عندما نتحدث عن المرأة ومكانتها، فإنما نتحدث عن رحلة الازدواجية
الأخلاقية التي عاشتها المرأة إلى جانب الرجل خلال مسيرة البشرية
الطويلة. فالمرأة أولاً وأخيراً هي الأم وهي الأخت وهي الابنة وكذلك
فهي الزوجة أيضاً، وبعبارة أوضح نقول إن المرأة التي تشكل حقاً، نصف
المجتمع، هي الأساس الخصب لتنشئة وبناء الأجيال المتعاقبة من أبناء
المجتمعات. ولذلك، فإننا نقول منذ البداية، إن الظلم الذي لحق بالمرأة
عبر العصور الماضية وعبر العصر الراهن، فإنما مردّه إلى سوء فهم
العلاقة والمعادلة الأخلاقية بين الرجل والمرأة، ولو أردنا أن نقوم
بجولة سريعة في غياهب الحضارات القديمة للوقوف على مكانة المرأة فيها،
فسوف ندرك النظرة الدونية التي كان يُنظر إلى المرأة من خلالها حيث
كانت المرأة في أغلب العصور والحضارات تعاني الشقاء والهوان، مهدورة
الحقوق، مرهقةً بالواجبات، تابعةً للرجل، يُسخرّها لِما يريد كيف يشاء.
ففي الحضارة الرومانية والإغريقية والهندية كانت المرأة مظلومةً
وقاصراً على الدوام، بل كانت، كما يقول عنها الدكتور عبد السلام
الترمانيني في كتابه (الوسيط في تاريخ القانون والنُظُم القانونية)
إنها (لا تمثَّل الأسلاف، فهي إن كانت زوجة لا تنحدر منهم، وإن كانت
ابنة لا ينحدر الأسلافُ منها، وليس عند موتها عبادة خاصة)(1). فهي، وإن
كانت قاصراً في الحياة الدنيا، فإن هذا القصور يستمر معها حتى في مراسم
الحياة الآخرة، فلا يليق بالكاهن أن يصلي على امرأةٍ ولا يجوز إشعال
المجامر وإضرام النار في مواقد المعابد من أجل موت الأنثى. بل قضت
شرائع الهند القديمة أن الوباء والموت والجحيم والأفاعي خير من المرأة،
وكان حقُّ الأنثى في الحياة ينتهي بانتهاء حياة زوجها الذي هو مالكها
قبل أن يكون زوجها، وما عليها – من باب الواجب – بعد موت وإحراق جثة
زوجها إلا أن تلقي بنفسها في النار أسوةً بمالكها، وإلا فإن اللعنة
الأبدية ستحيق بها إلى نهاية الزمان وعلى مَرِّ الأجيال.
ولم يكن الوضع في العصور الوسطى في أوروبا أفضل حالاً بالنسبة
للمرأة بشكلٍ عام. فقد عقدت في العديد من البلدان الأوروبية وقتذاك
العديد من الاجتماعات للبحث بشأن المرأة وما إذا كانت تُعدُّ إنساناً
أم لا. وذَكَر الدكتور أحمد شلبي في كتابه (مقارنة الأديان) أن أحد هذه
الاجتماعات قد تم في فرنسا لمعرفة ماهية المرأة. وبعد النقاش، تبين
للمجتمعين أن المرأة يمكن أن تكون إنساناً، بل هي إنسان ولكنها مخلوقة
من أجل خدمة الرجل فقط، ومن أجل راحته هو فحسب.
هذا هو الحال بشكلٍ مقتضب في فرنسا، فما هو الحال في إنكلترا؟
ففي إنكلترا حرَّم الملك (هنري الثامن) على المرأة الإنكليزية قراءة
الكتاب المقدس، وظلّت النساء حتى عام 1850م غير معدودات من المواطنين،
وظللن حتى عام 1882م ليس لهن حقوق شخصية، ولا حَقَّ لهنّ في التملك
الخالص، وإنما كانت المرأة ذائبة في أبيها أو زوجها(2).
وقد روى المفكِّر (ليكي) Lecky في كتابه (تاريخ الأخلاق الأوروبية)
الكثير من الحكايات التي هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. فقد روى
في كتابه المذكور كيف كان الرجال في أوروبا يفرّون من ظل النساء
ويتأثمون من قربهنَّ والاجتماع بهنّ، وكانوا يعتقدون أن مُصادفتهنَّ في
الطريق والتحدّث إليهنَّ ولو كُنَّ أمهات وأزواجاً أو شقيقات تحبط
أعمالهم وجهودهم الروحية(3).
ولو أردنا الآن أن نترك المجتمع الأوروبي ونظرته إلى المرأة، ونتوجه
برحلتنا إلى مجتمعنا العربي ولكن في إطار العصر الجاهلي الذي كان يغصُّ
بالمتناقضات.
فالمرأة في المجتمع الجاهلي كانت هدفاً سهلاً للغبنِ والحيف، فلا
حقوق لها، وهي محرومة من إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن
تنكح زوجاً ترضاه، بل والأسوء من ذلك كله، أنها كانت تُورَّث كما يورث
المتاع أو الدابة، ويكفي أن نشير هنا إلى المستوى الأخلاقي المتدني
الذي وصل إليه الرجل في نظرته وتعامله مع المرأة. فقد بلغت كراهة
البنات إلى حَدِّ الوأد، وكانوا يقومون بالتخلص من البنات بطرق وحشية
كدفنها في التراب وهي حية، أو أنهم كانوا يلقون بالإناث من رؤوس الجبال
الصخرية أو المنحدرات الرملية إلى بطون الأودية، أو يضعونهن على أبواب
الكهوف والمغائر عسى أن يمر بها وحش كاسر أو طيرٌ جارح.
ومن خلال هذا العرض الموجز والسريع لأحوال المرأة في ظل العصور
البائدة، ندرك مدى وحجم المأساة في طريقة التعامل مع المرأة. ولكن كل
شيء تغيَّر تغيّراً جذرياً مع انبثاق الخيوط الأولى لشمس الرسالة
الإسلامية. فلم تعد المرأة شيطاناً أو مخلوقاً دونياً، ولم تعد خادمة
أو أداة يستطيع الرجل من خلالها أن يحقق ويؤكد ذكوريته في مجتمع يغص
بالذكور ويفتقر إلى الرجال، وكم هو الفرق شاسع ما بين الذكورة والرجولة!!!
