المدارس الفقهية والتكامل الحضاري

تمظهر النص والواقع

د. نضير الخزرجي

من طبيعة الإنسان أن يسرع فيما إذا أصابته بلية أو مرض إلى مراجعة الحكيم الحاذق للاستشفاء وتلافي مضاعفات المرض، وهذه مسألة يحكم بها العقل السليم، ولكن الاختلاف يقع في رؤية الناس نحو شخصية الطبيب، صحيح أن هناك مظاهر خارجية تحكم بأفضلية طبيب على آخر من قبيل كثرة الاستشفاء على يدي هذا الطبيب دون غيره، لكن الناس بطبيعة اختلاف أمزجتهم ونفسياتهم لهم رؤيتهم الخاصة بكل طبيب، فضلا عن كون عامل الاستشفاء على يد طبيب معين قد نجده عند طبيب ثان وثالث، فكل مجموعة تحكم بأفضلية طبيب على آخر، وإذا توسع المجتمع وتعددت المدن، فان التنوع سيزداد، وبالتالي يصعب حصر الأفضلية بطبيب واحد دون غيره.

ربما يعترض البعض بان فقدان عامل حصر الأفضلية بطبيب واحد يضعف من مناعة الصحة العامة، ولكن هذا التنوع والتعدد يناسب رغبات المريض النفسية والروحية، فقد لا يجد المريض الراحة النفسية عند مراجعة طبيب معين وان بزغ اسمه وطار في الآفاق صيته، ويرتاح لآخر رغم كسوف شمس اسمه وخسوف قمر شهرته، فالإطمئنان النفسي له أثره البالغ في مراحل الاستشفاء.

منشأ الإجتهاد

وفي مجال تقليد الفقيه فان أهمية معرفة الأعلم والأصلح للفتيا أكبر وأعظم، لان المقلِّد (بكسر اللام) إنما يريد بعبادته والعمل وفق الشريعة الإسلامية سعادة الدنيا والآخرة، حتى تكون طاعته وعبادته منجزة عند الله، ولكن في هذه الأثناء يقفز إلى الذهن السؤال التالي: ما الذي يدعو إلى تعدد الاجتهادات وتعدد الفقهاء وتعدد المراجع الدينية في مجال الفتيا، وتعدد المدارس الفقهية، مادام الفقهاء يستنبطون الأحكام من مصادر تشريعية واحدة هي الكتاب والسنة؟

في الواقع إن الاختلاف وقع في موارد عدة، وعلى ضوء ذلك وقع التعدد والاختلاف في المدارس الاجتهادية، فقد وقع الاختلاف في تحديد الأسس والمباني الأولية للإجتهاد وفي تشخيص الأصول العامة للفتيا من نقلية وعقلية، وفي تعيين ضوابط وحدود السنّة، كما وقع الاختلاف في البيئة الإجتماعية وأثرها على شخص المفتي.

وأول ما وقع من الاختلاف هو في تشخيص أسس ومعدات الإجتهاد المعبر عنها بشروط الإجتهاد والتي يرجح  الفقيه الميلاني تسميتها بـ "المواد الأولية"، وقسّمها من وجهة منهجية بلحاظ مواقع الإلتقاء بينها إلى قسمين:

1- ما يعود منها إلى أصول الاجتهاد- أي المصادر التشريعية- التي تصلح أن تكون كبرى لقياس الإستنباط وهي: الكتاب والسنّة والإجماع، والعقل، والقياس، وغيرها.

2- ما يعود منها إلى معرفة كيفية الاستنباط من هذه الأصول، أي ما يقع موقع الصغرى في عملية الاستنباط ويرتبط بها ارتباطا(1)، وقد حصر الأصولي الحكيم (ت 2002م) أسباب الاختلاف بين الفقهاء في قسمين: "الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم، كالخلاف في حجية أصالة  الظهور الكتابي، أو الإجماع أو القياس أو الاستصحاب، أو غيرها من المباني مما يقع الكبرى من قياس الاستنباط" و"اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى سواء كان منشأ الاختلاف اختلافا في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة أم ادعاء وجود قرائن خاصة، لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين".(2)

