موقف الشعوب بين التوحد والثبات
الثابت دوما في أي صراع موجه ضد الأمة العربية والإسلامية من أي قوة
غير إسلامية تعادي الإسلام، هو موقف الشعوب العربية والإسلامية، التي
تنزل إلى الشوارع لتعبر عن رفضها لما يحدث، وتنديدها بمن يسبب ذلك، بل
وتؤكد أنها لو سنحت لها فرصة المشاركة في الجهاد لما تراجعت عن ذلك!
وهي تكشف بذلك عن تذمر عميق يشبه إلى حد ما ذلك البركان الذي يعتمل في
خفاء، ويتكون عبر الزمن، وبمجرد ما يكتمل، يعلن ثورته العارمة؛ فمتى
يكتمل نضج هذه الشعوب، ويستحيل إلى ثورة ما تعبر بها فعليا عن رفضها
للوضعية التي أرغمت عليها.
إن الشعوب العربية والإسلامية كانت المساند الأوحد للقضية
الفلسطينية، منذ إعلان أول طلقة من قبل العدو الصهيوني على قطاع غزة،
ولم تقتصر مساندتها على الأسلوب التقليدي، الذي يتحدد في التظاهر ورفع
الشعارات وإحراق الأعلام وما إلى ذلك، وإنما تطورت طريقة المساندة،
وتعددت آلياتها، وقد تجلى أهمها في:
• تنظيم المظاهرات والاحتجاجات والمسيرات بالطريقة التقليدية
المألوفة، التي تعتمد التجمهر، ورفع الشعارات، وإلقاء الخطب، وإحراق
الأعلام، وما إلى ذلك.
• عقد اللقاءات والندوات الإشعاعية والتوعوية التي تعرف الأجيال
الصاعدة بحقيقة القضية الفلسطينية.
• عقد اللقاءات والندوات في الغرب حيث تستقر الجالية الإسلامية،
وتعريف غير المسلمين بالقضية الفلسطينية باستخدام ألسنتهم ولغاتهم.
• جمع وإرسال المساعدات الطبية والغذائية من مختلف مناطق العالم
التي يوجد فيها المسلمون، ولأول مرة عبر السفن التي قامت بخرق الحصار
الذي كان قد مارسته إسرائيل على قطاع غزة قبل القيام بالعدوان.
• جمع التبرعات المادية في مختلف المؤسسات الدينية والثقافية وفي
الشوارع والأسواق، كما يتم في الغرب.
• المقاطعة الاقتصادية للشركات الغربية الداعمة للكيان الإسرائيلي،
بالتوقف عن شراء واستعمال منتوجاتها، وتوعية الرأي العام الإسلامي بذلك.
• توظيف الشبكة العنكبوتية في التعريف بالقضية الفلسطينية عبر فتح
المواقع والمدونات وبعث الرسائل الإلكترونية إلى أكبر عدد ممكن من
القراء والمستخدمين، بمختلف اللغات العالمية الحية.
• الجهاد الإلكتروني وهو آلية جديدة لمواجهة العدوان الإسرائيلي على
فلسطين، وهو لا يقتصر على التعريف بحقيقة الاحتلال الصهيوني الغاصب،
وإنما يتعدى ذلك إلى شن حرب إلكترونية على مواقع العدو الرقمية
الاستراتيجية، وتخريبها بالفيروسات، والتشويش على سير عملها، والتجسس
على معلوماتها، كمواقع الوزارات والمؤسسات الحكومية والمنظمات المتطرفة
المعادية للفلسطينيين والمسلمين، وغير ذلك.
على هذا الأساس، فرغم أن الشعوب العربية والإسلامية لا تملك سلطة
القرار السياسي أو العسكري، فإنها استطاعت أن تقدم الكثير للقضية
الفلسطينية، في الوقت الذي يلوذ فيه حكامها بالصمت والانكماش، مما يدفع
المرء إلى التساؤل؛ كيف سوف يكون الموقف العربي والإسلامي لو تحقق
التناغم بين الأنظمة وشعوبها، فوضعت الأولى يدها في أيد الثانية؟
بالتأكيد سوف تكون حالة الأمة الإسلامية أفضل بكثير مما هي عليه الآن!
