ما ان اعلنت مفوضية الانتخابات النتائج الاولية لانتخابات مجالس
المحافظات العراقية الاربعة عشرة حتى استبشر الليبراليون والعلمانيون
وهللت القنوات الاعلامية بكل الوانها واشكالها مبشّرين بعهد جديد حققت
فيه "العلمانية" نصرا جديدا في عراق مابعد التاسع من نيسان. أحيانا
ينساق البعض منا وراء الهالات الاعلامية لهذا الطرف او ذاك او اللهاث
وراء الضوء الساطع لتلك الجهة او البالون الاعلامي لذاك التكتل ولكن ما
ان نناقش الامر بروية وننظر الى الحدث بهدوء وحيادية حتى تتجلى حقيقة
الامر.
بطبيعة الحال اذا مانظرنا الى الانتخابات العراقية وقرأناها قراءة
واقعية سنجد انها قد نجحت في استقطاب الناخب نحو التغيير ولكن ليس
التغيير الذي ينظر اليه البعض من الاسلام الى العلمانية لاسباب ميدانية
موضوعية عديدة تعتمد بالدرجة الاساس على الرقعة الجغرافية التي حدث
فيها التغيير فضلا عن جنس القوائم الفائزة على الاقل في المراتب
الثلاثة الاولى.
بعبارة اخرى يمكن القول ان الناخب العراقي بشكل عام كان يبحث عن
التغيير اولا وجنس القائمة ثانيا.
المحافظات التي تقطنها غالبية عربية سنّية لم تنتخب القوائم
العلمانية بسبب التحول من الاسلام الى العلمانية كما أُشيع ولكن تلك
القوائم قد طرحت نفسها باتجاهين كانا سببا مباشرا لحصد النتائج الطيبة
وهما اعتماد تلك القوائم على العشائرية اولا والقومية ثانيا وهذا
مايؤكده فوز قائمة الحدباء في الموصل وقائمة المشروع الوطني في الانبار،
وهو مالم نشاهده في محافظات الوسط والجنوب الشيعيين.
في الوسط والجنوب كان الامر مختلف تماما وخير مثال على ذلك هو فوز
قائمة رئيس الوزراء "أئتلاف دولة القانون" بالمرتبة الاولى في تسع
محافظات من مجموع عشرة! نعلم جميعا ان تلك القائمة بالرغم من انها لم
تطرح اي شعار اسلامي لكن هويتها الاسلامية ومرجعيتها الحزبية والمذهبية
كانت بارزة ولاتحتاج الى دليل او حديث.
كذلك لم تطرح تلك القائمة ولا القوائم التي تلتها في الترتيب اي
شعار علماني او ليبرالي او قومي ليكون سببا في تحوّل الناخب من
الاسلاميين الى العلمانيين! ببساطة ماحدث في الوسط والجنوب الشيعيين هو
تغيير في الترتيب وليس في الاديولوجيا! هذا فضلا عن احتلال الاسلاميين
المراكز المتقدمة في المحافظات الشيعية التسعة اضافة الى بغداد التي
احتلت المراكز الثلاث الاولى فيها نفس القوائم الشيعية الاسلامية تلتها
قائمة التوافق ذات الاغلبية الاسلامية السنية بالمرتبة الرابعة.
أيضا تقدم قائمة التوافق السنّية التي يشكّل الحزب الاسلامي فيها
حجر الزاوية وصاحب الحظ الاوفر في كل من ديالى وصلاح الدين، كل ذلك من
شأنه ان يبرز الصورة واضحة المعالم ليؤكّد ان الاحزاب الاسلامية لازالت
في الصدارة وان المكاسب الانتخابية التي بدت وكانها انتصار للعلمانيين
لم تكن موفقة لولا تبنيها للوجوه العشائرية والشعارات القومية في
المناطق ذات الاغلبية السنّية تحديدا!