ولا شك إن معرفة حدود السنّة توسعة أو تضييقا، تعد عاملا مهما من عوامل التعددية الاجتهادية، ففي حين تقصر المدرسة السنية الاجتهادية، السنّة على سنّة الرسول (ص) وتوسعها إلى القبول بعمل الصحابة، فان المدرسة الفقهية الشيعية وبخاصة الشيعة الإمامية الإثني عشرية، توسع من مديات السنّة لتشمل سنة الأئمة الإثني عشر الذين هم عترة النبي وأهل بيته بضميمة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع)، ولا ترى حجية في عمل الصحابة إلا إذا تم إقراره من قبل الرسول (ص) أو من قبل أئمة الشيعة الإمامية، إذن فإنهم: "اختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق مع اتفاقهم على صدقها على ما صدر عن النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير... وموضع الاختلاف في التحديد توسعة الشاطبي لها إلى ما تشمل الصحابة حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنّة يجري عليها أحكامها الخاصة من حيث الحجية، وربما وافقه بعضهم على ذلك، بينما وسّعها الشيعة إلى ما يصدر عن أئمتهم (ع) فهي عندهم كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريرا"(3)، وقد اشبع الحكيم هذه النقطة الخلافية بحثا واستدلالا ومقارنة، وخلص إلى عدم نهوض الأدلة التي ذكرها الشاطبي إبراهيم بن موسى (ت 790هـ) لإثبات سنّة الصحابة كجزء من أصل السنّة في الإجتهاد.

ويشخِّص الشيخ كاشف الغطاء، (المعصوم) وهو في مقام الحديث عن الخلاف بين المدرسة الإمامية والسنّية في باب الإجتهاد مؤكدا إن الإمامية: "لا يعتبرون من السنّة (اعني الأحاديث النبوية) إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم يعني ما رواه الصادق – جعفر- عن أبيه الباقر – محمد- عن أبيه زين العابدين –علي- عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله سلام الله عليهم جميعا، أما ما يرويه مثل أبي هريرة عبد الرحمن الدوسي (ت 57هـ) وسمرة بن جندب (الفزاري، ت60هـ) ومروان بن الحكم (الأموي، ت65هـ) وعمران بن حطان الخارجي (ت84هـ) وعمرو بن العاص (السهمي، ت43هـ) ونظائرهم، فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر كيف وقد صرح كثير من علماء السنّة بمطاعنهم ودلّ على جائفة جروحهم".(4)

ربما يظهر من كلام الشيخ كاشف الغطاء محمد حسين (ت 1373هـ) اقتصار السنّة على ما أوردهم من المعصومين بدءاً بالإمام جعفر الصادق (ع)، ولكن الشيخ باقتصاره على الإمام الصادق (ع) إنما هو في معرض رد المذاهب الإسلامية إلى ما اشتهرت به، ومن ذلك المذهب الجعفري، وإلا فان سنّة أهل البيت (ع) تضم بين دفتها ما ورد عن فاطمة الزهراء وما ورد عن الإمام المجتبى الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 50هـ) وما ورد عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر (ت 183هـ) ومن ثم الإمام الرضا علي بن موسى (ت 203هـ) والإمام الجواد محمد بن على (ت 260هـ) والإمام الهادي علي بن محمد (ت 254هـ) والإمام العسكري الحسن بن علي (ت 260هـ) والإمام المنتظر المهدي بن الحسن العسكري المولود عام 255هـ.

ومن مظاهر الاختلاف وتعدد المدارس الاجتهادية الاختلاف في الأصول العقلية كالقياس والإستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة، وما إذا كان للبشر القدرة الكافية على فهم وإدراك المصالح والمفاسد للأحكام الشرعية أو ما يعبر عنها مجازاً بعلل الشرائع أو علل الأحكام، وقد أفاض السيد الحكيم في أصوله في كشف قصور مثل هذه الأصول العقلية عن القيام بالمراد.

بل إن كلمة الإجتهاد بحد ذاتها كما يقول السيد الصدر (ت 1980م) كسبت لونا مقيتا وطابعا من الكراهية، والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية في القرون الأولى التي أعقبت عصر الغيبة الكبرى للإمام المهدي المنتظر (بدأت مع وفاة آخر سفراء الإمام المهدي (ع) الشيخ علي بن محمد السمّري العام 329هـ)، ناهيك عن الأصول العقلية، فالشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن (ت460هـ) يذكر في كتاب العدة: "أما القياس والإجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالهما.

وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس محمد بن احمد الحلي (ت 598هـ) في مسألة تعارض البينتين في كتابه السرائر عددا من المرجحات لإحدى البينتين على الأخرى، ثم يعقب ذلك قائلا: "ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا والقياس والإستحسان والإجتهاد باطل عندنا".(5)

البيئة والفتيا

وهناك ضوابط ذاتية تدخل عاملا مهما في اختلاف الفتيا من فقيه إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى، فنجد فقيها كثير الإحتياط في الفتيا، وهذه الحيطة لها علاقة بشخصية الفقيه نفسه، فهو شديد الحيطة والاحتياط حتى في حياته اليومية وعندما يكبر وتنشأ معه ملكة الفتيا والإجتهاد تصاحبه الشدة في الاحتياط في باب الفتيا، كما إن للبيئة تأثيرا واضحا في الفتيا، فالفقيه الذي يعيش في حاضرة إسلامية كالنجف وكربلاء والقاهرة وقم ومشهد ومكة والمدينة، تختلف نظرته للمحيط عن الفقيه الذي يعيش في مدينة غربية أو غير مسلمة كلندن أو واشنطن أو باريس أو موسكو أو نيوزلندا أو سدني، فالفقيه في البلدان الأخيرة على احتكاك مباشر مع مستجدات فقهية نابعة من بيئة وظروف المجتمع والبلد الذي يعيش فيه، وسيكون أقدر على الإلمام بكل جوانب الفتيا، فعلى سبيل المثال وقع الإختلاف في تحديد الفجر الصادق في لندن وذلك لانعدامه في الصيف في البلدان التي تقع بين خطي عرض (48 و66) ولندن منها، وعندما تم استفتاء عدد من فقهاء السنّة والشيعة في عدد من الحواضر الإسلامية حول المسألة، لم تأت الأجوبة متطابقة، وقد وقع الخلاف في نشرات مواقيت الصلاة والصوم التي تصدرها المراكز الإسلامية في لندن قبل الاستفتاء ومن بعده.(6)

بل وربما لم يفت الفقيه بمسألة لأنه من الأصل لا يرى إمكان حصولها ووقوعها، يقول الشيخ محمد علي گرامي وهو من أساتذة الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة: "لا أنسى مسألة وردت في العروة الوثقى عن كيفية الصلاة في الأماكن التي تعادل فيها الليل والنهار، وكذا في مسائل الصوم. أحد العلماء الفحول رحمه الله ذكر في حاشية العروة على هذه المسألة بأنها كاذبة لعدم إمكان ذلك، في حين أن الجامعيين يعلمون إمكان ذلك، فهذه هفوة من مرجع دقيق النظر بسبب انقطاعه عن العالم وعدم إطلاعه عن وجود هكذا موارد في الكرة الأرضية".(7)

فالبيئة والمكان والزمان على علاقة مباشرة بالفقيه والإفتاء، ويرى البعض أن للبيئة مدخلية في نشوء المدارس الفقهية الأولى، فقد: "ظهرت في تاريخ الفقه الإسلامي مدرستان مختلفتان هما مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، وكان في مقدمة الأسباب التي أدت إلى قيام ما بينهما من وجوه الإختلاف هو إختلاف ظروف البيئة، فقد كانت بيئة العراق، حيث نشأت مدرسة أهل الرأي مغايرة لبيئة الحجاز، حيث ظهرت مدرسة أهل الحديث"(8)، والى هذا يشير الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1974م) بقوله: "وأهل هذا الإقليم – العراق- أهل بصر وتدقيق ونظر وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضي المذاهب، وقد كان منهم في أيام الأكاسرة مثل: ماني وديصان ومزدك وغيرهم، وليست طينة الحجاز هذه الطينة ولا لأذهان أهل الحجاز هذه الأذهان"(9). ولقد أفتى الشافعي محمد بن إدريس (ت 204هـ) في مصر بغير ما أفتاه في العراق رغم وحدة المسألة الفقهية.