موقف الأنظمة العربية بين الانكماش
والاستجداء
ينبغي التركيز في هذا المقام على الأنظمة العربية أكثر من سواها،
لأن أغلبها تبنى عقب الاستقلال الشكلي للمنطقة العربية فكرة القومية
العربية، وقد تم ذلك في أكثر من منطقة على حساب الكثير من الأعراق
المسلمة التي لم تكن عربية الأرومة، حيث مورست عليها سياسة التعريب،
التي لم تراع الخصوصيات الثقافية واللغوية والسوسيولوجية المحلية، التي
دعا الدين الإسلامي الحنيف في أكثر من آية قرآنية أو حديث نبوي أو موقف
للرسول صلى الله عليه وسلم إلى احترامها والحفاظ عليها، ما لم تتعارض
مع تعاليم الإسلام.
وسياسة التعريب هذه التي تم ممارستها على شعوب بأكملها، عانت عبر
أزمان طويلة من آفة التهميش والإقصاء، امتدت إلى مختلف القضايا
المصيرية للأمة الإسلامية، وهي قضايا في واقع الأمر ذات بعد إسلامي عام،
غير أنه تم تعريبها، أو بالأحرى احتكارها من قبل التيار القومي العروبي،
الذي يدعي بأنه الأولى بها، مما جعله يربطها على الدوام بالوطن العربي
أو بالأمة العربية، وتأتي على رأس هذه القضايا، قضية القدس خاصة أو
القضية الفلسطينية عامة.
إن العرب اليوم غير مهيأين سياسيا ولا ديموغرافيا ولا اقتصاديا ولا
استراتيجيا لتبني قضية بحجم قضية فلسطين، فهم على المستوى السياسي
يعيشون في تشرذم لا مثيل له، لذلك فإن أغلب المواقف التي يتخذونها
يعتريها "التهرؤ" كما عبر أمين عام الجامعة العربية في كلمة له بخصوص
العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، أما على المستوى العددي
فيمثلون أقل من عشرين في المائة من الأمة الإسلامية، أي ما يعادل خمس
أو سدس عدد المسلمين في العالم، الذي يقدر بحوالي مليار ونصف المليار
شخص! وسوف يصل في غضون العقدين القادمين إلى مليارين، أما على المستوى
الاقتصادي فرغم أن المنطقة العربية تجثم على أكبر احتياطي عالمي للذهب
الأسود، غير أنها لم توظف عائداتها المالية في تحريك وتأهيل اقتصاديات
الدول العربية المنحطة والمتردية، في حين يبدو العرب على المستوى
الاستراتيجي كما كانوا في الجاهلية عبارة عن قبائل متفرقة ومشتتة، رغم
أنها توفق بينها قواسم مشتركة متعددة، كالأصل واللغة والثقافة والدين
والمكان والمصير، وغير ذلك.
إن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة عرت حقيقة العرب، مما جعل
وسائل إعلام العدو تشير إلى أن إسرائيل تفاجأت من موقف الأنظمة العربية
تجاه حربها على غزة، وهو موقف يمكن نعته بالانكماش والانبطاح والاثقال،
(مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
اثَّاقَلْتُمْ)، مما فتح شهية إسرائيل لسفك الدماء، والعيث في الأرض
فسادا، بل وأنها وجدت في بعض المواقف العربية المستجدية لها، كما هو
حال الموقف المصري، ذريعة للمضي في مخططها الإجرامي الإبادي بدعوى أن
حماس تشكل خطرا على الشعب الإسرائيلي!
من الإنصاف استثناء بعض المواقف العربية الرسمية، التي خرجت عن
صمتها فعبرت بلهجة قوية عن استنكارها لما تفعله الآلة الحربية
الإسرائيلية، بل واستخفت من هوان الأنظمة العربية وانبطاحها، حيث
تشرذمت مواقفها من العدوان الإسرائيلي الظالم على غزة المجاهدة، فترجحت
بين الصمت المطبق والاستجداء المهين، مما دل على أن الأنظمة العربية
القائمة التي تجمعها قبة الجامعة العربية، آن لها الأوان للتنازل عن
احتكارها الرمزي والشكلي للقضية الفلسطينية، وتسليمها لجهات إسلامية
أكفأ منها وأعمق تأثيرا.
