خلال محاضرة له بمناسبة الذكرى السنوية الاولى..

آية الله السيد مجتبى الحسيني الشيرازي يسلط الضوء على بعض مزايا الشخصية الفذّة للإمام الشيرازي الراحل – قدس سره –

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلي على محمد وآل محمد وعجل فرجهم في عافية منك والعن أعداءهم وأرحم أولياءهم واجعلنا معهم في الدنيا والآخرة وترحم بهم على عجزنا يا ربّ يا الله.

اليوم الثاني من شهر شوال يصادف ذكرى رحيل شهيد الإسلام صاحب سيدة الموسوعات الفقهية المجدد الشيرازي الثاني - قدس سره - وبهذه المناسبة يجدر بي وأنا أخوه الأصغر أن أذكر بين أيديكم كلمات، مع غض النظر عن أسرته الكريمة، إذ كانت تزدحم بالعظماء، ومع غض النظر عن مكان ميلاده (النجف المقدّس) ومكان نشوئه وترّبيه وتعلمه (كربلاء المقدسة) والمكان الذي قضى فيه السنوات الأخيرة من عمره المبارك (قم المشرّفة)، ومع غض النظر عن والده المقدّس الذي كان يلازمه ملازمة دائمة وشديدة ودقيقة.. مع غض النظر عن هذا، ومع غض النظر عن مواهبه التي كانت متنوعة وكثيرة؛ عقله، سرعته، ذكائه، نشاطه، وما أشبه.

من جملة توفيقاته أنه – قدس سره تشرّف بلقاء الإمام المنتظر (عج) ثلاث مرات، وكان يحاذر من البوح بهذا السر.

 كانت له مكتسبات متنوعة كثيرة، وفي كل مكتسباته كان قدوة وأسوة لغيره من رجال الدين، والملتزمين من غير رجال الدين. ومن مكتسباته أذكر خمس نقاط ربما تكون هي الأهم، طبعاً الشهيد لم يكن معصوماً، كما لا يخفى، ولكن مع ذلك كان قدوة وأسوة

يحتذي مثالها من شاء، ويسير على طريقتها من أحب، النقاط الخمس هي:

أولاً: رياضة النفس: كان يروض نفسه بشكل دائم ومستمر ودقيق وشديد، من يراه في أي حالة من حالاته كان يرى أنه في حالة ترويض النفس من حيث الأكل، من حيث الشرب، من حيث عدم الاستزادة بالملاذّ المحللة فكان دائماً في حالة ترويض النفس. طبعاً هذا غير الرياضة النفسية الشرعية الرسمية التي كان يقوم بها بين فترة وأخرى، في كل فترة - على الأقل أربعين يوماً - كان ينكمش وينقمع عن استعمال الحيوان والحيوانيات كشيء أساسي في الرياضية الشرعية الرسمية.

ثانياً: كان دائم الاشتغال؛ كان يدرسُ، أو يباحث، أو يدّرس، وكان يطالع الكتب الحوزوية والكتب غير الحوزوية القديمة، والكتب الحديثة في الحقول المتنوعة من السياسة والاقتصاد والاجتماع وما أشبه، والكتب الحديثة في حقول الثقافة العامة، وكان يفكر طويلاً، وكان عابداً، وكان محاضراً، وكان محاوراً، وكان مؤلفاً، ومؤلفاته دوخت العالم، مؤلفاته بحد ذاتها مكتبة إسلامية متنوعة متعددة المجلدات، مؤلفاته مؤلفات حوزوية لأصحاب الحوزة، ومؤلفات لغيرهم من عامة أفراد الناس، فكان دائم الانشغال ولم يكن يفرط حتى في دقيقة واحدة.