المدرسة الفقهية وتعددها

 ولا يتوقف التنوع والاختلاف في المدارس الفقهية الإسلامية ككل، فهناك تنوع حتى في المدرسة الفقهية الواحدة، فعلى سبيل المثال نلحظ في المدرسة الفقهية الإمامية، الحركة الأخبارية والحركة الأصولية، ففي حين توقفت الأولى عند الخبر وجمعه (الحديث المروي عن المعصومين) وقاومت دور العقل في مجال الاجتهاد والفتيا، أخذت الثانية بأصول الإجتهاد الأربعة (القرآن، الحديث، الإجماع، العقل)، وأعملت العقل. وبالطبع لا يمكن إلغاء دور العقل كليا، فحتى الذين يعيبون على الأصوليين من الإخباريين فإنهم في ميدان الرد والانتصار لعقيدتهم يستخدمون العقل، وكما يقول السيد الصدر: "كانت الحركة الأخبارية تستبطن – في رأي كثير من ناقديها- تناقضا، لأنها شجبت العقل من ناحية لكي تخلي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلت من ناحية أخرى متمسكة به لإثبات عقائدها الدينية، لان إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي بل يجب أن يكون عن طريق العقل".(10)

 من الواضح إن الاختلاف في عقول الفقهاء وفهمهم وحدود توفرهم على ملكة الاجتهاد ومفردات الاجتهاد والتبحر في المصادر، يخلق مثل هذا الاختلاف في الاجتهادات، رغم أن الحق واحد، فربما ينطلق مجتهدان في البحث عن قضية فقهية واحدة في فترة زمنية واحدة، يصل الأول في إبراز معالمها وحكمها الشرعي قبل الآخر وفقا لما يملكه المتفوق من أدوات اجتهادية وخلفية فقهية وأصولية ورجالية وحديثية جعلته أسبق من غيره، وربما خرج الاثنان باجتهاد في زمن واحد، ولكن بنتيجة قد تبدو متخالفة، وهذا خاضع لما لدى الاثنين من مفردات تعينهم على الاجتهاد، وهذه مسألة قائمة في كل علم، فالاختلاف والتنوع قائم في كل شيء، وهي مسألة ملموسة ظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار، وإلا على سبيل المثال ما احتاج المعلم إلى إجراء اختبار وامتحان لطلبته رغم أن الأستاذ واحد وهو يقوم بتدريسهم في مكان واحد وزمان واحد، لكن الكفاءات والقدرات والأذهان تختلف من طالب لآخر.

في هذا الإطار يقول الباحث الإسلامي عاطف الزين: "ثم إن الإسلام جعل المسلمين يجتهدون في استنباط الأحكام، وبطبيعة تفاوت الأفهام حصل الاختلاف في فهم الأفكار المتعلقة بالعقائد وفي كيفية الاستنباط، وفي الأحكام والآراء المستنبطة، فأدى ذلك إلى وجود الفرق والمذاهب، وقد حث الرسول صلى الله عليه واله وسلم على الاجتهاد وبيّن أن الحاكم إذا اجتهد واخطأ فله اجر وإذا أصاب فله أجران اثنان"(11)، ومن الثابت أن الإجتهاد قائم في الفروع، إذ ليس هناك اجتهاد في مجال العقائد، أو اجتهاد في دائرة التشريعات القطعية، وما حصل هو اختلاف في فهم النص.

ولاشك إن في عملية الاجتهاد طرفين، احدهما المقلَّد (الفقيه المجتهد) والثاني المقلِّد (عموم الناس)، ولما استحال وقوف المكلفين على معرفة كامل الأحكام الإسلامية (فروع الدين)، وقع وجوب التقليد حتى يستطيع المسلم: "امتثال التكاليف الإلزامية الموجهة إليه في الشريعة المقدسة"(12)، وألزم المسلم بالاجتهاد إلزاما كفائيا: "فإذا تصدى للاجتهاد من يكتفى به سقط التكليف عن الباقين، وإذا تركه الجميع استحقوا العقاب جميعا"(13).