وتتحدد المواقف العربية الرسمية التي يمكن استثناؤها من قائمة
الأنظمة العربية (المهترئة والمنبطحة!)، في موقفين لا ثالث لهما:
• موقف الرئيس السوداني: حيث يعتبر أول جهة عربية رسمية تندد
بالعدوان الإسرائيلي على غزة بأسلوب الرفض والاستهجان، حيث دعا الرئيس
عمر البشير الدول العربية إلى توحيد موقفها من هذا العدوان، ووقف مسلسل
التطبيع مع إسرائيل الذي من شأنه أن يساهم أكثر في تقسيم الأطراف
العربية والفلسطينية، والخروج بقرارات فعلية وواقعية لا تكتفي كما
العادة بالشجب والإدانة. ويفسر هذا الموقف المبكر والشديد للرئيس
السوداني، بتجربته مع الدول العربية وجامعتها، التي لم تستطع طرح موقف
واضح ومساند له في الحملة الغربية التي يتعرض إليها، حيث تقدم السيد
لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمذكرة
تتهم البشير بالإبادة وجرائم حرب بدارفور. ولا تختلف هذه التجربة كثيرا
عن تجربة الرئيس الليبي مع الدول العربية، التي خذلته ولم تقف معه في
محنته الطويلة مع الغرب، فما كان عليه إلا أن يلمح بانسحابه من جامعة
الدول العربية، معلنا توجهه إلى أفريقيا وهو يطرح فكرة الوحدة
الإفريقية، غير أنه مؤخرا بعد ما أدرك لا جدوائية هذا التوجه، هدد
بالتخلي عنه والتحول إلى الخيار الأوروبي المتوسطي!
• موقف أمير دولة قطر: وقبل الإشارة إلى هذا الموقف، تجدر الإشارة
إلى أن ثمة أكثر من عامل أثر على أمير قطر، وحضه على الإدلاء بتصريحه
المستنكر والمستهجن لما تقوم به إسرائيل، وقد تم تناقل هذا المواقف من
قبل مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية، ولعل أهم عامل حمل الأمير
على ذلك، هو نفوذ الشيخ يوسف القرضاوي داخل دولة قطر، ثم تأثير قناة
الجزيرة التي تبث من العاصمة القطرية الدوحة. وقاريء نص كلمة أمير قطر،
يدرك في النهاية أنها لم تأت بجديد، فهو في بدايتها صعد من لغته
المنددة للعدوان الإسرائيلي، بقوله: "إن حربا تشن بهذه الأدوات على مثل
هذه الأهداف لا يمكن إلا أن تكون جريمة حرب، وذلك وفق ما نعرفه من
مواثيق وقوانين وأعراف دولية". ثم قوله: "يجب وقف هذا العدوان ووقف
إطلاق النار حقنا للدماء بشكل يضمن وقف الحصار، فالحصار غير إنساني
وغير قانوني، وكذلك فإن أي تبرير له وتعاون معه غير قانوني وغير
أخلاقي، ونحن نستغرب أن يبرر التعاون مع حصار غير قانوني قانونيا". فهو
بهذا يشجب العدوان، ثم يدعو إلى إيقافه بسرعة! لكن كيف يتأتى هذا
المطلب؟ كما العادة عن طريق السلام الذي اختارته قطر، وعن طريق عقد قمة
عربية طارئة، واتفاق العرب على موقف موحد من هذه الحرب الظالمة، وما
إلى ذلك من الآليات التي لم تعد تسمن ولا تغني من جوع!
هكذا فإن ما صرح به الرئيس السوداني، وما قاله أمير قطر، ينم على
جانب ولو ضئيل من الشجاعة والتجاوب مع موقف الشعوب العربية، غير أنه
يظل مجرد حبر على ورق، أو كلام في الهواء! لأن هذه الأقوال المعسولة
الرنانة وحدها، لا تكفي في زمن القوة والحديد، حيث البقاء، كما نرى،
للأقوى، وما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة!
إن موقف الأمير القطري خاصة، لن يصبح ذا أهمية وقيمة، إلا إذا تحول
إلى قرار سياسي أو اقتصادي ملموس، كما صنع الرئيس الفينزويلي، الذي ليس
عربيا، ولا مسلما، عندما فعل تنديده الكلامي لما يقوم به العدو
الصهيوني، إلى قرار واقعي تمثل في طرد السفير الإسرائيلي، فمتى تقدم
الدول العربية على طرد ممثلي إسرائيل لديها، أو إلغاء إتفاقية التطبيع
التي أبرمتها مع الكيان الصهيوني.
ثم إن البقية الباقية من المواقف العربية الرسمية، كانت هزيلة، حيث
البعض منها ما يزال لائذا بالصمت، والبعض الآخر عبر في آخر المطاف، عن
استنكاره لذلك العدوان بأعصاب باردة ولغة متذبذبة! وذلك بعد أن حققت
الآلية العسكرية الصهيونية أعلى درجات التقتيل والسفك والتخريب في
الشعب الفلسطيني الأبي الأعزل!