ثالثاً: كان يوفر الوقت: فعادةً ما كان يأكل وهو قائم، وحتى ما كان يجلس للأكل، يُسئل فيقول: إذا الإنسان أكل وهو قائم فإنه يختصر الوقت اختصاراً، وإذا أكل وهو جالس فإن الأكل يأخذ منه وقتاً أكثر، إذا أكل وهو على المائدة مع الآخرين فإن الأكل يأخذ وقتاً أكثر.. كان يوفر الوقت بشكل غريب، وحتى في مجال التأليف كان يوفر الوقت، والكثير من مخطوطاته ليس على صفحاتها أرقام. وكان يقول: الدفتر منظم فلماذا أرقم الصفحات، ترقيم الصفحات يأخذ مني وقتاً.

كانت له مكتسبات متنوعة وكثيرة وفي كل مكتسباته كان قدوة وأسوة لغيره من رجال الدين، والملتزمين من غير رجال الدين

وكان له إملاء خاص من جهة توفير الوقت، ولأجل توفير الوقت كان يخالف بعض قواعد الإملاء، وعندما يُسئل، كان يقول بأن القواعد السائدة لتوفير الوقت وأنا أنظر نظرة بعيدة فأغير بعض قواعد الإملاء لصالح توفير الوقت. طبعاً يقول للمستنسخين ولأرباب المطابع حتى يلتفتوا فيستنسخوا الكتب ويطبعوا الكتب حسب قواعد الإملاء السائدة، فكان يوفر الوقت بشكل غريب.

رابعاً: كان موفقاً، والتوفيق يعني تهيئة الأسباب من الله تعالى، كنوع من أنواع الثواب المقدمة لمن يقوم بالأعمال الصالحة، فكان موفقاً وكان ظاهراً عليه أنه موفق.

خامساً: وفقه الله تعالى، ومن جملة توفيقاته أنه تشرف بلقاء الإمام المنتظر (عج) ثلاث مرات، كما أتذكر طبعاً، وكان يحاذر من البوح بهذا السر، وأنا عرفت هذا السر بالقرائن، وبعد شهادته أخبرني السيد محمد صادق - دام ظله - بهذا السر تفصيلاً في رسالة أرسلها من قم المقدسة إليّ ذكر فيها أن الشهيد كان قد بيّن له هذا السر بتفاصيله، طالباً عدم البوح به إلا بعد مغادرته الحياة إلى عالم البرزخ.

بالإضافة إلى هذه النقاط الخمس فله أبعاد متنوعة وكثيرة؛ في البدايات درسه وتدريسه ومباحثاته كانت مثار التعجب من قبل أستاذته وزملائه وتلامذته، جهاده كان عظيماً، كفّه نفسه عن السفر كان عظيماً، فلم يسافر طيلة حياته التي بلغت الخامسة والسبعين، لم يسافر إلا مرة واحدة إلى الحج بصحبة والده رضوان الله تعالى عليه، ومرة ثانية من العراق إلى الكويت، وكان سفره هجرة في سبيل الله تعالى عبر سوريا ولبنان اللذين لم يقم فيهما إلا بضعة أيام، وسفرة أخيرة من الكويت إلى قم المشرفة عبر طهران التي لم يقم فيها إلا دقائق بمقدار ما خرج من المطار، واستأجر سيارة تقله مع صاحبه إلى قم المشرفة، وطبعاً سفرة رابعة إجبارية في ظروف قصف المدن (أيام الحرب العراقية – الإيرانية) سافر إلى مشهد المقدسة لزيارة الإمام الرضا عليه السلام والاستمرار بالشؤون الحوزوية مدة أشهر، ومن حيث تربّيه وتعلمه على والده كان عجيباً أيضاً، والده كان غريباً وعجيباً، ينقل عنه فيما ينقل، طي الأرض، والاتصال المباشر بالإمام الكاظم عليه السلام، والده كان مرجعاً بصورة مثالية، كان عالماً بصورة مثالية، علمه كان خلاصة تحقيقات المجدد الشيرازي الأول - قدس سره - صاحب ثورة التنباك، والشيخ محمد تقي الشيرازي - قدس سره - صاحب ثورة العشرين. علمه كان خلاصة احتكاكاته بعلماء كبار من أمثال السيد علي الشيرازي - قدس سره - والسيد محمد حسين القمي - قدس سره - علمه كان خلاصة زمالته لأمثال السيد عبد الهادي الشيرازي - قدس سره -.

