الإمام الشيرازي في ركب العظماء

 باسم البحراني

 قبل عامٍ كاملٍ من كتابة هذه الكلمات، كنتُ قد كتبتُ حينها مقالةً حول هذا السيد العظيم، الذي قلَّما يجود الزمان علينا بأمثاله، مقالةً بعنوان: (الإمام الشيرازي شخصيةٌ تستعصي على الموت)، وفيما ذكرته حينها، أنه (رضوان الله تعالى عليه) من أولئك الذين حلَّقوا بعيداً في الآفاق، بحيث أن الموت -وإن أطبق على الأجساد- إلا أن الأرواح ما تزال طليقةً، هذا إن لم نقل أنها في هذه اللحظة أكثر تألقاً وظهوراً من أيّ وقتٍ مضى، وهذا ما حدث بالفعل بعد مضي عام على الرحيل المؤلم، فها نحن نرى بأن الإمام الشيرازي بإشعاعه الفيّاض، وشخصيته العملاقة، يتربع على عرش القلوب والضمائر، متوَّجاً بالمحبة التي صنعه لنفسه بأخلاقه الساحرة، وبسمته الأبوية الرقيقة، وحنانه النبويّ الكبير.

    نعم، بعد مضي عام على الرحيل، آن لغبار الألم أن ينقشع، ولشمس النقاء والأمل أن تتحرر، وآن لنا – نحن – أن نتعلم أن العظيم هو من يصنع العظمة لنفسه، لا أن تصنعه العظمة، فبمقدار ما تكون أنتَ عظيماً يكون كذلك كل ما يخرج عنك، ولا ريب في ذلك، (فكل إناءٍ بالذي فيه ينضح)، من هنا أريد أنْ أقول: إنَّ الإمامَ الشيرازي بما عاناه وكابده في حياته، المثقلة بالعطاء والآلام والمشاق والسراء والضراء، إلا أنه مع كل ذلك لم يكن من أولئك الذين يستسلمون، أو ينكسرون، أو يرضخون...

    كلا...

    بل، كان من أولئك الذين لا تزيدهم العقبات والصعوبات إلا إصراراً وتحدياً وتمسكاً، ولولا ذلك لما كان الإمامُ الشيرازيُ الإمامَ الشيرازيَ الذي نعرفه جميعاً.

    من هنا، ونحن نتحدث عن شخصيته الفذّة، إنما نتحدث عن تاريخ عملاقٍ من العمالقة، وعظيمٍ من العظماء، هذه الشخصية المليئة بالدروس والعِبَر والعطاءات الجمّة –وهذا مما يضاف إلى عطاءاته وبركاته حتى بعد رحيله-، ونحن بحاجةٍ إلى أخذ الدروس منه أكثر من الافتخار المجرد والأجوف، الافتخار الفارغ من أي عبْرةٍ، وهذا ما لا يريده لنا الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه)، لذا، كان من أهل العطاء المتواصل، ومن الذين يدفعون ويشجعون على العطاء وتقديم الإنجازات اللامتناهية.

    من هنا، قفز إلى ذهني سؤالٌ مفاده، ما الذي جعل من هذا الرجل على بساطته وتواضعه يحوز على هذا القدر الهائل من العظمة والزهوِّ والتألق ؟!!

    حاولتُ أن أحصل على إجابةٍ لهذا السؤال فلم أجد جواباً إلا اتصافه بصفات العظماء، وفي مقدمتها (صفة نكران الذات)، نعم نكران الذات في كل شيء، فهو حينما يكتب ويؤلف لا يرى في نفسه أنه قدّم الشيء الكثير مع أنه فعل ذلك، فتراه يقدِّم ويقدِّم، حتى ربتْ كتاباته على الألف كتاب.

    وحينما يلتقي بالناس – وخاصةً أولئك الذين ارتكبوا أخطاءً في حقه- لا ترى منه إلا البسمة والعطف والحنوّ والأخلاق النبوية الساحرة، كأخلاق جده رسول الله (ًص)، حتى أنه يُشعركَ من خلال أخلاقه بقيمة نفسك.

    بل، يُنسيك أنك جالسٌ أمام شخصية غير عادية، حتى يصل بك الأمر إلى الشعور بأنك جالسٌ أمام صديقٍ قديمٍ طالما تحادثتَ وتجاذبت معه أطراف الحديث.