 وبذلك تحقق تعدد المجتهدين، خصوصا وان المسلم مكلف بتقليد الأعلم منهم، ولم يقع أن قلَّد جميع المسلمين مجتهدا واحدا في مدرسة مذهبية واحدة في فترة زمنية واحدة، نعم يتحقق ميل كفة مجتهد أو مرجع أكثر من آخر في مجال الرجوع الناس إليه في التقليد، وإذا أطلق على فقيه لقب شيخ الطائفة أو زعيم الطائفة أو المرجع الأعلى، فهي إطلاقات مجازية، تتحقق مصاديقها في الخارج بزيادة عدد المقلدين والأتباع، بخاصة وانه في مذهب الشيعة الإمامية قد فوض المعصوم للناس الرجوع إلى كل فقيه يحمل مواصفات العدل والعلم والنزاهة وطهارة المولد، ولم يخصص أحدا بعينه أو حصر الناس به، نعم وقع التخصيص في الصفات. ولما كانت المواصفات المذكورة واقعة في دائرة الإمكان، ويستطيع أكثر من فقيه أن يحققها في نفسه، فقد تعدد الفقهاء وتعددت الاجتهادات والمدارس الاجتهادية، حيث ورد عن الإمام المهدي المنتظر (عج) قوله: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"(14)، ففي الوقت الذي يُرجع الإمام الناسَ إلى الفقهاء في مجال التشريع وبخاصة في المستجدات، فان الإمام الحسن العسكري (ع) يحدد صفات الفقيه الجامع للشرائط، بقوله: "أما مَن كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه"(15)، وهذه صفات وملكات نجدها بالقطع في أكثر من فقيه مجتهد عادل وفي ظرف زماني ومكاني واحد.

ويعلق الفقيه المدرسي على قول الإمام (ع): "فللعوام أن يقلدوه" قائلا: "الملاحظة الطريفة التي تلفت الانتباه في هذا الحديث قوله عليه السلام (فللعوام)، إذ لم يقل (على العوام)، أو أي تعبير آخر يستلزم الوجوب، فالحديث يومئ لمن يخاطبه بأنه مخير وله الحرية التامة في اختيار مرجعه، وان لم يشأ التقليد فليس بإمكان أحد أن يجبره، لان حسابه يبقى مع الله تعالى غدا يوم القيامة، فحرية اختيار المرجع مكفولة في الإسلام، فترى إن فلانا يقلد المرجع الفلاني لان لديه القناعة التامة به، فهو يراه أهلا للتقليد بعد أن وجد المواصفات التي يذكرها الحديث الشريف منطبقة عليه، وقد لا يقتنع به وتتجه قناعته إلى مرجع آخر وهكذا"(16)، فحرية الاختيار مشروعة تفضي بشكل طبيعي إلى تعددية في المرجعيات الدينية المؤهلة للفتيا.

ولاية الفقيه وتنوعها

واستنبط الفقهاء الشيعة من مجموعة من الأحاديث والوقائع شرعية التعددية الفقهية وتعددية ولاية الفقيه وتعددية المجتهدين، من ذلك ما ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما فاني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكم فلم يُقبل به فانه بحكم الله استخف وعلينا رد والرادُّ علينا كافر راد على الله وهو على حد الشرك بالله"، ويعلق الشاهرودي على الحديث بقوله: "وجملة: من كان منكم قد روى حديثنا و...، عامة تشمل كل من يرتقي إلى درجة الاجتهاد، فالباب مفتوح على مصراعيه للتعدد"(17).

ويستدل الشيخ الأسدي بنظير هذا الحديث على التعددية في مجال الفتيا وولاية الفقيه، ففي الحديث: "انظروا من روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، فاجعلوه حاكما، فاني قد جعلته حاكما عليكم"، فكلمة (من) تفيد الإطلاق والعموم ومعناها: (انظروا كل راو لحديثنا) مثل (من جاءك فأكرمه).. وقال ابن هشام في مغنى اللبيب، ص330، إنها (الضمير يعود إلى مَن) في الأولين نكرة موصوفة، أي على (قوم) غيرنا.. أي إن كلمة (مَن) معناها (القوم) في قول حسان بن ثابت (ت نحو 40هـ):

وكفى بنا فضلا على مَن غيرنا       حب النبي محمد إيانا

فالمعنى كما يقول الأسدي إن القوم الذين رووا حديثنا فاجعلوهم حكاما فاني قد جعلتهم حكاما عليكم.