والده كان تقياً بصورة مثالية أذعن لتقواه حتى أعداؤه، والده كان مجاهداً بصورة مثالية، ومن ذلك جهاده تحت لواء السيد القمي - رضوان اله عليه - في وجه البهلوي الأول (شاه إيران) وجهاده مستقل في زمن المد الأحمر في العراق، في زمن الشيوعيين الذين ارتكبوا في العراق خيانات وجنايات وحشية لا تفي بذكرها موسوعة كاملة.. الشهيد الجديد أخي الأكبر - رضوان الله تعالى عليه - تربى وترعرع ولازم واستظل بظل هكذا والد مرجع مثالي، عالم مثالي، متقي مثالي، مجاهد مثالي، وكان والده رضوان الله عليه حريصاً على تعليمه وعلى تربيته. على أي حال لا أتمكن في هذه العجالة من استيعاب مزايا الشهيد الجديد رضوان الله تعالى عليه، ولولا بعض الحكومات، ولولا بعض المرجعيات، ولولا بعض الأحزاب، ولولا أفراد جهلة، بالمعنى الأول أو بالمعنى الثاني أو بهما معاً، فلولا بعض الأفراد الجهلة في الحوزة العلمية المقدسة في النجف المقدّس، وفي الحوزة العلمية المقدسة في قم المقدسة، لكان عطاء الشهيد الجديد من حيث الكثرة ومن حيث الجودة شيئاً لا يتصور، ولكن هذا قدر الشهيد الجديد، قدره أعداؤه وبالطبع كان له أصدقاء، ولكن وضعه مع أصدقائه ومع أعدائه. يشبه وضع أمير المؤمنين عليه السلام، عندما تأفف من أصدقائه قائلاً ما مضمونه، ياليت أتعامل مع معاوية بالنسبة لأصحابي وأصحابه كما يتعامل الصيرفي بالدينار والدراهم، فأعطى عشرة وأخذ واحد...

كان يروض نفسه بشكل دائم ومستمر ودقيق وشديد، من يراه في أي حالة من حالاته كان يرى أنه في حالة ترويض للنفس.

على أي حال ذهب الشهيد الجديد رضوان الله عليه، على العادة الجارية في كبار الأسرة الشيرازية الكريمة الذين لا ينتقلون من الدنيا إلى عالم البرزخ إلا قتلاً وشهادة إما بالرصاص أو بالسم؛ فقد ذهب المجدد الشيرازي الأول - قدس سره - في مدينة سامراء شهيداً بالسم... وبعده ذهب الشيخ محمد تقي الشيرازي - رضوان الله عليه - في مدينة كربلاء المقدسة شهيداً بالسم....

وبعده ذهب الشهيد السيد حسن الشيرازي - قدس سره - في بيروت شهيداً برصاصات البعض الملحد الناصبي... وأخيراً وليس آخراً حسب الظاهر ذهب الشهيد الجديد - رضوان الله عليه - في قم المشرفة شهيداً بالسم، رضوان الله تعالى عليه في الصالحين ورضوان الله عليه في الشهداء... والشهادة غاية المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام والشهادة كرامة أكرم الله بها خير مخلوقاته النبي والوصي وسيدة نساء العالمين والزكي والشهيد والسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام. والشهادة كرامة سوف يكرم الله بها الإمام المنتظر (عج) ونحن معه، يكرمه الله تعالى بها في مدينة كربلاء المقدسة حيث يتولى تجهيزه والصلاة عليه وغسله الإمام الحسين، وسوف يكفنه في مكانه في ضريحه في الحائر الشريف.

نسأل الله أن يوفقنا نحن والمؤمنين والمؤمنات للاقتداء بهذا المرجع المثالي، والسير في هداه، ونيل الشهادة في خاتمة عمرنا.. إنه سميع مجيب الدعاء.