وعلى كل حال، فقد حقق الإسلام وجوده، وأستطاع خلال فترة وجيزة أن
يفرض ذاته ومعتقداته على قسمٍ لا يُستهان به من الأرض التي نشأ عليها
الرسول الأمين (ص)، وانتشرت قبسات الدين الجديد في ليل الإنسانية
المعذَّبة كانتشار ضوء السراج في غرفةٍ مظلمة يتصارع ساكنوها مع الظلام
في الداخل، ومع غضب الشتاء وعواصفه في الخارج. لقد أنار هذا السراج كل
شيء وجعل البصائر تهوي إلى معرفة الحقائق وإدراك الوجود قبل العيون
والأبصار، إنه السراج الإلهي المرسل لتبديد ظلام النفوس.
وإذا كان هذا الدين – السراج الإلهي – قد حرَّر الإنسان من سلاسل
الظلم وكهوفِ الظلام، ونادى بالعمل على رفع الجاهزية الإنسانية من أجل
مواجهة جحافل القوى الاستكبارية التي تهاجمنا من داخلنا، وليس من
خارجنا فحسب، ونقصد بذلك نفوسنا المسوِّلة والأمارة بالسوء، وإذا كان
هذا الدين يأمرنا أيضاً بالثورة على الموروث الاعتقادي السلبي الذي كان
آباؤنا وأجدادنا يمارسونه في عصر الجاهلية على أغلب مستويات الحياة
بدءاً من الفرد وانتهاءً بالقبيلة أفقياً، وبدءاً من الأنا وانتهاءً
بالله عمودياً، فإذا كان الإسلام يأمرنا بهذا، فبماذا يأمرنا الإسلام
فيما يتعلق بما كان يُوأدُ سابقاً؟! وهل بإمكاننا أن نأخذ مثالاً حياً
من عصرنا الراهن ممن ينظرون إلى المرأة تلك النظرة الإسلامية الصافية
التي نادى بها محمد المصطفى وأهل بيته (ع) منذ أكثر من ألف وأربعمائة
عام مضت؟
إن الحقيقة التي لا يستطيع أحد أن يعترض عليها، ولا أن ينال من
جلائها هي أن الإسلام قد أعطى المرأة من الحقوق ما لم تكن تحلم هي
شخصياً به، ونستطيع بكل بساطة ويُسرٍ أن نحدِّد موقع المرأة على خريطة
المفاهيم القرآنية والآداب النبوية لندرك من خلال ذلك أن الإسلام في
جوهره قد أعطى المرأة جوَّاً من القداسة، ليس لأنها إنسان ولها حق
الحياة والوجود، بل لأنه رأى فيها المشروع العظيم الذي تنتظره البشرية
جمعاء، فالبشرية من خلال وجودها السابق على الإسلام كانت ترى في المرأة
– كما رأينا – مشروع (أنثى) قبل أي شيء آخر، ولكن في الإسلام، فالوضع
مختلف تماماً، حيث أن هذا الدين قد أعطى المرأة شيئاً من جوِّ القداسة
والطهر لأنه رأى فيها مشروع (أمِّ) قبل أن تكون مشروع (أنثى)، ورأى
فيها أيضاً مشروع إنسان له الحق في ممارسة دوره الوجودي على مسرح
الحياة قبل أن يرى فيها مشروع امرأة تغطُّ في سبات طويل تتقاذفها رياح
المجتمع ونزوات من لا يرون فيها إلا وسيلة لإشباع الغرائز وإرواء
الشهوات بطريقة تتنافى مع أبسط الحقوق الإنسانية.
ولو أردنا أن نقوم بجولة سريعة في رحاب كتاب الله – جلّ وعلا – لنرى
كيف كرّم رب الوجود المرأة على أنها أم وأختٌ وابنةٌ، وعلى كاهلها
مسؤولية النهوض بالمجتمع، والارتقاء بقيمه وإعماره مع الرجل جنباً إلى
جنب، فسنسمعه – سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله (وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(4).
إن الكلمات الواردة في هذه الآية الكريمة والتي تدل على (السَّكن)
و(المودّة) و(الرحمة) لها دلالات نفسية عميقة جداً، وهذه الدلالات
النفسية التي تلعب فيها المرأة الدور الأكبر في تحصيلها قد أكد أبعادها
علم النفس الحديث، بل إنه حضَّ عليها عن طريق إكمال الدائرة البشرية
القائمة على تكامل الحركات والأدوار بين الرجل والمرأة. ومن خلال هذه
الآية أيضاً نرى أن هناك عمقاً نفسياً آخر يمكن لنا أن نتحدث عنه، ولو
بشكل مختصر، ونعني بذلك أن عملية النقص هذه لا تقبل البديل عن طبيعة
الشيء المفقود، فالرجل الذي يملك الجاه أو المال الكثير لا يستطيع في
حال عدم زواجه، أن يشتري استقراره النفسي وأمنه العاطفي. نعم، يمكنه أن
يشتري بماله شبعه الجنسي عند حالات انحرافه وشذوذه، ولكن لا يمكن له
بأي حالٍ أن يُحصِّل التوازن النفسي والعاطفي المطلوبين من خلال تلك
الشذوذات التي لا تنسجم مع عملية بناء الإنسان ذي الشخصية القويمة
والمتكاملة. وكنتيجة طبيعية لهذه الحقيقة، فإن اقتران الرجل بالمرأة هو
الحالة السوية وهو السنَّة الطبيعية التي أمرنا الله ورسوله بتطبيقها
من أجل الدخول في بوابة الاستقرار النفسي ووصولاً إلى عتبات الاستقرار
الروحي. إذاً، أول ثمرة من ثمار (السكن) إلى المرأة، هو الاستقرار
النفسي، وآخر هذه الثمار وأسماها هو الاستقرار الروحي الذي يدفع
بالإنسان المؤمن نحو السموِّ بعد أن يكون قد تجاوز مرحلة التخبط
والضياع والبحث عن النصف الآخر المفقود.
وعندما خلق الله – جل وعلا – ازدواجية الوجود الإنساني، أي الرجل
والمرأة، فقد أراد لهذا الوجود أن يسير في خط التكامل والالتزام من
خلال تحركهما في عمق التجربة الإنسانية على وجه الأرض. وعلى وجه هذه
الأرض تمت الحركة الإنسانية الأولى.
