شبكة النبأ: إذا ارتبط إسم المرجع
الراحل المجدد الأول الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (طاب ثراه) بفتوى
تحريم استخدام التبغ المصنّع بريطانياً فيما عُرف بثورة التبغ في ايران،
فان إسم المرجع الراحل الشيخ محمد كاظم الخراساني ارتبط بأول تحول
سياسي في تاريخ الشيعة، وهو تأسيس نظام برلماني يحكم البلاد الاسلامية
على اساس رأي الشعب المسلم، وحدث ذلك في أوائل القرن العشرين في ايران.
ولد الشيخ محمد كاظم بن حسين الخراساني، المعروف بالآخوند عام 1255
هـ، الموافق لعام 1853 بمدينة مشهد المقدّسة شمال شرق إيران.
أكمل الآخوند الخراساني دراسة العلوم الدينية في مرحلة المقدّمات
بمدينة مشهد المقدّسة، ثمّ ذهب إلى مدينة سبزوار لدراسة الحكمة
والفلسفة، وفي عام 1278 هـ، سافر إلى مدينة النجف الأشرف لإكمال دراسته؛
ثم إلتحق باستاذه الميرزا الشيخ محمّد تقي الشيرازي إلى مدينة سامراء
المقدّسة، حيث كانت محطّ رحال معظم علماء الدين بعد انتقال مركز
المرجعية العليا للشيعة اليها، بسبب إقامة المرجع الديني الأعلى آنذاك
الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (طاب ثراه)، وبقي الخراساني هناك مدّة
قصيرة يحضر دروس أستاذه اليمرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي ، ثمّ عاد إلى
مدينة النجف الأشرف ثانية.
برع الآخوند الخراساني في علم الأصول، حتى أضحى أحد ابرز عباقرة هذا
العلم في تاريخ الحوزة العلمية، ويشهد على ذلك كتاب (الكفاية) الذي
تعتمده الحوزرات العلمية منهجاً في دراسة أصول الفقه.
درس الآخوند الخراساني على يد كبار مراجع عصره، وفي مقدمتهم الامام
المجدد الأول السيد محمد حسن الشيرازي والشيخ مرتضى الانصاري والشيخ
هادي السبزواري والسيد مهدي القزويني، هذا الى جانب الميرزا الشيخ
محمد تقي الشيرازي.
أستاذ لمراجع الدين الكبار
الى جانب تخصصه في علم الأصول، كان الشيخ ألآخوند الخراساني من خيرة
أساتذة الحوزة العلمية في زمانه، وقد إنشغل في تدريس العلوم الدينية
مدة أربعين عاماً دون كلل، وقد عُرفت عنه الطريقة السهلة في التدريس
وحسن البيان، وحسب المصادر فقد كان له أسلوب خاص بالتدريس ، حيث ينتقل
من مطلب إلى آخر بسرعة ودقَّة لا مثيل لها، ولهذا أصبحت لدروسه شهرة
واسعة بين أوساط الطلبة، حتّى بلغ عدد طلاّبه ألف طالب، من بينهم مئة
مجتهد، ويذكر المرحوم آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (طاب ثراه) في
احدى محاضراته بان الآخوند الخراساني يُعد أبرز عالم دين شهدته الحوزة
العلمية في مجال التدريس، فقد تخرج علي يديه كبار مراجع الدين والفقهاء
والمحققين، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، المرجع الديني الأعلى
السيد حسين البروجردي والمرجع الديني الأعلى الشيخ عبد الكريم الحائري
والمرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم الى جانب المرجع الديني
الكبير السيد حسين القمي والمرجع الكبير الشيخ أغا برزك الطهراني –
صاحب كتاب الذريعة- والسيد محسن الأمين العاملي – صاحب كتاب أعيان
الشيعة- والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد جواد البلاغي والسيد
حسن المدرس والشيخ محمد حسين الغروي المعروف بالكمباني، وغيرهم كثير
ممن لايسع المجال لذكرهم.
