دعوة السكان العزل الى المقاومة

هي دعوة الى الموت بصمت

ابراهيم علاء الدين

بين جلد الذات، وجلد العدو، والبكاء على الضحايا، توزعت قريحة معظم من زارهم شيطان الكتابة، او شيطان الشعر، او مدمنوا الفضائيات واجهزة الاعلام، وخطباء المساجد، والوزراء والرؤساء، حتى الملايين الذين دفعتهم العاطفة الوطنية والانسانية، للنزول الى الشوارع يرفعون الاعلام والشعارات كانوا مثل كتابهم وشعرائهم وخطبائهم، ووزراء ورؤساء بلادهم.

وبين سياط الجلد.. وسياط الجلد.. وسياط البكاء.. كانت هناك اصوات عشاق الصمود الاسطوري..!!، والمقاومة الاسطورية..!!  بالصدور العارية.. بعيون الاطفال.. وصرخات الامهات.. لانتظار الموت دون ضجيج او احتجاج.. فقط دون ضجيج او احتجاج.. ويا ليت كان دعاة الصمود والمقاومة يطلبون من الاطفال الموت دون ضجيج او احتجاج لان جحافلهم قادمة لتنقذ ذويهم ممن ما زالوا على قيد الحياة..!!!!!!

واذا كان جلد الذات، وجلد العدو، والبكاء على الضحايا، مجرد تنفيس عن الم اعتصر الفؤاد، وعن غضب اعترى الوجدان، ومجرد تنفيس لاحتقان، فان عشاق الصمود وجهوا دعوتهم لمن يموتوا وتتمزق اشلائهم واشلاء فلذات اكبادهم واحبابهم امام اعينهم ان يصمتوا ويعضوا على "النواجذ" ويقولوا انا لله وانا اليه راجعون. ليكونوا " كالنجوم الساطعة المتلألأة في سماء الأمة الإسلامية، وهم الذين أثبتوا لنا أن طريق النصر لا بد أن يمر عبر المقاومة"، كما قال رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران سعيد جليلي الذي انضم الى جوقة المضللين (بكسر اللامين) الذين يفترون على الدين والتاريخ والحقائق. ويضيف " ن الجميع تيقن اليوم، أن المقاومة والإنتصار هما صنوان".

وكما هي العادة في زمن الهزائم يزدهر الكذب والتضليل والخداع، فتنبري مجموعة تدعي زعامة المقاومة والممانعة والصمود، وتعمل على اطلاق موجة من التضليل والخداع تستهدف جماهير البسطاء والمساكين تحثهم على الصمود في وجه آلة الحرب العدوانية الجهنمية، وتدفعهم لتقديم المزيد من الضحايا، وتكذب على الناس بان الصمود سيأتي بالنصر، وان المقاومة ستهزم العدو، وتصدر دعوات المقاومة والصمود الى جانب ملالي طهران ورئيس امنهم القومي زعماء التيارات الاسلامية وشيوخها ومفتييها في هبة غير مسبوقة (ليس وقت الحديث عن الدوافع)  وفي مقدمتهم الشيخ القرضاوي تمجد المقاومة وتدعو الى الصمود، وتطلب من المسلمين ان يدعوا لاهل غزة ان يمدهم الله بجند من عنده.

ومع ان الدين الاسلامي يعتبر الكذب من اشد الموبقات وسبب كل المفاسد والجرائم وهو اساس النفاق والرياء ودليل على الخبث واللؤم، وهدفه الرئيسي هو التضليل واخفاء الحقيقة وخداع الناس، الا ان من تصدروا موجة المقاومة الاسلامية يكذبون جهارا نهارا ويفترون على الله والحقائق والتاريخ. والا فبالله عليكم كيف تكون "المقاومة والانتصار صنوان" يا شيخ الامن القومي في الجمهورية الاسلامية..؟ وشيوخ المقاومة في الضاحية الجنوبية.