اذا مااستثنينا قائمة "شهيد المحراب" التي اتخذت من الشعائر
الحسينية حجر الزاوية لحملتها الانتخابية فأن قائمة التيار الصدري
"الاحرار" قد ركّزت على "مقاومة الاحتلال والخدمات" فيما ركّزت قائمة
نوري المالكي حملتها الانتخابية على بسط القانون من خلال الدعوة الى
"مركزية الدولة" اضافة الى محاربة الفساد وتقديم الخدمات. هذه الشعارات
نتفق جميعا انها لاتختص بالعلمانيين دون غيرهم وان كانت شعارات مدنية
فان الاسلام باعتباره دين متجدد يتطوّر مع الانسان ويحاكي احتياجاته
فهو دين التمدّن اذا ماوجد الارضية المناسبة لترجمة نصوصه وفقا للشريعة
الصحيحة لا وفق الاهواء والاجتهادات ولوي عنق الفتوى لخدمة المكاسب
الفئوية او الايدلوجيات المنحرفة.
من ذلك نخلص الى ان الناخب العراقي سواء أكان في الوسط والجنوب او
في الشمال والغرب كلهم تقريبا لم يشكّل لهم تغيير الاسلاميين والانتقال
نحو العلمانيين اي هاجس اذا لم نقل ان القوائم العلمانية لم تكن اصلا
في حساب الحقل والبيدر لاسباب عديدة اهمها غياب البرنامج الانتخابي
الواضح فضلا عن التشتت والانقسام والفئوية!
اما السبب الأهم فهو غياب الرمز الثقة وهو مادأبت عليه القوائم
الاسلامية في حملاتها الانتخابية وهو ركن مهم جدا في استقطاب الناخب
العراقي وذلك يرجع لاسباب عديدة أهمها التنشئة البيئوية ومحاكاة الوضع
العراقي العام.
من وجهة نظرنا ومن خلال القراءة الصحيحة لمجريات النتائج نستطيع
القول ان العلمانيين في هذه الانتخابات قد تراجعت نسبتهم بشكل ملفت
للنظر فقوائم علمانية ليبرالية واضحة مثل قائمة الحزب الشيوعي "مدنيون"
وقائمة مثال الالوسي اللتان لم تحصلا على اي نسب تقريبا تؤهلهما لشغل
اي مقعد مؤكدا يعطينا القراءة الواضحة لتراجع العلمانيين او على الاقل
لنقل انه لازال المجتمع العراقي غير مؤهل ليعطي صوته لتلك القوائم
الفاقعة اللون. فقائمة مثال الالوسي التي اتخذت من مهاجمة الاسلاميين
ومن قبلهم ايران كان من المتوقّع وفق نظرة البعض ان تحصد نتائج متقدمة
لو صح القول في نظرية التحوّل من الاسلاميين نحو العلمانيين! أيضا كان
هناك تراجع واضح لقائمة الدكتور اياد علاوي في مناطق الوسط والجنوب
الشيعيين وهو مايؤكد ماذهبنا اليه ان سبب نجاحها في المناطق السنّية
كان نتيجة تبنيها وجوه عشائرية وشعارات قومية وهي الارضية التي
لاتتناسب مع الوسط والجنوب.
من ذلك نخلص الى ان القول بنظرية التحوّل ليس صحيحا واذا مااريد
لهذا التحوّل ان يتلمّس طريقا فلابد له من مرجعية واضحة وشعار واضح
وبرنامج واضح ومن قبل ذلك كله حيازة ثقة الناخب الذي لم يجد لحد الان
الطرف الليبرالي الذي يطمئن اليه ويعطيه صوته.
نعم لازال العراقيون يعانون من ويلات الماضي فضلا عن اخفاق قادة
الاحزاب العلمانية والليبرالية في استمالة الناخب العراقي نحوهم لاسباب
عديدة اهمها لغة الخطاب المتزن الذي يحاكي الامة ومتطلبات المرحلة وهو
مايفتقر اليه أغلب السياسيين العراقيين الذين ينظرون الى العلمانية
والليبرالية على انها مهاجمة ايران والاسلاميين بالدرجة الاساس وهو
لعمري قمة الانتحار!
* كاتب وناشط سياسي عراقي مستقل
www.zaqorah.com |