إذن المفهوم من هذا الحديث الشريف، وفقا للقواعد العربية إن (كل الفقهاء) الجامعين لشرائط المرجعية هم حكام على الناس وليس هناك تخصيص لبعضهم أو استثناء لأحدهم، كما إن المفهوم من كلمة (جعلته) أي الفعلية لا الشأنية، وصيغة الماضي في (جعلته) تدل على ذلك، كما إن الشأنية خلاف الأصل وبحاجة إلى قرينة، فلو كان في مدينة ما خمسة من رواة أحاديثهم عليهم السلام (أي الفقهاء المراجع) فكلهم حكام وفق منطوق هذا الحديث الشريف، ولو قدم أحدهم على غيره دون حجة شرعية، معنى ذلك انه ضُرب بهذا الحديث وطائفة من الأحاديث المماثلة له عرض الجدار، ولقد أفتى الفقهاء وفق هذا الحديث وأشباهه بتعدد الفقهاء والمجتهدين في زمان واحد(18).

التعددية المحمودة

ويرى بعضهم إن تعدد الاجتهاد من العوامل الأساسية للتعددية التي شهدها المجتمع الإسلامي، والذي يربط بين التأويل والسياسة: "فالسياسة بما هي اهتمام بالشأن العام الذي هـو ساحة للاختلاف وتعدد المواقف تقوم على تعدد التأويلات وتكوثر مناهج التفسير للنص المقدس"(19)، ففي المجتمع المسلم يسمح بتعدد القناعات الفقهية: "ويعطي الإسلام فرصا رحبة لنمو الاجتهادات الفقهية المقبولة على الأصول العملية"(20).

من هنا، فان الاجتهاد باب مفتوح لكل فقيه واجد الشرائط المذكورة في كتب الفقه والأصول، والاختلاف في الفتيا أمر قائم، ذلك إن الاختلاف في الرأي طبيعة بشرية، ومن اجل هذا لاحظنا ما قرره الفقهاء من مبدأ: "إن رأي المجتهد يلزم المجتهد وحده دون غيره يدلل على إن الاجتهاد نفسه صيغة أخرى للاختلاف في الرأي، ويعد من باب الخلاف المحمود"(21)، والى هذا يشير الدكتور محمد عمارة: "فإذا كان الاجتهاد فريضة دائمة، لأنه أداة استنباط الأحكام الشرعية الجزئية، من مصادر الوحي الإلهي، والبلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ، وعليه يتوقف بقاء الشريعة الإسلامية، خاتمة وخالدة ومستجيبة أحكامها لمستجدات الزمان والمكان والمصالح والعادات والأعراف، وهو بعبارة السيوطي (ت 911هـ): (فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة من كل قطر)، فان فريضة الاجتهاد هذه لا تتأتى إلا مع التعددية والاختلاف في الاجتهاد. ثم إن الإقرار بشرعية الاجتهاد هو إقرار بشرعية الاختلاف، فمن حق كل مجتهد جامع لشرائط الإجتهاد أن يعبر عما توصل إليه من فتاوى وآراء واجتهاد، وليس من حق أحد أن ينكر على مجتهد رأيه، مادام هذا الرأي ضمن الأطر الشرعية"، مؤكدا في الوقت نفسه: "إن الاختلاف في الفروع هو المجال الطبيعي لتعددية الاجتهادات والمذاهب والمدارس الفكرية، سياسية وغير سياسية وهو اختلاف غير مذموم، وإذا كان الاجتهاد مشروعا، هو كذلك بإجماع الأمة، فان الاختلاف في الرأي هو الآخر يكون مشروعا وهذا بدوره إقرار بشرعية التعددية وحق الآخر في الاختلاف مع غيره"(22).

ويقرر الشيخ الغنوشي حقيقة ثابتة هي: "انه رغم ما عرفته تجربتنا التاريخية في ظل الإسلام من ضروب صراع واختلاف، وصل أحيانا حد الاتهام في الدين، فان السياق العام لهذه التجربة الحضارية الرائدة، كانت سمته البارزة وحظه العريض مطبوعين بطابع التسامح والقبول بحق التنوع، والاختلاف، والتعدد، ومن أجل إحاطة هذا الصراع بمقوماته، والنمو والإخصاب نشأت حوله آداب سُميت بآداب الاختلاف"(23). ومن جانبه يعلل الشيخ محمد الغزالي (ت 1996م) شرعية تعددية مراجع الفتيا بكون: "الإختلاف في وجهات النظر في التشريعات الفرعية حقيقة إنسانية وإسلامية لا محيص عنها، و نشوء مدارس كبرى وصغرى على محاور قانونية مختلفة أمر لا غضاضة فيه ولا شر منه، ولو أن القرآن أنزل أمس وبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به منذ البارحة لما كان هناك بدّ من تفاوت الأنظار في أحكام الوضوء والصلاة لان ذلك أمر طبيعي"(24).