إنها حركة الصراع والصمود أمام الباطل والشر والغرائز الدونية
الخارجة عن إدارة وسيطرة العقل. فالله سبحانه وتعالى أراد لنا أن
نتجاوز ما حدث مع الرجل الأول والمرأة الأولى في الجنة، ولكنه أراد لنا
بنفس الوقت أن لا ننسى ما حدث لهما من إخفاق في فهم عملية التعامل
المثلى مع الشيطان وإغراءاته وما نتج عن الاستجابة لادعاءاته الكاذبة.
وبالتالي، نرى أن الرسالة الإسلامية، من خلال خطاب الله لنا من جهة،
ومن خلال سنة الرسول وأحاديثه من جهة أخرى، نرى أن هذه الرسالة الخالدة
أرادت من المرأة التي سيكون دورها على مسرح الحياة دور الأم، أرادت
منها أن تجعل عاطفتها منفتحة على العقل وقابلة للتعامل معه بطريقة
إيجابية من موقع بلورة العاطفة وتهذيبها. وأرادت بنفس الوقت من الرجل
أن يفهم معادلة الوجود، وأن يحتوي ويتفهم الجانب الانفعالي والعاطفي
عند شريكته في معادلة الحياة. فالنور الذي نحصل عليه من الطاقة
الكهربائية هو النور الناتج عن اكتمال الدارة الكهربائية بقطبيها
الموجب والسالب، إذ لا كهرباء ولا طاقة ولا نور أبداً إلا إذا كان
لدينا قطبان يكمل أحدهما الآخر، وكذلك الحياة التي تستمر من خلال وجود
قطبين متكاملين يمدان خط الحياة بالولادة الجديدة.
إن الولادة الجديدة التي أشار الله إليها في كتابه العزيز قائلاً:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً)(5)، هي الولادة القائمة على نهج تفهم
واحترام كل طرف للآخر، وربما تقديم بعض التنازلات في سبيل تأكيد وتوطيد
عملية (السَّكن) بين الطرفين.
والحقيقة تُقال أن من نِعَم الله علينا أنْ مَنَّ على عباده بهذه
الرسالة السماوية التي أرادت من الإنسان أن يستعبد المادة لا أن يكون
عبداً لها، وأن يكون إنساناً بعقلٍ وعاطفة، لا أن يكون إنساناً فاقداً
لأحد طرفيه، ولا نستطيع أن نعرف مقدار وحجم هذه النعمة إلا إذا قمنا
بإجراء مقارنة بسيطة بين الموقع الذي يمكن للمرأة أن تتمتع به في ظل
مدرسة أهل البيت (ع) من جهة؛ وبين الواقع الذي تعيشه المرأة في ظلال
المدارس الأخرى وخاصة مدرسة المجتمع الغربي من جهة أخرى.
فلو توقفنا مع قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ...)(6)، ندرك العمق الإيماني
لتلك المرأة الفاضلة التي خصَّها الله سبحانه وتعالى بحمل السيد المسيح
عيسى بن مريم (عليهما السلام). فالموضع الاستراتيجي والإيماني لتلك
الأم التي تنحدر من سلالة مؤمنة، والتي لها مكانتها عند المؤمنين من
قومها، جعلها مُهيَّأة عند الله لتكون الوعاء الذي يحتضن كلمة الله
(ع)، وقد أكرمها الله سبحانه وتعالى أيضاً بأن جعلها رمزاً وآية
للمؤمنين من خلال ذكرها في القرآن الحكيم في مواضع عديدة وبصورة
مُشرّفة ومشرقة.
ولم يكرّم القرآن الكريم المرأة المؤمنة من خلال ذكر مريم (ع) فقط،
بل كرَّم أيضاً العديد من النساء المؤمنات اللواتي نذرن أنفسهن من أجل
مرضاة الله والعمل الصالح والاجتهاد في طلب الخير.
وستبدو هذه النقطة الحساسة من موضوعنا أكثر تشويقاً وفائدة لو شرحنا
موقف الإسلام الحنيف من المرأة على ضوء البنية المعرفية للمرجع الديني
الأعلى آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (اعلى الله
درجاته). وأرى من الواجب علينا أن نستشهد بأقواله وأن ندرس وجهات نظره
تجاه المرأة لأكثر من سبب. فالسبب الأول هو أن الإمام الشيرازي من
سلالة شجرة طيبة أغنت الإسلام والمسلمين بالكثير من الرجال الذين تركوا
أبلغ الأثر في الفكر الإسلامي الأصيل. والسبب الثاني، هو أن سماحته له
من العلوم والمعارف المبثوثة في أن سماحته يمثل المرآة الصافية التي
تعكس فكر أهل البيت (ع) في كل ما يتعلق بالجوانب والمستويات العديدة
للحياة. ولذلك نقول إن سماحته، من خلال فكره النيِّر والموسوعي، هو
الأقدر على نقل وجهة النظر الإسلامية تجاه قضية بالغةِ الحساسية، ألا
وهي قضية المرأة في الإسلام.
ونعود فنقول، إن القرآن الذي كرَّم المرأة بصورة مريم (ع) هو القرآن
الذي كرَّم أيضاً المرأة بصورة آسيا بنت مزاحم (ع) زوجة فرعون، وهو
أيضاً الكتاب السماوي الذي طهرَّ وكرّم سيدتنا فاطمة الزهراء ابنة محمد
وزوجة الإمام علي (ع) كرمز للمرأة المثالية الكاملة.
فالله سبحانه وتعالى يريد منا، من خلال خطابه القرآني لنا، أن تتمثل
المرأة المسلمة أخلاق وحركه وأهداف تلك النسوة اللواتي هن سيدات نساء
العالمين. ولذلك فعندما يخاطبنا الله بقوله: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ
لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(7) فإنما يريد
للمرأة عموماً أن ترتقي إلى مستوى المثل المضروب في كتاب لا يأتيه
الباطل بين يديه.
