خالد القشطيني في صحيفة الشرق الاوسط: يعكس الشيرازي الثاني روح العقلانية والتطورية والثورية وانفاس التحدي

نشرت صحيفة الشرق الاوسط مقالا للكاكتب المبدع الاستاذ خالد القشطيني في عددها الصادر اليوم الاحد 8/12/2002 في عموده اليومي بعنوان: (في ذكرى الشيرازي) جاء فيه:

مرت قبل أيام الذكرى الأولى لوفاة آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي في الثاني من شهر شوال. كنت قد اشرت لهذا العالم الجليل في أكثر من مناسبة وكانت وفاته خسارة خاصة بالنسبة لي، فقد كنت اتطلع الى زيارته والتنور بأفكاره في منفاه بقم، بايران. جمعتني به افكاره المتعلقة بفلسفة اللاعنف التي أومن بها.

لقد فوت على نفسي فكرة لقائه متشبثا بنفس ذلك الوهم القديم بأن الانسان يعيش ابدا. والعجلة من الندامة.

بالطبع لم يكن اللاعنف، او ما اسميه بالجهاد المدني، الفكرة الوحيدة التي تمسك بها ودعا اليها الفقيد الراحل، كان رحمه الله شخصية متعددة الجوانب ومتطلعة الى العصرنة والتحديث والاصلاح الديني. ومما يثلج القلب في عالمنا العربي ويدفئ الصدر في غربتنا بأوروبا، ان يبادر الشيخ محمد سعيد المخزومي، الى استباق هذه المناسبة باصدار كتابه «المجدد الشيرازي الثاني ـ تحول في التاريخ الاسلامي» بنحو 700 صفحة تعالج افكار وحياة هذا العالم العراقي منذ ولادته في النجف الاشرف الى التجائه الى ايران ثم استبعاده من طهران الى قم.

تحول في التاريخ الاسلامي؟ يا ليت! فالاضطهاد الذي لقيه الشيرازي رحمه الله والاهمال الذي لقيته افكاره، عكسا لنا الجمود الفكري الذي يعيشه عالم الاسلام الآن والصحوة التي تحولت الى كبوة. وعلى خلاف ذلك، يعكس الشيرازي الثاني روح العقلانية والتطورية والثورية وانفاس التحدي الذي انطبعت به علوم الاسلام في العراق منذ مقتل سيد الشهداء الحسين بن علي رضي الله عنه، ومرورا بالمعتزلة ووصولا الى ثورة العشرين ضد الانتداب البريطاني.

الحرية هي الركيزة الاساسية للفلسفة الشيرازية التي فصلها في كتابه «الحرية الاسلامية» وتناولها ثانية في كتابه «الفقه ـ كتاب السياسة» فيقول: «الاصل في الانسان الحرية في قبال الانسان الآخر، بجميع اقسام الحرية، اذ لا وجه لتسلط انسان على آخر». يستشهد في ذلك بقول الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه: «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا». العبودية بعد اليوم لا تكون لغير الله وحده وان الله العلي العظيم الذي جعل الانسان خليفته على هذه الارض وكرَّمه على بقية خلقه لا يرضى ان يكون ذلك الخليفة المكرم عبدا لأحد سواه.

هذا كلام يذكرنا بما كتبه سائر المجددين ورواد النهضة الحديثة في أوروبا، ولكن التجديد هو بالضبط ما سعى اليه هذا العالم الفقيه سواء في ميادين الايمان والعبادة أو الاقتصاد والحكم والسياسة. وكلها ميادين خاض فيها وطرح افكاره المتجددة بشأنها. انه من علماء الاسلام القلائل الذين شعروا بسنة التطور والتغير الحضاري وما يمليه ذلك من التجديد والاصلاح. بالنسبة له، كما يقول مؤرخ سيرته الشيخ المخزومي، كان يرى ان الدين هو دين الحياة وحاجة المسلم الى الفقه والتفقه ليست حكرا على العبادات، وانما تحتضن المعاملات والايقاعات وان الله تبارك وتعالى انما بنى الحياة والعبادات على اساس تحقيق السعادة للبشر. ومن هذا المنطلق خاض الشيرازي في المشاكل الاجتماعية والسياسية وبلور حلوله لها في اطار الشريعة والفقه الاسلامي. وخرج من كل ذلك بهيكل متطور من التنظيم الاجتماعي تناغم مع الحياة المعاصرة.

بالطبع لم تكن كل افكار الشيخ الشيرازي جديرة بالتطبيق أو ممكنة من الناحية الواقعية، ولكن الجميل فيها الولوج في تناول المرحلة المعاصرة من تاريخ الانسان ومحاولة فهمها ومعالجتها بفكر متجدد عقلاني ومتفتح نحو وقائع الحياة التي نحياها عمليا وواقعيا، وكلها في اطار الحرية التي اصبحت البساط الذي تمشي عليه سائر فعالياتنا وبعيدا كل البعد عن اساليب الارهاب والعنف والاكراه.