ثمرة التعدد

ومن ثمرة تعدد المجتهدين حصول تعدد وتنوع واختلاف في الإجتهادات: "التي يمكن أن تتبلور في مذاهب ومدارس وتيارات، فالإجتهاد سبب للتعددية التي تعود فتصبح حافزة على تنمية الإجتهاد، وإذا كان اجتهاد المجتهد ملزما له هو ولمن قلده، وغير ملزم للمجتهد الآخر، ولا للذين قلدوه، فلقد غدت هذه القاعدة من قواعد الفكر الإسلامي التقنين الأدق والأوضح لمبدأ التعددية في الفكر الديني"(25)، ولهذا يعتبر الشيخ محمد أبو زهرة ما حصل من اختلاف في الفقه والاجتهاد إنما هو ثروة فقهية غنية تركها علماء المسلمين للأجيال المسلمة: "فتح القرائح، فاتجهت إلى تدوين علم الإسلام، مجتهدة متبعة من غير جمود، وتركت بعد ذلك تركة مثرية من الدراسات الفقهية، لا نكون مغالين، ولا متجاوزين المعقول، إذا قلنا إنها أعظم ثروة فقهية في العالم الإنساني، ولعل أعظم ثروة يدّعيها الأوروبيون هو القانون الروماني، ولو وزن ما جاء عن الرومان ما عدل عُشر معشار ما تركه الفقهاء من عيون الفقه ومسائله، وإنها لتشمل من الحلول الجزئية، والقواعد الكلية، ما يغني الإنسان إن بغت الخير لنفسها، واتجهت إلى ما ينفعها ويعلو بها"(26).

فالتعددية والتنوع الفقهي أمر قائم، وقد وقع في دائرة الإسلام فعلا، ونلمس هذا في تعدد خطوط اللاهوت والأصول، المعتزلة، الأشاعرة، الشيعة، والتعدد في أصول الفقه وكذلك تعدد الاجتهادات الفقهية، والتعدد في الحقل الفلسفي والصوفي وحقل التاريخ والسياسة أيضا، ونجد ترابطا قويا بين اللاهوت والسياسة في تجربة الأمة الإسلامية، ولكن رغم ما حصل من تعدد الخطوط والاتجاهات تاريخيا تبقى التعددية كما جرت على الأرضية التاريخية وفق محددات الأطر السياسية والاجتماعية ضعيفة وقاصرة نظريا إذا ما قورنت بمفهوم التعددية في الفكر المعاصر، لأنها قامت بالأساس على مسلمات العقلية الدوغمائية ومفاهيمها الأرثوذكسية(27).

وتضاف التعددية الفقهية أو الاجتهادية إلى مجموعة المظاهر والمصاديق الخارجية الدالة على رؤية تكوينية وتشريعية لشرعية التنوع والاختلاف المؤدي إلى التكافل بين أبناء البشر، وكما يقول الباحث الإجتماعي الدكتور الحيدري: "من هذه الوحدة والتعايش والتجانس والاختلاف يمكن للفرد فهم الحضارات والتنافس فيما بينها من اجل الأحسن والأفضل لبني الإنسان باعتباره (صراعا) اجتماعيا من اجل استمرار الحياة على الأرض، ويتوقف هذا التعايش الاجتماعي على القدر الذي يدعي فيه البعض إنهم متساوون أمام الله وأمام القانون ومتسامحون مع الآخرين، ومع الحضارات الأخرى"(28).

خلاصة الأمر إن الاجتهاد وهو رحمة للمسلمين، واحد من عوامل قوة المجتمعات، ودلالة على حيوية الإسلام ومواكبة تشريعاته لمستجدات الحياة في المجالات كافة، فما يتوفر لدى علمي الفقه والأصول من أدوات استنباطية لا يعتريها الوهن والضعف على مر الزمان، تمكّن الفقيه الحاذق من استنباط الحكم وتذليل الصعوبات التشريعية للمسلمين وعلى مر الأجيال. كما إن مفردة الصراع التي يعبر عنها القران بالتدافع أو التسابق نحو الخيرات، يمكن ملاحظتها في التعددية الدينية والمذهبية والفقهية والاجتهادية، تدافع يقتضي فيه نيل سبل التكامل والتفاضل.

