الحضارة الإنسانية بين اتون الحروب ومستلزمات السلام

   سمير الكرخي - مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

حذر الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي " قدس سره" العالم قبل أربعين عاماً، من خطورة تصنيع الأسلحة الحديثة ودعا العقلاء في العالم إلى بذل ما بوسعهم من اجل العمل الجدي على إفناء أنواع الأسلحة خصوصاً بعد أن سرت النزعة العسكرية والميولات الاستبدادية التي اعتمدها الحكم المطلق في شموليته المعنونة بالعولمة، وفرض النظام العالمي الجديد الذي آثار أجواء التحديات السياسية، وهيمن على عقلية ساسة وقياديي العالم، فاندفع البعض منهم باللجوء إلى عسكرة العمل السياسي من خلال تكديس الأسلحة المحرمة دولياً كأسلحة الدمار الشامل.

والأخطر من كل ذلك عندما تمتلك قيادات غير حكيمة مثل هذه الأسلحة ضماناً لبقائها وللحيلولة دون إسقاطها من معادلة الصراع القائم على أساس المصالح، والبعيد عن القيم والمبادئ الرادعة عن أعمال العنف بما فيها استخدام الأسلحة الأكثر فتكاً بالإنسانية وحضارتها، غير مكترثة إلى حجم الضحايا الذي يلحق بالشعوب المغلوبة على أمرها من جراء استخدامها وما تلحقه من أنواع ألازمات الاقتصادية المسببة للاضطرابات والتمردات في أنحاء العلم. وهذا ما يؤكده الإمام الشيرازي بقوله: ومن طبيعة الدكتاتور دائماً أنه يلتجأ الى الحرب لاستعلاء في نفسه المنضوية على إرهابية المعالجة لأنواع المعاضل والأزمات. فيسخّر القوى البشرية في عمله الانهدامي ويستعبد الناس اقتصادياً وبالنتيجة يهبط مستوى الملايين من الناس وتسلب حريتهم ورخاؤهم المادي([1]).

وفي خضم الأحداث المتسارعة التي افرزها الحادي عشر من سبتمبر، نشأ الاهتمام المتزايد والمزعوم  لنزع أسلحة الدمار الشامل ومحاولات القرار على إزالة الأنظمة التي لا تتوانى في السعي للحصول على مثل هذه الأسلحة ، وإن كانت هذه الفكرة لا تخلو عن سياسة ازدواجية المعايير الا انها تحقق المصالح القومية بادعاء تحقيق العدالة العالمية في ظل السلام العالمي.

إلا إن دعوة الأمام الشيرازي التي تحث العقلاء للعمل ما بوسعهم على إفناء الأسلحة النارية والحد من تصنيع وتطوير الأسلحة الحديثة وأسلحة الدمار الشامل على وجه الخصوص، وتأكيده على إرجاع الوسائل الحرية إلى وسائل بدائية تستند إلى قوله: أنها توجب العدالة في الحروب، لأنه ليس من المعقول البحث عن تحقيق الموازنة في إطار التسلح وصناعة الأسلحة غير التقليدية، أو الحد من انتشارها على اقل تقدير، بين كفتين متفاوتتين بدرجة عالية من حيث التقدم والكفاءة العلمية والخبرات الفنية.

فدعوته وان كانت تبدو ضرباً من المستحيل في رؤية عالم يتسابق من اجل تحقيق فعلية التفاوت لغرض فرض هيمنته، إلا أنها دعوة صادقة تنطلق من الواقع الإنساني المحب للسلام والهادف إلى إحقاق الحق البشري في المعايشة السلمية بين أبناء الجنس البشري ، وفيها البون الشاسع بينها وبين الدعوات بل الممارسات العملية الساعية الى تدمير الحضارة الإنسانية.

إن العدالة في الإسلام تنبع من رؤيته إلى العدل في كل حركة وسكون، وأتلاف وافتراق وقصد وعمل ([2]).    

ولاشك إن الحضارة الإنسانية وتطورها إنما يتموضع في الإنسان على عكس التفكير في المنطق الغربي الذي يؤمن بمحورية المادة وتأثيرها على الغايات والسلوكيات، وعلى إتباع شتى الوسائل وان كانت تجاوزاً أو اعتداء. فانهيار البنى العقائدية، يؤدي لا محالة إلى انهيار الأسلوب الاجتماعي كما يحدد ذلك الإمام الشيرازي([3] ).

كما انه يؤدي إلى بروز أنماط اجتماعية تصوغ الذهنية البشرية وفق متبنيات جديدة وان كانت غريبة عن القوانين الطبيعية للبشرية والقيم الأخلاقية، وبذلك تسود القوانين الدكتاتورية المنافية للحريات الإنسانية ولأحقية الإنسان في اختيار نمط المعايشة السلمية، والعمل والتفكر في ظل العدالة والسلام العالمين.

فالدين الإسلامي يرى على حد قول الإمام الشيرازي: إن الحضارة ليست من الخيالات التي يثبت ادعاؤها بمجرد التشدق بها، ولا شعراً يكفي نظمها في أحسن القوافي بل هي حقيقة واقعية، يعكسها الواقع الخارجي لمن يدعيها، وتحققها الآثار العملية لمن ينتسب إليها([4]).