من هنا نرى أن أحد أبرز الممثلين للتيار الإسلامي المنفتح على
الحضارة وعلى إستراتيجية الفكر العقلاني الملتزم، ونقصد بذلك الإمام
الشيرازي (اعلى الله درجاته)، وقد تبنى مشروع الارتقاء بالمرأة المسلمة
إلى مستوى المسؤولية وإلى مستوى الدور المناط بها كعضو فعال في احتضان
الأجيال وتنشئتها النشأة السوية تحت ظل المظلة الإسلامية ومن أبرز
النقاط التي تميز مشروع الإمام الشيرازي هي تلك النقطة القائمة على
عملية المقارنة بين المرأة وحقوقها في الإسلام، وبين واقع المرأة
وحقوقها المزيفة في ظل المدنية الغربية. ويرى سماحته أن المرأة (لم
تحصل على أقل حقوقها في الغرب، وكل ما حصلت عليه من المساواة هو
ابتذالها وجعلها في متناول الأيدي بغية الحصول عليها بسهولة لمن أراد
ذلك، حالها حال بقية المعروضات، بل قد تفضلها بعضُ تلك المعروضات...
وغاية ما حصلت عليه هو إهانتها)(8). ولا شك في أن هذا الكلام صحيح
تماماً، لأن المرأة في الغرب تدرك تماماً أن الحقوق التي حصلت عليها ما
هي إلا بمثابة وبمكانة المساحيق التجميلية التي تضعها الفتاة على
وجهها، وبالتالي فإن هذه الحقوق عبارة عن أوهام حقوقٍ وزيف تحرُّر لا
تُغني عن الحق شيئاً. ونستطيع بكل بساطة أن نؤكد كلام الإمام الشيرازي
من خلال ما يكتبه أهل الفكر الغربي عن واقع المرأة عندهم. وسأكتفي هنا
بذكر مثالٍ واحد على الواقع المرير للمرأة الغربية، وهذا المثال مأخوذ
من كتاب (مأساة المرأة المعاصرة) للأديبة الألمانية (باربارا كايزر)
التي تتناول في قصيدتها النثرية مأساة المرأة المعاصرة في ظل الأنظمة
الصناعية، حيث مجتمع الاستهلاك والسلع، حيث المرأة شيءٌ من أشياء هذه
الحضارة الصناعية الهائلة والتي تدفع بالإنسان ليكون مجرد رقم أو آلة
صماء في مجتمع الآلات والأرقام.
تقول باربارا كايزر:
(لا أتحدث عن أمي العرجاء:
ماتت وراء الآلات
هشمتها الدواليب المسننة،
وانقطاع الرئتين وراء الزمن والباص –
سحقتها آراء الخبراء...
خنقتها رائحة البترول...
ومن خاصرتيها المفتوحتين بالثقوب،
تكدست أرقام البورصة وأسهم الشركات)(9)
إذاً، ما هذه الحقوق التي نالتها المرأة في ظل الآلات والأنظمة التي
تدعي حماية حقوق المرأة؟ أليست هذه الصورة التي أعطتنا إياها تلك
الشاعرة الألمانية هي أحد الأدلة على صحة ودقة وجهة نظر الإمام
الشيرازي تجاه المرأة في المجتمع الغربي؟!
بل يمكننا أن نقول أيضاً أن فكر الإمام الشيرازي قد تجاوز الكثير من
الرواسب العالقة في عقول البعض بشأن سلب المرأة أنوثتها وعزلها عن
دورها الأساسي في مسيرة الحياة. ففي الوقت الذي يرى فيه بعض المنظرين
أنه لا مانع للمرأة من أن تؤدي دور الرجل في حركته الاجتماعية، يرى
الإمام الشيرازي أن المرأة التي تتشبه بالرجال ما هي في حقيقة الأمر
إلا امرأة عجزت عن أن تصبح رجلاً وعجزت في أن تعود لتصير أنثى بعد أن
فشلت في محاولتها الأولى للانتقال إلى مستوى تمثيل دور الرجل.
إذاً، فنظرية الإمام الشيرازي في المرأة تؤكد على أن تشبُّه النساء
بالرجال هو غير مساواتهن لهم، ويؤكد سماحته على هذه النقطة الهامة
بقوله: (فأن تكون المرأة مسترجلة هو شيءٌ مستهجن، وعلى النساء أن
يرفضنه حتى لو فُرض عليهن فرضاً، لأن ذلك يعني أن نفرض على المرأة ما
لا يناسبها ولا ينسجم مع عواطفها وخلقتها، ونفصلها عن شخصيتها التي
تعتز بها، وتتقمص شخصية أخرى لا تلائمها ولا تحقق لها رغباتها)(10).
وبناءً على هذا الكلام، فإن سماحة الإمام الشيرازي يريد أن يردم
الهوّة التي تفصل بين المرأة ودورها في ممارسة النشاطات الحياتية
المتنوّعة، ويريد أيضاً أن يخلّص المرأة من الغُربتين اللتين تعاني
منهما المرأة في مجتمع المدنية الغربية، أي غربة الكيان الوجودي وغربة
الضياع الروحي. ومهما حاول الغرب أن يهرب من هذه الحقائق، فإنه لا
يستطيع أن ينطلق بعيداً عنها لأنها تعيش معه وبداخله وتتفاعل مع
انفعالات أبنائه النفسية بشكل مخيف ومربك منذ ما يسمونه هم بالعصر
الحديث – أي بداية الثورة الفرنسية – وحتى الآن. وكتفعيل لما قاله
الإمام الشيرازي حول فقدان المرأة لحقوقها في الغرب، نرى أن المفكر
والفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) يؤكد تلك النظرة عن فقدان المرأة
لحقوقها بقوله: (لم يكن إعلان حقوق الإنسان سوى إعلان لحقوق
الرجال)(11). ثم يكمل واصفاً حالة الإنسان عموماً، والمرأة خصوصاً، في
ظل المجتمع الصناعي الحديث بقوله: (إن دور التضييقات التي سيطرت على
الماضي، حتى وإن لم تُلغ بكاملها مما يعفن الموقف في يومنا هذا، في
مبدئه ذاته، لهو أقل بكثير من مختلف أنواع العزلة في عالم يجعل فيه
الإنتاج السلعي والدفع المستمر إلى الاستهلاك، يجعل منا دواليب في جهاز
ليس له هدف أو معنى)(12).
إذاً، فقضية الحقوق أو المساواة في الغرب ما هي إلا قناع يحاول ابن
المدنية الغربية أن يضعه على وجهه كي يخفي قباحة ذلك الوجه المتفسخ،
وما هو في واقع الحال إلا محاولة يائسة لجذب الفتاة أو المرأة المسلمة
إلى تلك البؤرة من الانحطاط المادي تحت شعارات بالغة التزييف مثل:
المرأة والحرية الشخصية، الحجاب تقوقع وتخلف، الغرب أمل الإنسانية
السجينة... إلى غير ما هنالك من شعارات رنانة تحاول إقناع الآخرين بترك
ما يؤمنون به، ومن ثم اللحاق بأصحاب تلك الشعارات الخاوية.