فهل كانت الانتصارات التي حققها المسلمون في نشر الدعوة الاسلامية.. حروب مقاومة.؟،

أم كانت حروبا هجومية، تتحرك فيها جحافل جيوش المسلمين لتهاجم العدو في أرضه، فتدمر حصونه وقلاعه، وتبيد جيوشه..؟، الم تذهب جيوش المسلمين الى العراق والشام وبلاد فارس ومصر وشمال افريقيا لتفتحها في حروب ضارية..؟ أم ان جيوش المسلمين كانت تعسكر في بلادها في الجزيرة العربية تقاوم هجمات جيوش الفرس او الروم او المصريين او البربر..؟.

وهل صلاح الدين الايوبي جلس بالقاهرة وطالب أهل فلسطين بالمقاومة..؟ أم جمع جيوشه ووحد الممالك والامارات وذهب الى فلسطين وقاتل الصليبيين على ارضها..؟.

لماذا يا خبير المخابرات والاستخبارات الايراني تخفي عجزكم وضعف بلادكم، وعجز كل المصفقين المفتونين بشلال الدم الفلسطيني وراء كلمة المقاومة الطنانة..؟

فمتى جاءت المقاومة بالنصر..؟ وفي أي بلد.. ؟؟ هل يدلنا أي من تجار المقاومة بكل تياراتهم وانتماءاتهم يسارا او يمينا، تقدميون ورجعيون، كفرة ومؤمنون، كيف يمكن للمقاومة وحدها ان تأتي بالنصر...؟

فوفق كافة المفاهيم العسكرية تعتبر المقاومة حالة دفاعية، فيقال مثلا "قاوم المركب الرياح" بمعنى انه تعرض لهجوم من الرياح وصمد في وجهها، ويقال قاومت افريقيا موجة الجفاف بمعنى انها تعرضت لهجوم مناخ حال دون نزول الامطار وتمكن سكانها من مقاومته، وعديدة هي الامثلة وكلها تشير الى المعنى الدفاعي للكلمة ونتائجها تعني المحافظة على البقاء أي عدم الموت.

فهل اصبح الحفاظ على الحياة مطلبا ودليلا على النصر..؟ وهل يجب ان يظل شعبنا يتعرض لاختبارات الموت والصمود في وجهه.. حتى يقال انه شعب عظيم.؟

وبنفس المعنى يستخدم مصطلح المقاومة عسكريا، فاذا حوصرت قوة عسكرية من قبل قوات معادية، تطلب منها القيادة ان تصمد وتقاوم حتى تصلها النجدة، وبنفس المعنى لو حوصرت مدينة تطلب الحكومة من سكانها المقاومة والصمود الى ان ترسل لها نجدة وتعزيزات تنهي حصارها. وبهذا المعنى فمصطلح المقاومة ليس خاصا بالمناضلين، او بالثوار، فالجيش الفاشي والمعتدي هو ايضا يقوم بالمقاومة اذا ما تعرض لضغوط.

ففي العراق مثلا الجيش الامريكي يقاوم ضربات رجال القاعدة، ورجال القاعدة يقاومون ضربات الجيش الامريكي.

والأمثلة التاريخية أكثر من ان تحصى وكلها تؤكد على ذات المضمون الدفاعي لكلمة مقاومة.

لكن المقاومة وحدها لا تأتي بالنصر، واذا لم تكن لفترة محدودة حتى تصل النجدة فانها تكون مقاومة انتحارية ستؤدي الى هزيمة دموية مدوية.

لأن الدفاع وحده لا يحقق النصر، ونادرة هي الأحداث العسكرية بالتاريخ التي مات الجيش المهاجم أمام أسوار حصن منيع، أو اضطر جيش الى الانسحاب من تحت أسوار مدينة استمات سكانها بالدفاع عنها، ولكن التاريخ مليء بألوف الروايات التي تتحدث عن بطولات الفاتحين، وتدمير القلاع والحصون والمدن. وقتل الملايين من المدنيين بعد سقوط مدنهم وحواضرهم، حتى تصل الدماء الى ركب الخيول.

وهناك فرق هائل في مستوى القوة بين الدفاع والهجوم فالقاعدة الفلسفية العسكرية الخالدة تقول "ان اقوى وسائل الدفاع هو الهجوم". أي بمعنى ان من يحقق الانتصار في الغالب هو من يقوم بالهجوم.