* إعلامي وباحث عراقي

الرأي الآخر للدراسات – لندن

alrayalakhar@hotmail.co.uk

..................................

الهوامش

(1) الميلاني، د. فاضل، ضوابط الإجتهاد وشروط المجتهد (بحث مقدم إلى مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية المنعقد في البحرين 20-22/9/2003م) ص15.

(2) (3) الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن (بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر) ص18، ص122.

(4) كاشف الغطاء، محمد حسين، أصل الشيعة وأصولها (لندن وروما، منشورات البزاز، ط1، 1414هـ/1994م) ص85.

 (5) الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، الحلقة1 و2 (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1410هـ/1989م) ص31-31.

(6) راجع: حوارنا مع آية الله الدكتور السيد فاضل الميلاني والدكتور السيد محمد علي الشهرستاني، والتحقيق الذي أجريناه بهذا الخصوص، (مجلة الرأي الآخر، لندن مركز التثقيف الإسلامي، السنة 2، العدد 18، شوال 1418هـ/يناير 1998م) ص12-17.

(7) مطارحات مع قادة الفكر الإسلامي، حوار مع الشيخ گرامي (المؤسسة العالمية للحضارة الإسلامية، بيروت، ط1) ص77.

(8) حسن، د. حسن عباس، الصياغة المنطقية للفكر السياسي الإسلامي (بيروت، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1412هـ/1992م) ص151.

(9) انظر: حسن، د. عباس حسن، الفكر السياسي الشيعي.. الأصول والمبادئ (بيروت، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1988م) ص81.

(10) دروس في علم الأصول، مصدر سابق، ص51.

 (11) عاطف الزين، د. سميح، الإسلام وأيديولوجية الإنسان (بيروت، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، ط3، 1982م) ص331.

(12)، (13) السيستاني، علي الحسيني ، المسائل المنتخبة.. العبادات والمعاملات (قم إيران، مؤسسة المنار ومطبعة مهر، ط1، 1413هـ/1992م) ص9، ص10.

 (14)، (15) الشاهرودي، نور الدين، العلماء ومراجع التقليد (إيران، ط1، 1417هـ/1996م) ص17.

(16) المدرسي، محمد تقي، هكذا نبني عراق الغد، إعداد: فالح الربيعي (طهران، انتشارات مدرسي، ط1، 1413هـ) ص78.

(17) العلماء ومراجع التقليد، مصدر سابق، ص17.

(18) انظر: الأسدي، ناصر حسين، شورى الفقهاء المراجع (بيروت، مؤسسة الفكر الإسلامي للثقافة والإعلام، ط1، 1411هـ/1991م) ص292-293.

(19) الربيعي، على حسن، "راهنية التأسيس النظري للتعددية في الفكر الإسلامي" مجلة المعهد (لندن، معهد الدراسات العربية والإسلامية، السنة 1، العدد 2، 1420هـ) ص73.

(20) سليم، عز الدين، "الإسلام والديمقراطية نقاط الافتراق ومحاور الالتقاء" مجلة المعهد (مصدر سابق) ص78.

 (21) عبد المجيد، د. احمد فؤاد عبد الجواد، البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث (القاهرة، دار قباء للطباعة، ط1، 1998م) ص345.

(22) انظر: اليوسف، عبد الله، "الاجتهاد وحق الاختلاف" صحيفة المسلم (بيروت، تجمع المسلم الحر، السنة 3، العدد 27، 1421هـ/2000م) ص3.

(23) درويش، قصي صالح، حوارات قصي درويش.. راشد الغنوشي (لندن، خدمة خالد الإعلامية، 1992م) ص24.

(24) الإجتهاد وحق الاختلاف، مصدر سابق، ص3.

(25)، (26) الصفار، حسن، التنوع والتعايش.. بحث في تأصيل الوحدة الاجتماعية والوطنية (بيروت، دار الساقي، ط1، 1999م) ص86-87، ص84-85.

 (27) انظر: راهنية التأسيس النظري للتعددية في الفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص72.

(28) الحيدري، د. ابراهيم، "القرية الكونية والتعددية الحضارية"، نشرة إسلام 21 (لندن، المنبر الدولي للحوار الإسلامي، العدد 22، 1420هـ/2000م) ص6.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/كانون الثاني/2009 - 17/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م