ذاع صيت الآخوند الخراساني في أرجاء المعمورة، ودوَّى اسمه في
الآفاق، ونال من المنزلة الرفيعة والمقام العلمي الشامخ ، ممّا اضطر
للإذعان به أكابر علماء المسلمين، وقد تجاوزت شهرته في العلم وبراعته
في التدريس آفاق مدينة النجف الأشرف، بل آفاق العراق، حتّى وصل خبر ذلك
إلى جميع أرجاء الدولة العثمانية.
وتنقل المصادر ان (شيخ الإسلام)، وهو أبرز علماء السنة آنذاك، اراد
رؤية الآخوند الخراساني بنفسه واللقاء به، فتوجه الى العراق بحجّة أنّه
يروم زيارة قبر أبي حنيفة في بغداد دفعاً للإحراج أمام الأوساط
الدينية السنية! ومن ثمّ عرَّج على مدينة النجف الأشرف ليشاهد الحوزة
العلمية التي مضى عليها حوالي الألف عام، فدخل إلى مسجد الطوسي، حيث
كان الآخوند الخراساني يلقي درسه، فلمّا لمحه الآخوند عن بعد وهو يدخل،
غيّر مجرى البحث إلى قول أبي حنيفة حول المطلب الذي كان يشرحه، وشرع
ببيانه بأحسن ما يكون، فاندهش شيخ الإسلام من قدرة الآخوند على مباني
أبي حنيفة وغيره من أئمّة السنّة، ويقال: إن جُلَّ حديثه في سفره عند
رجوعه إلى بلده كان يدور حول شخصية الآخوند الخراساني ومكانته العلمية.
قال عنه تلميذه السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة): تميَّز الشيخ
الخراساني عن جميع المتأخّرين بحب الإيجاز والاختصار وتهذيب الأُصول
والاقتصار على لُباب المسائل وحذف الزوائد مع تجديد في النظر وإمعان في
التحقيق.
تقويم السياسية
يشهد التاريخ على ان علماء الدين الشيعة لم يكونوا يوماً بعيدين عن
السياسة والحكم، فهم الذين يحملون أعباء نيابة الامام الحجة المنتظر (عجل
الله فرجه)، يعدّون إصلاح البلاد وشؤون العباد، من أبرز أولويات مهامهم
الاجتماعية، الى جانب طلب العلم وتطويره، لذا لم يكونوا بمنأى عن مجمل
التطورات التي شهدتها البلاد الاسلامية على مر التاريخ لاسيما الصراع
المرير والدامي بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وبعدها في حقبة
الاستعمار الغربي، حيث وقف مراجع الدين بجدارة مشهودة أمام كل أنواع
الغزو الغربي دون أن يغفلوا عن جانب أو يتركوا ثغرة للإعداء لينالوا من
العالم الاسلامي، ففي الوقت الذي كانوا يشدون على الأيدي لمواجهة
الاعتداءات في ميادين القتال ضد الغزو الاجنبي، كانوا في نفس الوقت على
أهبة الاستعداد وفي يقظة تامة من مغبة توغل الافكار المنحرفة الى
الثقافة الاسلامية الأصيلة.
ونسلط بعض الضوء على دور الآخوند الخراساني في ما يعرف بثورة
الدستور في ايران، والتي تُعد بحق باكورة التحول السياسي في العالم
الاسلامي، وقبل أن نبين دور الآخوند (طاب ثراه) في هذا التحول الرائد،
نرى لزاماً الاشارة الى ان الدور الفاعل والمميز الذي قام به الآخوند
يُعد امتداداً لثوة التبغ التي قادها استاذه الامام المجدد الميرزا
السيد محمد حسن الشيرازي (طاب ثراه) وفيها أجبر الملك القاجاري ناصر
الدين شاه، على إلغاء اتفاقية بيع امتياز زراعة وانتاج التبغ الايراني
الى البريطانيين الذين كادوا أن يستعبدوا الشعب الايراني المسلم، وقد
حاولوا من أجل ذلك رشوة الملك القاجاري ببضع ليرات ذهبية، لكن المحاولة
اصطدمت بصخرة الفتوى الشهيرة التي ألحقت أول هزيمة مرّة يتذوقها
الاستعمار البريطاني في تاريخه.