    بحيث أنك تبدأ بالتساؤل بينك وبين نفسك، من أنا حتى يتوجه إليَّ رجل في مثل منزلة هذا الرجل العظيم بمثل هذا الاهتمام الكبير وغير العادي، والذي لم أكن لأحصل على القليل منه ممن هم أقل منه مرتبةً.

    وحتى إذا ما سكب في أذنيك وصاياه الحانية، قمتَ من أمامه وتودُّ لو تنجزها واحدةً فواحدةً، لفرط ما تعمَّقت في ذاتك محبة هذا الرجل/ العظيم...

    وحينما يفكر في قضايا هذه الأمة وما تعانيه، يتجاوز بتفكيره المناطقية والنظرة المجتزئة؛ لذلك فهو يحمل همَّ الأمة، كل الأمة –بكل ما تعنيه الكلمة من معنى- فتراه يوجه مريديه ومحبيه وكل أبناء الأمة إلى بذل الوُسْع من أجل خدمة قضايا الأمة، وسدِّ الثغرات ونقاط الضعف التي تعاني منها؛ وذلك من خلال إقامة المشاريع وتشييد الصروح والمؤسسات الحضارية التي تبني الأمة، لتكون بحقٍّ خيرَ أمةٍ أخرجتْ للناس.

    هكذا، صنع الإمام الشيرازي عظمته، فأدهشنا وسكن في دواخلنا أميراً لا يشقُّ له غبار، ثم هاهو ذا يرحل عنا مخلِّفاً وراءه أطناناً من الأحزان والآلام التي لا تحصى، لكنه خلَّف الكثير من المحبين والمريدين الذين سحرهم بعظمته الربانية، بنكرانه لذاته، ذلك النكران الذي جعل منه بركاناً من العطاء الذي لا ينضب، بحيث أنه كلما قدَّم عطاءً يرى نفسه مقصِّراً، وكلَّما شيَّد صرحاً يرى في نفسه أنها لم تقدِّم إلا القليل؛ فيزداد عطاءً وبذلاً حتى آخر لحظةٍ من لحظات عمره المبارك، فكان مصداقاً لدعاء الإمام السجاد (ع) في صحيفته السجادية، في "مكارم الأخلاق" حيث يقول: (اللهم صلِّ على محمد وآله، ولا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثتَ لي ذلةً باطنةً عند نفسي بقدرها).

    نكران الذات، والبعد عن تركيز النظر على النفس، في مقابل توجيه النظر إلى الآخر، وتقديم كل شيء في سبيل هذا الآخر، دون إعطاء الذات أيَّ أفضليةٍ أو ميزةٍ أو حتى أدنى فضلٍ –باعتبارها صاحبة العطاء- في المقام؛ لذا، كان دائماً يبتعد عن نسبة أيِّ مشروعٍ -يُقيمه أو يساهم في إقامته- إليه، و حتى بمجرد التسمية، فدائماً ما كان يطلق عليها أسماءً لأهل بيت العصمة عليهم السلام، ولو أطلق اسمه على واحدٍ منها لما كان مُلاماً أبداً، بل هو أهلٌ لذلك؛ ولكنه الإصرار على نكران الذات، فكلَّما تألق وسطع نجمه، كان يزداد تواضعاً وترابيّةً وسماحةً و...

    هذا درسٌ عظيم لكلِّ من ينشد العظمة الحقيقية في حياته، بأن يتواضع في نفسه للآخرين كلما سما بين الناس، لأن ذلك سيزيده رفعةً واحتراماً عند الناس، وفي المقابل، ذلك الذي يغترُّ بنفسه، ويرى بأنه صاحب فضلٍ على الآخرين، أو يرى بأن كل عمل يؤديه كبيراً، فإنه لن يطول به المقام حتى يسقط من أعين الناس؛ لأنه كان يرى في كل عمل أتاه نفسَه، هذه النفس التي ستبدأ بالتضخم والتورم، بحيث تأخذ حجماً أكبر من واقعها الحقيقي، وبالتالي سيكون المصير الحتمي لها هو السقوط والتلاشي... لأنها لم تأخذ بأسباب العظمة والسمو الحقيقي.

    هكذا كان الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) درساً في كلِّ تفاصيل حياته، كما كان حجَّةً -علينا جميعاً- في العطاء والبذل والتضحية.

    فإذا كان هو كذلك..

    ألا ينبغي لنا –نحن- أن نستفيد منه، ونأخذ العبْرة من حياته الشريفة، فلا نكتفي بمجرد التغنِّي بفضائله ومآثره، كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في الماضين: (لأن يكونوا عبراً أحقُّ من أن يكونوا مفتخراً)...