والواقع أن هذه النقطة الهامة لم تغب عن فكر الإمام الشيرازي أبداً،
بل رأى أن الإسلام قد حفظ للمرأة كامل حقوقها مثلما حفظ حقوق الرجل
تماماً، ورأى سماحته من خلال قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(13)، أن بعض المستثنيات في الحقوق بين
المرأة والرجل هي في مصلحة كليهما معاً، فالمرأة هي الأم والرجل هو
الأب، وهذا لا يعني الظلم بحق أحدهما، بل هو المناسب تماماً لخلقتهما
وعواطفهما وطبيعة دوريهما في حركة الحياة.
غير أن نظرة الإمام الشيرازي للمرأة لم تتوقف عند هذا الحد، بل
تجاوزته إلى المساواة في ضرورة اكتساب العلوم والمعارف. نعم، من
الطبيعي أن يكون عمل المرأة الأول تربية الأطفال والاهتمام بشؤون
المنزل الداخلية، ولكن هذا لا يعني أن تبقى المرأة جاهلة وحبيسة دارها
دائماً وأبداً، بل على المرأة الصالحة أن تعمل، وبكل الوسائل الشرعية
المتاحة، على طلب العلم واكتسابه، ومن ثم تعليم أطفالها وأبنائها هذه
العلوم والآداب لأن المرأة بنظر الإمام الشيرازي (كالعالم والفيلسوف
فلو قارنا بينه وبينها في العمل لكانت خدمتها للمجتمع لا تقل درجة عن
خدمة العالم له، فالعالم وظيفته إعداد الجيل، والمرأة وظيفتها إعداد
الجيل أيضاً، وهي أشرف وظيفة وأقدس عمل)(14).
وهكذا نرى كيف أن الإمام الشيرازي (اعلى الله درجاته) يردّ دعاوى
وأباطيل الدعاة الغربيين بشأن ما يصفونه بمظلومية المرأة في ظل الشريعة
الإسلامية. وحتى نكون صادقين مع أنفسنا، قبل غيرنا، نقول إن الكثير من
المفكرين الغربيين قد رسموا صورة المرأة المسلمة من خلال أولئك الرواة
والفقهاء المسلمين الذين حشوا بطون كتبهم بأحاديث وفتاوى هزيلة تتعلق
بموقع المرأة في الإسلام ما أنزل الله بها من سلطان، فلو قرأنا ما جاء
في الصحاح وكتب التاريخ والسِّيَرِ عند بعض أولئك المسلمين، لأخذتنا
الدهشة من هشاشة ذلك الفكر العقيم والمنطق السقيم، ونذكر على سبيل
المثال، ما ذكره ابن سعد في طبقاته الكبرى حيث قال: (وكان من زهاد
الصحابة من يفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل وربما جامع قبل أن يصلي
المغرب ثم يغتسل ويصلي)(15). وليس هذا الحديث بأغرب من حديث أبي حامد
الغزالي عن مفهومه حول الزواج. فهاهو يقول في كتابه (إحياء علوم
الدين):
(والقول الشافي فيه – في حقوق المرأة حال الزواج – أن النكاح نوع من
الرّق، فهي رقيقة له فعليها طاعة الزوج مطلقاً في كل ما طلب منها
نفسها)(16). فأي منطق ضعيف هذا!!؟ ثم ما هو موقف أي باحث غربي عندما
يقرأ أن رسول الإنسانية (ص) قال لأصحابه أنه أعطي قوة أربعين رجلاً في
الجماع(17)؟!!
ومن الطبيعي وقتها أن يقول هذا الباحث أو ذاك: ما هذا النبي الذي
حباه الله بغريزة جنسية عمياء!! وما هذا الرسول الذي يحط من قدر المرأة
بأن يجعلها وسيلة للمتعة الذكورية فقط وذلك بأن يجعل مجامعتها بكثرة
وسيلة للتفوق على الآخرين!!؟ وهل يجوز لرسول السماء أن يمارس هذه
الغريزة الدنيوية بهذا الشكل؟!
إن هذا التشويه العلني لصورة المرأة في الإسلام من خلال تشويه صورة
نبي الإسلام (ص) وعلاقته بالمرأة لم يأت عن عبث، بل كان سلوك الخلفاء
الأمويين السيء مع النساء أحد أسبابه المباشرة. لقد وضعوا الكثير من
الأحاديث والأقوال عن لسانه (ص) ليبرروا أمام رعيتهم ما يقومون به من
أفعال وقبائح تجاه المرأة وغير المرأة في ممارساتهم السلطوية اليومية.
وللأسف، فإن الواقع الضبابي الذي تعيش فيه المرأة المسلمة قد تأثر
بآراء وأحكام من قد كان موجوداً على سدة الحكم قبل الخلفاء الأمويين
أيضاً، وقد حاولت الدكتور نوال السعداوي من خلال كتابها (الوجه العاري
للمرأة العربية) أن تلقي الضوء على تلك المفاهيم والممارسات الخاطئة
التي عصفت بالمرأة العربية من قبل أناس قد أحكموا قبضتهم الذكورية على
عنق الأنثى (المرأة المسلمة) منطلقين في ممارساتهم الخاطئة تلك من
أحكام بعيدة عن روح الإسلام وجوهره. وفي ذلك نسمع الدكتور السعداوي
تقول: (ولا شك أن أغلبية الرجال العرب قد نهجوا نهج عمر بن الخطاب في
التسلط على المرأة.... ومن هنا يتضح كيف ترك عمر بن الخطاب وأمثاله من
الرجال العرب من ذوي النزعة الأبوية المتسلطة بصماتهم على كثير من
الأحكام التي تُفرض على النساء العربيات اليوم باسم الإسلام مع أنها
ليست من الإسلام كما رآه أو أتبعه محمد)(18). ومن هنا بدأت الأفكار
والآراء الخاطئة تتسلل إلى عمق الأيديولوجية الإسلامية المتعلقة بحقوق
المرأة وواجباتها، فاعتبر الكثير من المشرِّعين والفقهاء أن خروج
المرأة لطلب العلم حرام، وأن خروجها للعمل ومساندة الرجل في النهوض
والارتقاء بالمسؤوليات والواجبات الاجتماعية حرام أيضاً، بل رأى البعض
منهم أن المرأة خُلقت لممارسة دورها الأنثوي، ولإرضاء الرجل وطاعته في
كل ما يطلبه منها حتى ولو كانت تلك المطالب محرَّمة شرعاً وبعيدةً كل
البعد عن رضى الله ورسوله (ص).