بدأت إرهاصات التحول السياسي في ايران، تحت وطأة الاستبداد والظلم
والحرمان الذي أوغل فيه الحكام القاجاريين لاسيما في أواخر عهدهم، فقد
بادرت فئة من النخبة المثقفة من الذين كانوا يحسبون على ما يسمى
بالطبقة الوسطى، للمطالبة بتحديد صلاحيات الملك وإعطاء الشعب هامشاً
أكبر ليشارك في صنع القرار، وواضح ان هذه الحركة هي نسخة طبق الأصل
عما شهدته أوربا في القرن الخامس عشر وتحديداً في بريطانيا التي شهدت
أول تأسيس أول مجلس نواب (برلمان) في العالم.
وبعد أن ظهرت هذه المطالبة بقوة على وجه الشارع الايراني والطهراني
على وجه التحديد، تحولت الى استحقاق سياسي واجتماعي لم يبق خياراً أمام
الملك القاجاري الضعيف محمد علي شاه، سوى الاذعان لمطالب النخبة
المثقفة الناهضة، والتعامل بجدية مع ما أطلق عليه فيما بعد
بـ(المشروطة) وتعني الملكية المشروطة والمحدودة بارادة الشعب، ويتم
هذا التحديد بفضل الدستور الذي كان أهم ثمار هذه الحركة، وهو أول دستور
يشهده بلد اسلامي.
لكن مشكلة وثغرة كبيرة كانت مزروعة في جدار الدستور، ألا وهي عدم
تقيّد الدستور بالتعاليم الدينية، وتركيزه بشكل أساسي على المفاهيم
والمفردات المستوردة من قبيل الديمقراطية والتعددية وحرية الاحزاب وغير
ذلك، الامر الذي أشكل عند الآخوند الخراساني ولم يسمح بان يمر هكذا
مشروع مرور الكرام في أهم وأضخم بلد اسلامي في حينه، فدعى قبل (المشروطة)
الى (المشروعة)، أي الى ان يستمد الدستور ومجلس النواب شرعيته م الدين،
ومن الشريعة الاسلامية، وهو الأمر الذي عدّه الكثير من (الدستوريين)
والمناهضين للنظام الاستبدادي، بمثابة نوع من المسايرة مع السلطان
المستبد، وعدم دراية بالأمور السياسية، وهذا بحق يُعد أكبر ظلم لحق
بالآخوند الخراساني الذي اراد ان تكتسي ثورة الدستور في ايران حلّة
الدين البهيّة التي حدد مقاساتها الدقيقة أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام)، وثبت للعالم أجمع انه كان صاحب سياسية وكياسة،
جعلت نهجه في الحكم مثالاً تسعى اليه الاجيال، لما يتضمن الحقوق العليا
للانسان ويضمن له السعادة والرخاء،
لكن استعجال تلك الفئة من المتأثرين بالفكر الليبرالي واستحصالهم
على فتوى مؤيدة لتحركهم وتدوين الدستور الذي يعطي الأولوية لتحديد
صلاحية الملك، وضع الآخوند الخراساني في موقف تاريخي صعب، فحدثت
المواجهات والمصادمات بين من يدعون الى (المشروطة) والآخرين الداعين
الى (المشروعة)، وكان أبرز ضحايا هذه الفتنة العمياء المجاهد الشيخ فضل
الله النوري الذي ساقته احداث الشغب التي وقف خلفها الاستعمار
البريطاني، الى حبل المشنقة بتهمة التآمر على (إرادة الشعب)، ونفذ فيه
حكم الاعدام ظلماً وجوراً.