فدعوة الإسلام إلى السلام العالمي ما يؤكدها القرآن الكريم بقوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان)( البقرة/ 208) وهي دعوة تنبذ كل أساليب العنف والحرب والدمار وهدر حقوق الإنسان، نزيهة في تصوير المضامين والقيم العليا التي يتبناها. وقد اهتم الإمام الشيرازي على هذا الأساس اهتماماً متزايداً بنزاهة الإسلام وسمعته وأكد على حرمة الحروب غير التقليدية وامتلاك وصناعة وتطوير أسلحة الدمار الشامل  لأنها كما يقول: خلاف نزاهة سمعة الدولة الإسلامية. ولان الحروب غير التقليدية حروب تجارية سياسية، يبتغى منها السيطرة وهذا مالا يحوز في الإسلام اطلاقاً ([5]).

فالمنطق الذي يجيز قتل الملايين ويسطّر في التاريخ الإنساني أبشع صفحات المآسي بكل إبعادها الحضارية منطق يصفه الإمام الشيرازي بأنه: منطق لا يقبله عقل ولا شرع، بل هو منطق الانحراف فحسب([6]).

منطق مرفوض في الإسلام جملة وتفصيلاً، فليست الحروب هي التي تفتح آفاق التقدم والازدهار وتمنح الحريات وتعم على الأرض السلام. إن الإسلام العظيم يرى أن عوامل التقدم والتطور والرقي تكون من خلال:

1. تأكيد الإسلام على ثقافته المشتركة التي استطاع بها أن يوحد الأقوام المختلفة تحت مظلة واحدة، حيث أمن اليهودي وغيره كما أمن المسلم في ظلها على حد سواء، ومن غير لجوء إلى حرب أو تقتيل، لا كما يحدث الآن بين المسلمين واليهود في الصراع الدموي والعنيف بينهما، فإننا لا نجد ما يشير إلى إمكانية ضمهم تحت مظلة واحدة، كما نجح الإسلام بذلك من خلال ما يؤكده التاريخ.

2. تلاقح الأفكار وعدم نفي الآخر، وفتح باب الحوار، واخذ الحسن من الأفكار دون تزمت بالأفكار المسبقة، وتقويض الآخر عن حقه في ممارسة الحياة. فالحرية والعدالة والمساواة ينبغي أن تكفل للجميع من غير تمييز في اللون أو الجنس أو الدين.

3. تهيئة الأجواء العلمية المناسبة أمام العلم والعلماء، وفتح آفاق النمو والازدهار للمجتمعات في ظل المتع الوجدانية والعقلية.

4. الحفاظ على الثروات العظيمة التي وهبها الله تعالى للأمم، وعدم هدرها نزولاً عند رغبات وملذات طائشة، وأحلام فرعونية زائلة.

5. منح الحريات، لان باختفائها تختفي العقول معها. إذ لاشيء اخطر على العقول من الجهل الذي يستحوذ عليها في طريقة التفكير والتفاعل مع كل مفردات الكون وفي طريقة اتخاذ القرار المناسب.

كما إن دعوة الإمام الشيرازي تحث العقلاء والمصلحين على العمل على توعية الناس، ووضع الطامعين في قفص الاتهام، لان الشعوب إذا وعت ان الباعث الحقيقي على الحروب هو أطماع قلة من المستبدين الطغاة لأجل تحسين أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلن تستطيع هذه القلة إغراءها باسم مصالح الشعوب. وكذلك تحث دعوته على العمل لاجل قلع جذور الحرب والتخلي عنها كأسلوب ناجع في معالجة القضايا، ثم يضع أمام العالم رؤية مستقبلية تتمخض عنها استراتيجية عملية لتوقي الحروب اولاً، ولتعميم السلام العالمي ثانياً، وهذان الأمران لا يحتاجان ألا بالاستشارية الكاملة للدولة، بأن تكون مقادير الناس في أيديهم، وألا فان كانت المقادير بيد المستبدين، لم تكن الرؤية ولا الإعداد متكاملين([7]).

ففرض النظام العالمي القائم على المصلحية وتحقيق الأغراض القومية لا يمكنه بأي حال من تحقيق التقدم والتطور والرقي لانه سيصطدم لا محالة بمصالح غيره التي تنغص متعته وتكدر صفوة أحلامه.

 

                                                                        سمير الكرخي             

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية    

مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات


[1] ممارسة التغير / الإمام محمد الحسيني الشيرازي،مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت ـ لبنان ط1/1990 ص303.

[2] العدالة الإسلامية / الإمام محمد الحسيني الشيرازي / من موقعه على الانترنيت.

[3] الصياغة الجديدة / الإمام محمد الحسيني الشيرازي،مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت ـلبنان ط3/1992 ص89.

[4] ممارسة التغير /مصدر سابق.

[5] المسائل المتجددة / الإمام محمد الشيرازي، مؤسسة الإمام، بيروت- لبنان، ط2/2000، ص151و272.

[6] الصياغة الجديدة / مصدر سابق ص360

[7] موسوعة الفقه/ الاجتماع/ الإمام محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، بيروت ـ لبنان ط6/1987 ج 110ص12، 21