ولكن بالمقابل نرى أن المتبصرين بحقيقة الرسالة الإسلامية يرفضون
الانطلاق في تعاملهم مع المرأة من موقع التسلط أو الاضطهاد. وهاهو
الرسول الكريم (ص) يُعلِّ أتباعه الأسس الأولى للانطلاق في التعامل مع
المرأة قائلاً ومحذراً من اضطهادها أو ظلمها: (فأي رجلٍ لطم امرأته
لطمةً أمر الله – عز وجل – مالكاً خازن النيران، فيلطمه على حرِّ وجهه
سبعين لطمة في نار جهنم..)(19). وقد أتبع الإمام الشيرازي هذا النهج
القويم في أسلوب التعامل مع المرأة، واعتبر أن الظلم الذي يقع عليها
فإنما هو ظلم يقع على المجتمع بأكمله. وقد أعلن سماحته في أكثر من
مناسبة وفي العديد من مؤلفاته، وأجوبته للاستفتاءات الموجَّهة إليه أنه
(لا يجوز حبس المرأة بمعنى السجن والتضييق والإيذاء، ويلزم أن تبتعد عن
الاختلاط غير المشروع بالرجال في الأسواق والمحلات التجارية والرياضية
ونحوها، ولا مانع من خروجها لطلب العلم وصلة الأرحام وأداء دورها
الاجتماعي وما أشبه ذلك مع مراعاة الموازين الشرعية...)(20).
ومن هنا ندرك كيف أن الإمام الشيرازي يتحرك في خطِّه الرسالي من
خلال تفعيل طاقاته الفكرية ووضعها في خدمة الإنسان بعد رسم الخطوط
التفصيلية الواضحة لحركة ودور (الرجل) و(المرأة) في تيار تفاعلاتهما
اليومية دون إلغاء هذا الطرف أو ذاك.
وبما أن الإسلام في حقيقته وجوهره لم يلغ إنسانية المرأة، ولم يرفع
عنها مسؤولية التكليف الشرعي تجاه ربها وتجاه مجتمعها من خلال علاقاتها
معه، فمن الطبيعي إذاً، أن يعترف هذا الدين بالهوية الاجتماعية للمرأة،
وأن يعتبرها مسؤولة أمام ربها عن كل ما يترتب عليها من واجبات
ومسؤوليات تجاهه – عز وجل – وتجاه خطِّها الاجتماعي الآخر.
ومن خير الأمثلة التي ضربها لنا الإمام الشيرازي عن هذه الحقيقة،
وعن الدور الرسالي الذي يمكن للمرأة أن تلعبه من أجل استمرار الخط
الجهادي في الحياة واستنهاض روحانية الإنسان، هو ذلك المثال المتعلق
بالسيدة زينب (ع) تجاه مواقف أخيها الإمام الحسين(ع). فالإمام الحسين
(ع) قد اعتمد على أخته زينب (ع) اعتماد السنابل العطاش. على رحمة
السماء من أجل خلقِ الأجيال القادمة التي ستجاهد في سبيل ذات الهدف
الذي سعى إليه الإمام الحسين (ع) على طول مسيرة حياته الشريفة إلى أن
انتهت تلك الحياة بشكل بطولي على رمال كربلاء.
وقد أكد الإمام الشيرازي على أن الإمام الحسين (ع) (قد أعدَّها – أي
زينب (ع) – لما بعد واقعة الطف، وعوَّل عليها في إكمال دوره في
ثورته)(21). واعتبر سماحته أيضاً أن السيدة فاطمة الزهراء (ع) يمكن
اعتبارها المثل الأعلى لنساء العالمين إلى جانب أخواتها: مريم وآسيا
وخديجة (عليهن السلام أجمعين). فعندما أنزله الله سبحانه وتعالى قوله:
(فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(22)، كان المقصود
بقوله تعالى (نساءنا) فاطمة الزهراء (ع) دون غيرها من النساء المسلمات،
وذلك يوم المباهلة مع علماء (نجران). إن هذه الحقيقة التي لم تغب عن
ذهن الإمام الشيرازي، لم تغب أيضاً عن ذهن العديد من المفكرين
والمستشرقين، لاسيما المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) الذي اعتبر أن
السيدة الزهراء (ع) استحقت بجدارة لقب (أم أبيها) لأنها، من الناحية
العملية، هي النموذج المثالي للمرأة الكاملة التي تمثل دور الوسيط بين
الإنسانية المثالية المعذبة على الأرض، وبين الكمال الكلي الذي سيرسل
من يخلص البشرية من الظلم والاضطهاد، ذلك الظلم الذي بلغ ذروته مع
إجهاض الزهراء (ع)(23).
إذاً، فالمرأة المثالية عند الإمام الشيرازي هي تلك التي تضحي بأعز
ما تملك – حتى ولو كانت الضحية جنينها الذي بين أحشائها – في سبيل رفع
لواء الكرامة الإنسانية تحت شمس الحقيقة المحمدية. فالزهراء وزينب
وخديجة (ع) هُنَّ الاختزال الحقيقي لمفهوم المرأة التي شاءها الله أن
تكون على الأرض أماً وأختاً وابنةً ذات بُعدٍ رسالي وخط جهادي يتماهى
مع الصراط المستقيم الذي تمثله مدرسة أهل البيت (ع) عموماً خير تمثيل.