وقد تناسى الليبراليون وأصحاب الدعوة الى حكم الشعب، رسائل الآخوند
العنيفة لمظفر الدين شاه القاجاري قبل ان يلهج لسانهم بذكر (الديمقراطية)،
وهو يفضح خنوعه واستسلامه لضغوط روسيا القيصرية من خلال الديون
والتنازل عن كثير من المناطق الاسلامية على خلفية معاركه وحروبه
الخاسرة، بل انه (طاب ثراه) لم يتراجع عن تأييده لمشروع الدستور
والنظام البرلماني في ايران، حيث واصل دعواته للملك القاجاري محمد علي
شاه بالتقيّد بموازين الشرع والعدالة والمحافظة على استقلال البلاد
والالتزام ببنود (المشروطة).
تحكيم أعظم بناء في الاسلام
يروى عن الآخوند الخراساني شواهد عديدة عن دوره الاجتماعي رغم
انشغاله بالبحث والتدريس وطلب العلوم الدينية، فهو لم يكن بعيداً عن
الناس، كما هو ديدن معظم مراجعنا الكرام آنذاك، وكان يُعرف عن الآخوند
وضعه المالي المتدني للغاية، إذ لم يكن يظهر عليه أي شكل من اشكال
الاناقة والكمالية في مختلف نواحي حياته، بل كان دائم العوز والحاجة
بتأكيد الطلبة المقربين منه.
وينقل المرحوم السيد محمد رضا الشيرازي (طاب ثراه)، في احدى
محاضراته، انه فيما كان الآخوند مع بعض طلبته في الديوان، واذا برجلٍ
يدخل عليه ومعه كيس بان للقريبين من الآخوند انه محشوٌ بالاموال، ومن
دون أن يكلمه الآخوند كثيراً أخذ الكيس منه ودسّه تحت الفراش الذي يجلس
عليه، وبعدها بلحظة دخل رجل آخر وتكلم قليلاً مع الآخوند، فاعطاه ورقة
وقلم ليكتب ذلك الرجل، فكتب شيئاً ثم قرأه فقطّب جبينه وهو يتأمل
المكتوب في الورقة، ثم مزقها ومدّ يده تحت الفراش وأخرج الكيس ودفعه
لذلك الرجل الذي أعرب عن بالغ الشكر وانصرف من مجلس الآخوند، فاثار هذا
المشهد الطبة المحيطين به، وأول ما سألوه عن سر الورقة وسبب تمزيقها
وما دفعه لاعطاء كل المال لذلك الرجل، فأبى أول الامر أن يطلعهم على ما
حصل بينه وبين ذلك الرجل، لكنهم أصروا عليه، فقال: جائني أحد المؤمنين
وأعطاني حقوقاً شرعية وهي بمبلغ مئتي ليرة ذهب، وبعدها جاء الرجل
الثاني وقال لي : إن عندي ولدين أريد ان أزوجهما وليس معي المال
الكافي، فطلبت ان يكتب الرقم الذي يكفيه، فكتب انه بحاجة الى خمسين
ليرة ذهب، وعندما رأيت الرقم اعتقتدت انه غير كافٍ لنفقة زواج إثنين من
الشباب، ورأيت الافضل أن أدفع اليه كل المبلغ الموجود عندي.
توفّي الشيخ الآخوند الخراساني (طاب ثراه) في العشرين من ذي الحجّة
عام 1329 هـ الموافق لعام 1909 بمدينة النجف الأشرف، ودفن بجوار مرقد
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبوفاته خسر العالم
الاسلامي بأسره معلّماً للأخلاق ومدبّراً يقظاً وعالماً نحريراً، لابد
ان تسعى الحوزة العلمية بكل جدٍ واجتهاد لأن تقتفي أثره هكذا شخصية
نموذجية اذا لم تتمكن ان تلد آخوند آخر. |