الأمام الشيرازي أدرك ما لم يدركه غيره فحقق ما لم يحققه غيره

محمد محسن العيد - مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

 وجدنا من واقع سيرة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده)، انه رضوان الله عليه  كان لا يهتم كثيرا لمطعمه ومشربه ،بل وكان يوصي المحيطين به ان لا يسرفوا كثيرا في إعداد الطعام.....و ان أهله ومن عرفه عن قرب كانوا يرون انه كان يتعمد الجوع ويتعمد عدم التلذذ  بأنواع الأطعمة والأ شربة مع وفرتها على الموائد في كثير من المناسبات ...ترى لماذا كان يتعمد الجوع  ؟‍‍

 وكذلك مما تحكي لنا سيرته أيضا؛انه كان متواضعا في ملبسه وكان يرفض مطلقا كل ما يدل على الأبهة في كل شيء بما فيه الفراش ولأثاث في بيته وديوانه حيث يستقبل الناس على مستوياتهم المختلفة ؛ والمفروض ان يكون على الأقل في ديوانه  ما يليق با مثاله من المراجع ..لكنه  كان رضوان الله عليه يريد ان يكون  قريبا من المساكين مظهرا وجوهرا..ترى لماذا؟؟

  وكانت له صاية (ملابس علماء الدين الشيعة) واحدة يلبسها دوما لا يستبدلها مع ان  الجميع  يشاهد أنها تبدو مهلهلة  خصوصا من اكمها .. كان همه الأكبر المساكين وذوي الحاجات؛ يواسي المحرومين حتى في أصعب الظروف واحلكها، وكان يؤرقه أي الم يصيب الناس، ويتسهد للمحن التي تصيب الأمة، فلا يغمض له جفن حتى يفعل للمبتلين بالمحنة ما يخفف عليهم المحنة.

  وكأن هذا كله كان نابعا من إدراكه (قده) لحقيقة العلاقة الربانية بين نور الحكمة الذي تعمر به النفوس إذا جاعت لله وفيه..وكأن هذا أيضا كان إدراكا لمعاني القرب من الله تعالى الذي يساوي مقدار القرب من عيال الله ( المساكين ) من لدن الإمام الراحل (قده)، والتي جسدها من قبل جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته المقدسة،وأشار إليها في أحاديثه الشريفة، ووجه بها خاصته وأهل بيته (ع).

    ان قاعدة البناء للشخصية الفذة للإمام الراحل (قده) جاءت من حرصه الشديد على التماس التأسي بجده المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم بكل شيء ،فأدرك بذلك من جده (ص)؛ حقيقة معنى قوله (ص):

  " نور الحكمة الجوع ، والتباعد من الله الشبع، والقرب الى الله حب المساكين والدنو منهم، ولا تشبعوا  فيطفيء  نور المعرفة من قلوبكم " [1].

   في هذا الحديث نكون قد اجبنا على ما تقدم  من تساؤلاتنا عن معاني الجوع والدنو من المساكين ومواساة المحرومين عند الأمام الشيرازي (قده) ..فقد حقق الأمام ما لم يحققه غيره في مجال المعرفة ونور الحكمة حينما أتم تأليف حوالي ألف وخمسمائة كتاب من  قبله   (قده)   لو وزعت ساعات تأليفها على ساعات عمره الشريف لشعرت بأنه إنسان فذ ، وهذا في واقع الناس نادر جدا، بل هو عمل أسطوري في تاريخ الإنسانية ، حققه الأمام (قده)  لحسن تأسيه بجده الأكرم وأهل بيته الميامين صلوات الله علبهم أجمعين . فلم يحدثنا التاريخ عن احد له مثل هذا الإنتاج العلمي الغزير وبمثل هذا الكم الهائل . وهذا ما لفت نظر احد الكتاب والعلماء المعروفين في إيران [2] فجاء الى مجلس الأمام (قده) ، وكان ممن لا يجالس الأمام –  وكما قال هو – ليسأل الأمام مجرد سؤال واحد قال  ( موجها كلامه للإمام) : كيف حظيت بكل هذا التوفيق من الله تعالى كي تحقق كل هذا الإنتاج الغزير من المؤلفات ؟ وكان الرجل     يتساءل انه هو وفريق عمله لم يستطع وخلال عمر ان ينجز إنجازا واحدا مما حظي به الأمام (قده) ؟ ولسبب ما ، ما كان هذا الرجل ليحاول ولو  لمرة واحدة ان يزور الإمام الراحل(قده) من قبل هذه الزيارة وكان يصرح بان هذا  السؤال هو السبب الوحيد لزيارته هذه .