وكما ذكرنا سابقاً، فإن الفهم الخاطئ لتعاليم الإسلام لا يعني أبداً
أن الخطأ من الإسلام ذاته، بل إن فساد الطبيب لا يعني فساد الطب
ورسالته الإنسانية، فالتخلف الذي تعاني منه المرأة في مجتمعنا الإسلامي
الراهن ليس سببه الرجل فقط أو المرأة فقط، بل هو نتيجة طبيعية للأوضاع
الإسلامية العامة التي تعيش أجواء التخلف والاختلاف مما يؤدي بدوره إلى
فقدان المجتمع بأكمله لهويته الدينية ولغياب تأصيل الشخصية الإسلامية
وتشتت أبعادها الفكرية وانحلال روابطها الروحية. ولذلك فإن الإمام
الشيرازي حارب بلا هوادة كل (البوَّاقين) الذين يدعون إلى اللحاق بركاب
المدنية الغربية، أولئك الذين ادعوا أن الإسلام هو المسؤول عن تخلفنا
عموماً وعن تخلف المرأة خصوصاً. ولم تكن تلك الحرب التي شنها سماحته
على أولئك الجهال بحقيقة تعاليم الإسلام حرباً عاطفية أو انفعالية، بل
كانت حرباً عقلانية يحاور العقل فيها العقل ويناقش فيها المنطق المنطق
بلا انفعال ولا اندفاع، وقد قدم سماحته للقارئ المسلم، وغير المسلم،
العديد من المؤلفات التي تغني الفكر وتثلج الصدور بالحجج والبراهين
التي يمكن لكل فردٍ أن يستعين بها في إدراك وفهم النهج القويم لتعاليم
ومبادئ الرسالة الإسلامية. وقد كشف سماحة الإمام الشيرازي اللثام عن
أعقد المسائل الإسلامية التي يمكن أن تخطر على بال أي مسلم في مشرق
الأرض ومغربها، ولم يكتف بعرض هذه المسائل الشائكة، بل قدَّم سماحته
أفضل وأوضح الحلول لها من خلال رؤيته العميقة لجزئيات العقيدة
الإسلامية وإمكانية تفاعل تلك الجزئيات والمفاهيم الدقيقة مع المستجدات
والتطورات العصرية، وهذا ما نجده مفصلاً وموضحاً في مؤلفه القيم (حوار
حول تطبيق الإسلام) ومن الطبيعي أن يكون للمرأة سهم وافر في هذا
السِّفر الثمين، لأنه – اعلى الله درجاته – تعمد وضع هذا الكتاب الشامل
ليرد التهم عن الإسلام الذي يراه البعض سبباً لتراجعنا أمام بقية الأمم
والأديان، ومصدراً من مصادر تخلف الرجل والمرأة على حدِّ سواء. وقد روى
سماحته في مقدمة كتابه المذكور (24) كيف أنه لاحظ مدى وعمق الروح
الانهزامية التي أصابت المسلمين أمام بريق الغرب والشرق المنجرفين في
تيار المادية التي سطع نجمها مع بدايات القرن الماضي، وتأكد من خلال
محاوراته مع كبار المثقفين منهم أنهم ظنوا ظن اليقين أن تقدَّم غير
المسلمين في الصناعات والاختراعات قد ترافق مع تقدُّم في الفضائل
والأخلاق والمناهج الحيوية والضوابط الروحية، فهرولوا لاهثين وراء سراب
بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، فتركوا الإسلام جملة وتفصيلاً ونبذوا القرآن
وراء ظهورهم، وأمروا المرأة بتمزيق حجابها وبتحررها من كافة أنواع
القيود والضوابط تحت شعار (ممارسة الحريات الشخصية) فكانت النتيجة
الطبيعية لذلك الإتباع الأعمى أن فقدوا هويتهم الإسلامية من جهة،
وعجزوا عن مجاراة الغرب واكتساب هويته الفكرية من جهة ثانية.
ولكن المشكلة التي لا نستطيع تجاهلها هنا، والتي أفلح الإمام
الشيرازي في تجاوزها تماماً، هي افتقاد الكثير من العلماء المسلمين
لمعنى (الصَّيرورة) وإدراك العمق الزماني والمكاني لأية قضية حساسة
كقضية المرأة مثلاً. فأغلبهم يحاول أن يجرَّ مجتمعه إلى الوراء بهدف
جعله يعيش زمن محمد (ص)، في حين أن المطلوب منهم أن يجعلوا من تعاليم
ومبادئ محمد (ص) دستوراً لنا يعيش معنا في عصرنا وفي خدمة موقع كل
مجتمع من المجتمعات الإسلامية. فالإسلام في جوهره لا يقف حجرةً عثرة في
وجه المتغيرات، بل هو دُين وُجد من أجل المتغيرات وإلا لما جعله الله
سبحانه وتعالى خاتمة العقائد ومنتهى الأديان. فالثوابت واحدة في كل
الأديان والشرائع، ولكن المتحولات هي الجديرة بالبحث والتطوير والتعايش
مع عجلة الحياة المتسارعة نحو تقريب المسافات واختزال الأبعاد.
فالمشكلة هنا إذاً، أننا نعيش الماضي في الوقت الذي علينا فيه أن
نعيش الحاضر ونخطط للمستقبل على ضوء دروس وتجارب الماضي، ولا أعتقد أن
أحداً يلومنا إذا قمنا بزيارات هادفة للماضي، ولكن إذا قمنا بتحويل تلك
الزيارات إلى محطات إقامة دائمة، فعلينا وقتها أن نلوم أنفسنا قبل أن
يلومنا الآخرون لأن الزيارة شيء والإقامة شيء آخر.
إننا نصاب، دون أدنى شك، بدهشة عظيمة عندما نقرأ أن بلداً عربياً
إسلامياً يزفُّ إلينا عبر إحدى جرائده الرسمية أنه أصبح من حق المرأة
الحصول على بطاقة هوية شخصية بعد مُضي عام من القرن الحادي والعشرين!!!
أليس من الغريب حقاً أن بلداً إسلامياً مثل السعودية التي تعتبر
نفسها حاضرة الإسلام ومهده، ينشر هذا الخبر عبر جريدة (عكاظ)(25)
الرسمية وكأنه يمنن المرأة السعودية بهذا العطاء وبهذا الاعتراف
بإنسانيتها وبوجودها على أرض بلدٍ شهد ولادة الإسلام؟!!
أليس من المخيف أن يأخذ بعض مُدّعي الثقافة في العصر الحديث بفتاوى
ابن تيمية الجائرة بحق المرأة حين يقول: (إن المرأة الصالحة هي التي
تكون قانتة أي مداومة على طاعة زوجها، فمتى امتنعت عن إجابته إلى
الفراش، كانت عاصية ناشزة، وكان ذلك يبيح له ضربها)، (المرأة عند زوجها
تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، أمرها
أبوها أو أمها أو غير أبيها)(26)؟!!
