مرت انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في الحادي والثلاثين من
الشهر المنصرم بسلام لتعطي مؤشرا لا يقبل النقاش، سواء من حيث نسبة
المشاركة التي تجاوزت نصف اعداد المسجلين بقليل او من حيث الاجواء
العامة التي سادت يوم الاقتراع او من حيث دوافع الناخب المختلفة تماما
عن الانتخابات السابقة او من حيث النتائج والاستقراءات الاولية، على ان
الديمقراطية في العراق تسير نحو بر الامان. وما يؤكد هذا الاستنتاج ما
يلي:
· سقوط متغير وخطر العمليات الارهابية من حسابات المعادلة
الانتخابية، في مقابل نجاح العامل الامني وشجاعة وحيادية قواه
والتزامها في تأدية واجبها.
· شفافية العملية الانتخابية يبعث الامل نحو المستقبل بالعمل على
تجاوز الاخطاء الفنية التي وقعت بها المفوضية العليا للانتخابات.
· نسبية الخروقات والتجاوزات ومحدودية تأثيرها على نتائج الانتخابات.
· تقاسم النتائج بين مختلف الكتل دون هيمنة او استحواذ كتلة على
اصوات الاغلبية، مما يهيأ الاجواء السياسية نحو التحالفات والائتلافات
بين الفائزين داخل مجالس المحافظات وفتح ابواب الحوار البناء فيما
بينهم، وبالتالي مشاركة الجميع في صنع واتخاذ القرار.
· ظهور الشخصيات والقوائم المستقلة من قبيل يوسف الحبوبي واسكندر
وتوت وقائمة الحدباء واكتساحها النتائج في بعض المحافظات، يؤكد ان
معيار النجاح الحقيقي هو التفاني في العمل والسمعة الطيبة، ما يسقط من
الحسابات الرؤية غير الموضوعية التي كانت سائدة حول وجود القوى الفاعلة
او المؤثرة وامكانية عملها في ادارة الشأن السياسي منفردة.
· غياب التصويت على خلفية الدعوات الطائفية او القومية ما يؤكد وعي
الناخب وجرأته في اتخاذ القرار الصائب رغم كثرة وعمق المؤثرات.
هذه النظرة المتفائلة والمفعمة بالامل ينبغي لها ان لا تزول مع
الوقت ومع انتشار رؤى التمسك بالمنصب والامتيازات والترفع عن خدمة
الاخرين والابواب الموصدة بوجه المظالم والحاجات والشكاوي، بل يجب ان
تترسخ ضمن اطار ومباديء العمل التطوعي الذي لا يسعى لاهثا وراء المكاسب
المادية والمعنوية التي يتيحها تبوأ المنصب الرسمي.
عليه، يجب الانتباه الى حقيقة سلبية افرزتها فترة ما قبل الانتخابات
وتفحصها عن كثب ومحاولة دراستها وعلاجها، الا وهي كثرة المرشحين
العددية والتي بلغت 14431 يتنافسون على 440 مقعدا فقط !!! في 14 محافظة،
هذه الظاهرة الصحية ديمقراطيا تخفي وراءها لدى الاعم الاشمل من
المرشحين رغبة جامحة في الفوز ليس بهدف تأدية واجب الخدمة العامة بل
الاستئثار بالمنصب والمزايا المادية التي يقدمها. وفي هذا تحايل على
الناخب وتشتيت لرؤيته وصوته وارادته وتضييع لمركزية قراره ومحاولة
للتظليل والاختباء خلف الشعارات والوعود غير الحقيقية.
ان الدرس الذي افرزته نتائج الانتخابات الاولية التي اعلنتها
المفوضية اثبت ان الحاجة تكمن اليوم في نشر مباديء ومفهوم الخدمة
العامة الخالصة بعيدا عن المصلحة الشخصية او الحزبية او المذهبية او
القومية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف السبيل الى ذلك ؟
لفت انتباهي اثناء متابعة سير العملية الانتخابية الماضية حدثا
صغيرا في مداه كبيرا في مغزاه، ذلك ما اورده مراسل لوس انجلوس تايمز في
بغداد من ان متطوعين في احد المراكز التابعة لمدينة الصدر زينوا جدران
المركز الانتخابي بأشرطة وخيوط لماعة وزهور وبالونات ملونة تبعث البهجة
في النفس لتشجيع الناخبين واستقطابهم للادلاء بصوتهم. والحقيقة ان
مفهوم العمل التطوعي هو ما نحتاج اليه بالفعل حيث لم يعد بمقدور اي
مجتمع ان ينهض بنفسه ويحقق الرفاه لابنائه من دون ان يتخذ لنفسه مسار
التنمية الشاملة والدائمة التي تتخذ من التطوع ركيزة اساسية وهدفا،
ينظر الى المجتمع ككل ويوظف كل قدراته المادية والمعنوية لتأسيس بيئة
تعين فئاته المختلفة على المشاركة التي لا تبغي او تنتظر المردود، وهذي
احدى القدرات التي يجب النظر اليها والاهتمام بها وتوظيفها في تنمية
محافظاتنا وتقديم الخدمات الافضل لابنائها.
ان نظرة قريبة وفاحصة للمجتمعات في الدول المتقدمة تكشف لنا عن
الدور الذي يقوم به العمل التطوعي المدني في تنميتها وتحقيق كل
الانجازات التي لامست حاجاتها الاقتصادية والاجتماعية. وعليه وسيرا ضمن
ذات المنوال ينبغي ازالة الافكار العالقة والمترسبة في اذهان الاكثرية
بالعراق حول المنصب وثقله المادي والمعنوي، من خلال السير وفقا
للاجراءات التالية:
1. الغاء كافة الامتيازات والمرتبات العالية التي تفوق المعقول،
التي يتمتع بها مسؤولو الدولة وكبار موظفيها، بدءا من رئيس واعضاء مجلس
النواب، وبأثر رجعي، وصولا الى الوزراء ورئيس واعضاء مجالس المحافظات
والاقضية والنواحي والمدراء العامين وكافة المناصب الخاصة.
2. اصدار تشريع للخدمة العامة يضمن عودة الموظف المسؤول الى وضعه
الطبيعي قبل تبوأه المنصب بدون حقوق تقاعدية، لاننا على هذا المنوال
سنجد بعد مرور عشرين عاما مثلا جيشا من المتقاعدين يتمتعون بأمتيازات
تفوق الوصف رغم ان بعضهم لم تتجاوز مدة خدمته الستة اشهر.
ولو استطعنا ان نتوجه نحو هذه الخطوة الجريئة ولو على مراحل، فأن
ذلك سيكون كفيلا بالقضاء على الفساد المالي والاداري ونهب الاموال
العامة. اما تأكيد مقولة ان لا غنى لاي مجتمع عن العمل التطوعي فأنها
تبقى حقيقة وحلما يراود الكثير من الحريصين على الوطن والمواطن، لان
هذا النوع من العمل يستطيع ان يستنهض طاقة كامنة للخدمة والتواصل مع
هموم ومشاكل المواطنين لا حدود لها. اما تعطيل هذه الطاقة او تغييبها
خلف الحجب والكتل الاسمنتية والجدران الكونكريتية فأنه يفقد المجتمع
فرصا عظيمة للاسراع بتنمية نفسه وقدراته. |