 حاول الأمام (قده) بدءً ان لا يقول السبب الحقيقي – لا ادري لماذا ؟ - لكن قد يكون خوف الإمام من الرياء ...أو لعل  القول بالسبب الحقيقي لا يبلغ الإدراك فلا جدوى منه ...او لعله (قده) كان يرى ان التوفيق بأسبابه الطبيعية له مقدمات ، والمقدمات طبع  فطرة  لا ينفع معه قول لمن تطبع... والله اعلم.

 أجابه الأمام (قده)  اولا؛ انه نتيجة جهد ومثابرة وحرص على الوقت ، لكن الرجل لم يقتنع بما أبداه الإمام وجادل وألح في طلب السبب الحقيقي لهذا التوفيق..

عندها أجابه الإمام ؛ بان السبب الحقيقي وراء كل توفيق يبلغه الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، هو مخالفة الهوى ومعارضة النفس فيما تشتهي.. وهنا نعود لقول المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم :

       " نور الحكمة الجوع    . . . . لا تشبعوا فيطفى نور الحكمة من قلوبكم "

   ولآن في ذكرى رحيل الأمام محمد الحسيني الشيرازي ( رضوان الله عليه ) الأولى يتطلب  منا الوفاء  لذكراه فيما أدرك وفيما حقق  ..  فانه  وفاء لدين الله ولسيرة نبيه وآله الأخيار الأطهار  (صلوات الله عليهم ) ووفاء للتابعين لهم بإحسان . فان لم يكن الوفاء بمعاني مواساة المحرومين ومجانبة التخمة   فلابد من الاعتبار بما حققه هذا العالم الجليل بما أدرك .

     " دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، رجل اسمه مجا شع ، فقال : يا رسول الله! كيف الطريق الى معرفة الحق؟

   فقال (ص) :معرفة النفس.

   فقال يا رسول الله! فكيف الطريق الى موافقة الحق ؟

  قال (ص): مخالفة النفس

  فقال يا رسول الله ! : فكيف الطريق الى رضا الحق ؟

  قال  (ص) : سخط النفس .

  فقال يا رسول الله ! : فكيف الطريق الى وصل الحق ؟

  قال ( ص): هجر النفس .

   فقال يا رسول الله ! :فكيف الطريق الى طاعة الحق ؟

   قال (ص) :عصيان النفس .

   فقال يا رسول الله ! : فكيف الطريق الى ذكر الحق ؟

   قال (ص)  : نسيان النفس .

   فقال يا رسول الله ! : فكيف الطريق الى قرب الحق ؟

   قال ( ص) : التباعد عن النفس .

   فقال يا رسول الله ! : فكيف الطريق الى  انس الحق ؟

   قال ( ص ) : الوحشة من النفس .

   فقال يا رسول ! :  الله فكيف الطريق الى ذلك ؟

   قال  (ص ) :الأ ستعانة بالحق على النفس . "[3]

  ومعنى هذا  ان الأستعانة بالحق على النفس تحققها المعرفة  ،بشرط ان تكون غايتها الحق ، ولقد أدركنا  مما أدركه صاحب الذكرى (قده) ؛ ان نور المعرفة الجوع  ، وان الشبع يطفيْ نور الحكمة من القلوب  ..نسأل الله ألعلي القدير ان نعي من كل ذكرى  صالحة كهذه ذكرا   ..., وتكون لنا فيما حققه صاحب الذكرى عبرا .

 

محمد محسن العيد            

مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية  

 [email protected]    

 


[1]   بحار الأنوار  للمجلسي :ج70 :ص71 :ح 20

[2] هو مقدم البرنامج الخاص بمحو الأمية في التلفزيون  لإيراني( قراءتي)

[3] بحار الأنوار  للمجلسي ج(70) :ص (72) : ح (23) .