ومن خلال هذه الأمثلة القليلة التي أوردناها وُلدت النظرات
الاستشراقية المتباينة تجاه رسالة الإسلام. فالمفكر أو المستشرق الذي
يقرأ هذه الفتاوى الصادرة عن ابن تيمية وغيره، حتى من أصحاب المذاهب،
سوف ترتسم عنده صورة هذا الدين بشكل مشوَّه وغير مقبول من الناحيتين
العقائدية والعملية، إذ كيف له أن يقبل بفكرة أن المرأة عموماً لا
يُنظر إليها في ظل هذا الدين إلا على أسس أنها أحبولة الشيطان، وشبكة
إبليس في اصطياد المؤمنين، وطريق ضلال الصالحين؟!! وكيف له أن يقبل
بدينٍ ينادي بحظر العلم و المعرفة على كل امرأة منتسبة إلى هذا الدين؟!
فهل تراه سيقبل على هذا الدين أم سينفر منه؟!!
ولو أخذنا الجانب الثاني من هذه المعادلة وتساءلنا قائلين: كيف سيرى
أربابُ الفكر والثقافة الإسلام من خلال مدرسة أهل بيت النبوة (ع)، تلك
المدرسة التي تقدس الأمومة في المرأة، وتجل إيمانها بعظمة رسالتها
ودورها في الحياة، وهاهو سيد وعظيم مدرسة أهل البيت يقول (ص): إن
(أنفاس الحامل ونومها عبادة، وصعوبة الحمل عبادة، فإذا وَلدت تطهرت من
ذنوبها مثل طهارة وليدها، ثم تخاطب باستئناف العمل واجتناب
المعصية)27)؟!! بل كيف سترتسم صورة الإسلام في نظر هذا المفكر أو ذاك
المستشرق عندما يقرأ قول الإمام الصادق (ع): من عال ابنتين أو أختين أو
عمتين أو خالتين حجبتاه من النار)(28)؟!
أليست مقولة الرسول الكريم (ص): (أكثروا الخير بالنساء) مدعاةً
للانجذاب نحو الإسلام ونحو ممثليه الحقيقيين؟!
فنحن لا نشك أبداً في أن الذي يقرأ بعمق نهج أهل البيت (ع) وفلسفتهم
الإسلامية في فهم الحياة، سيأمر سفينة روحه أن ترسوا في مرفأ ولايتهم
وتحت منارة هدايتهم (ع). ولذلك فإننا نعترف هنا بشكلٍ علني ومباشر بأن
المنظومة الفكرية والعقائدية للإمام المجاهد آية الله السيد محمد
الحسيني الشيرازي (اعلى الله درجاته) هي الترجمة الصادقة والمرآة
الصافية التي تعكس باستمرار صورة الرسالة الإسلامية المشرقة من خلال
إبحار سماحته في بحار علوم وأسرار ولايتهم (ع). ولَئِنْ ناقشنا هنا
مكانة المرأة في منظومته الفكرية ونظريته الإسلامية العصرية، فإننا
نشعر بضيق المساحة والزمن، والعجز عن الإحاطة الكاملة بفكر هذا الإمام
المجاهد المجدِّد للتعاليم الحنيفة التي يحاول البعض دفنها تحت ركام
التعصب، ومحاولة زخرفة الباطل وإلباسه ثياب الحق والحقيقة.
وأخيراً نقول، يكفي هذا الإمام المجاهد فخراً أنه اتخذ قول رسول
الإسلام (ص):
(الجنة تحت أقدام الأمهات)(29) عنواناً له في تعامله ونظرته للمرأة
المسلمة، وجعل من هذا الحديث منطلقاً وغايةً لفهم المرأة ولفهم دورها
الرسالي على مدارج الوجود.
المصادر والمراجع
1- د. عبد السلام الترمانيني الوسيط في القانون
والنظم القانونية منشورات جامعة حلب 1986 ص133.
2- السيد مهدي الصدر أخلاق أهل البيت دار الكتاب
الإسلامي ص 275.
3- أبو الحسن الندوي ماذا فسر العالم بانحطاط
المسلمين؟ دار القلم – الكويت 1970م ص186.
4- سورة الروم/21.
5- سورة النساء/ 1.
6- سورة آل عمران/ 42.
7- سورة التحريم/ 11.
8- آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني
الشيرازي المرأة في ظل الإسلام مؤسسة المجتبى بيروت 2001م ص15.
9- باربارا كايزر مأساة المرأة المعاصرة ترجمة محمد
حيدر طبع اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1985 ص15.
10- الإمام الشيرازي المرأة في ظل الإسلام ص17.
11- روجيه غارودي مستقبل المرأة ترجمة: محمود
الودرني دار الحوار – اللاذقية 1985 ص21.
12- نفس المصدر السابق ص44.
13- سورة البقرة/ 228.
14- الإمام الشيرازي المرأة في ظل الإسلام ص21.
15- محمد بن سعد الطبقات الكبرى طبع دار التحرير –
القاهرة 1970 ص896.
16- أبو حامد الغزالي إحياء علوم الدين دار الشعب –
القاهرة 1970 ص746.
17- محمد بن سعد الطبقات الكبرى ج8 ص139.
18- د. نوال السعداوي الوجه العاري للمرأة العربية
المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1977 ص45.
19- الشيخ حسين مظاهري أخلاقيات العلاقة الزوجية دار
التعارف للمطبوعات – بيروت 1994 ص171.
20- أجوبة المسائل الشرعية (مطابقة لفتاوى الإمام
السيد الشيرازي) العدد 45 شعبان 1422هـ.
21- الإمام الشيرازي المرأة في ظل الإسلام ص26.
22- سورة آل عمران/ 61.
23- جان موريون لويس ماسينيون المؤسسة العربية
للدراسات والنشر – بيروت 1981 ص81 – 83.
24- آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني
الشيرازي حوار حول تطبيق الإسلام مؤسسة الوفاء – بيروت 1983 راجع
المقدمة.
25- راجع جريدة (البعث) السورية العدد (11661)
بتاريخ 3/12/2001 ص12 وقد نقلت (البعث) الخبر عن (عكاظ).
26- نبيل فياض حوارات في قضايا المرأة والتراث
والحرية دار أسامة – دمشق 1992 ص69.
27- الشيخ حسين مظاهري أخلاقيات العلاقة الزوجية
ص161.
28- آية الله الشيرازي المرأة في ظل الإسلام ص46.
29- نفس المصدر ص29.
مركز الامام الشيرازي للدراسات
والبحوث*
http://www.shrsc.com
studies@shrsc.com |