وما استرعى الانتباه بقوة أثناء مراحل هذه الحرب كلها، أن الموقف
الرسمي المصري كان حاضرا بكثافة واستمرار، بدا فيه الرئيس المصري رجل
الصورة أو الشاشة، مثل طاووس متبختر بين طيور هزيلة ومنكمشة، كما أنه
يؤدي دورا تاريخيا ورياديا. غير أنه في الحقيقة كان نذير شؤم حل
باللعنة على القضية الفلسطينية وعلى العرب كلهم! حيث عرت هذه الحرب،
بجلاء تام، عن تواطؤه مع الكيان الإسرائيلي، وذلك بشهادة من الرئيس
الإسرائيلي الذي اعتبره بالإضافة إلى الملكين السعودي والأردني من أهم
أصدقاء إسرائيل في المنطقة.
وقد كشف المفكر المصري محمد حسنين هيكل عن حقيقة الموقف المصري
الرسمي المساند لإسرائيل! حيث استغرب في برنامجه الأسبوعي بقناة
الجزيرة من هذا الموقف، الذي عجز عن فهمه، ورأى أن إغلاق معبر رفح من
قبل مصر، إنما هو "ابتزاز للفلسطينيين والتعاون مع الأمريكان"، كما
أشار إلى أن "الساسة الأوروبيين الذين قابلوا مبارك نقلوا عنه كلاما
مفزعا"، فـ "الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي نقل للإسرائيليين أن مبارك
قال إن حماس لا يجب أن تنتصر في هذا الصراع"! أليس هذا دليل قاطع على
تواطؤ الرئيس المصري مع الكيان الصهيوني، الذي عوض ما يجمد علاقاته مع
الإسرائيليين، ويفتح الحدود لكل من أراد مساندة الفلسطينيين، فإنه انجر
مع التيار الصهيوني، وهو مغرور بعلاقته الخبيثة معهم، حيث يزعم أن
الشعوب العربية والإسلامية معجبة بأدواره البهلوانية، التي يسعى إلى
ترجمتها إلى مبادرة مصرية أوروبية ليس لإطلاق النار، وإنما لتنحية حماس
من الوجود، وتدجين الشعب الفلسطيني بحفنة من المساعدات الدولية، التي
هي في أصلها أموال عربية وإسلامية!
خلاصة القول، صار الواقع العربي أكثر من ذي قبل، يشهد تناقضا سحيقا
بين القاعدة والقمة؛ بين مواقف الشعوب الجادة والمتحمسة ومواقف الحكام
المتهرئة والمتقاعسة، مما يعبر عن حقيقة مرة مؤداها أن هذا المشهد جد
طبيعي، ما دامت الشعوب لم تختر هؤلاء ليحكموها، فالحاكم هو المرآة التي
تنعكس عليها طبيعة الشعب الذي وضع الثقة فيه، كما هو حال الواقع التركي
الذي شهد لأول مرة تجاوبا تاما بين موقف الشارع ورؤية الحكام.
إن الشعوب العربية أصبحت لا تثق في اللغة السياسية والقانونية التي
يتحدث بها حكامها، وهي لغة مستوحاة من جهات دولية تدعي أنها حامية حقوق
الإنسان والحريات العامة، وهي ترى بأم عينها العدو وقد فضل التحدث بلغة
القوة والسلاح والتدمير، غير آبه بالمواثيق والمعاهدات الدولية، وهذا
ما تدركه الشعوب العربية والإسلامية بعمق، في حين لم تستوعبه أو
بالأحرى تتجاهله الأنظمة العربية، التي لا تملك إلا أن تقترح المبادرات
تلو المبادرات حتى تحافظ على كراسيها الدافئة!
هكذا فإن الأنظمة العربية لن تخرج من هذه الغيبوبة التي تتخبط فيها،
إلا بتضافر هذين الحلين؛ أولهما التنازل عن النرجسية العروبية الضيقة،
لصالح الخيار الإسلامي الرحب، حيث تصبح القضية الفلسطينية ليست قصرا
على المنطقة العربية، وإنما معلقة في رقبة ما يناهز المليار ونصف مسلم،
وثانيهما الاستجابة لإرادة الشعوب العربية والإسلامية، التي تبدو، أكثر
من أي وقت مضى، على استعداد تام للمشاركة المباشرة على أرض الميدان،
والجهاد في سبيل تحرير أرض فلسطين، التي اغتصبت بتفويض من الدول
والمؤسسات الدولية نفسها، التي تدعي حماية حقوق الإنسان، في حين أنها
ضيعت على العرب، بنظرياتها القانونية، فرصة تحرير فلسطين وتوحيد صفوفهم
وتمتين موقعهم الاستراتيجي، وفي المقابل مكنت الصهاينة من تأسيس كيانهم
وحشد الدعم العالمي لهم وتقوية ترسانتهم العسكرية.
* باحث مغربي مقيم بهولندا |