الشيرازي – قدس سره- تنبأ منذ السنوات الماضية أن عودة المجالس الحسينية والصلاة جماعة في المساجد، والزيارات المليونية وعموم النشاط الديني، لن يحقق التغيير الحقيقي والمطلوب في العراق، عندما تكون الانسان العراقي مصادرة ومصيره خارج عن ارادته، فالآخرون هم الذين يرسمون ويخططون وعليه المضي في الطريق بهدوء دون اعتراض.

اضف تعليق