ويخلط الكثيرون بين مصطلح المقاومة ومصطلح الثورة، رغم الفارق الجوهري والحاد بينهما فالأول يعبر عن سلوك وخطط دفاعية، فيما الثاني يعبر عن سلوك وخطط هجومية، أي أن المقاومة تعني الدفاع، فيما الثورة تعني الهجوم، وبالتالي فالمقاومة تعني انتظار العدو ليقوم بالهجوم ومن ثم مواجهته أي الدفاع عن مواقع، فيما الثانية تعني القيام بالهجوم على مواقع العدو واجباره على الدفاع عن مواقعه.

وهذا ما تثبته حقائق التاريخ وثورات الشعوب المنتصرة على مر التاريخ بما فيها الثورات المعاصرة في كوبا او الجزائر مثلا، ففي كلا البلدين كان الثوار يهاجمون مواقع العدو، سواء كانت ثكنات او نوادي او مؤسسات او هيئات، فتضرب ضرباتها وتهرب الى مخابئها في الجبال والاحراش، او تختفي بين المدنيين بعد اخفاء سلاحها واخفاء على ما يدل على انتمائها للثورة من قريب او بعيد.

اما في فيتنام فالوضع كان مختلف تماما فلم تكن هناك ثورة او مقاومة بل كانت حرب استنزاف، خاضتها دولة (فيتنام الشمالية) ذات مؤسسات كاملة وعلاقات دولية واسعة، وتحظى بدعم هائل من ثاني اقوى دولتين في العالم الاتحاد السوفياتي والصين، وقيادة عسكرية ومدنية مسلحة بارقى العلوم العسكرية والسياسية، تمكنت من اقناع شعبها وتجنيده في معركة وطنية شاملة بدءا من وضع برامج زراعية لتوفير الأرز، وانتهاء ببرنامج للعاملات في النوادي الليلية للحصول على المعلومات عن العدو، وما بين هذا البرنامج وذاك عشرات البرامج المخصصة لجميع المهمات وكلها ضمن البرنامج العام لحرب الاستنزاف طويلة الأمد.

ولذلك يجب تصحيح خطأ تاريخي شائع يتصور ان المقاومة هي صنو للانتصار كما يقول رئيس المجلس الاعلى للامن القومي الايراني، ومن لف لفه من شيوخ المقومة سنة وشيعة وبقايا الحركات القومية.

وهذا المفهوم الخاطيء شاع لدى الشعب الفلسطيني فقط من بين شعوب العالم، فقوى اليسار في العالم تستخدم مصطلح "حرب الغوار" أو "حرب الفدائيين او الكوماندوز" او "حرب الشعب" او "حرب التحرير" او "حرب الاستقلال"، وغيرها من المصطلحات، وكلها كما ترون تدل على الطابع الهجومي للحرب، وليس لها علاقة بالطابع الدفاعي اطلاقا.

وكانت مصطلح الثورة الفلسطينية، هو السائد في الساحة الفلسطينية عشية انطلاق حركة التحرر الفلسطينية المعاصرة، وكان مصطلح الثورة رديف لمعظم مهامات حركة التحرر،مثل أمن الثورة، قوات الثورة، قواعد الثورة، ادبيات الثورة، كوادر الثورة،  المسلكية الثورية، الاخلاق الثورية عرس الثورة فتح الثورة، اشبال الثورة.. الخ،  ولا اعرف بالضبط كيف ومتى تسلل مصطلح المقاومة ليزيح مصطلح الثورة من طريقه ويحل مكانها بالكامل ويلقي بمصطلح الثورة في ملفات التاريخ.

ويبدو انه مع رسوخ تعبير المقاومة في الاوساط الفلسطينية بديلا لتعبير الثورة حصل تغيير كامل في الوعي النضالي للشعب الفلسطيني، وتغير سلوك الثوار من سلوك المبادرة والفعل والهجوم، الى سلوك الانتظار والصمود والدفاع.

واعتقد ان الامر ليس مجرد مسألة لغوية، كأن يدعي تاجر انه شريف ويضع الف يافطة تستخدم بها كلمة الشرف، بينما هو لص خائن مخادع. بل انه لفظ له مدلول ومضمون وسلوك وثقافة وخبرة ونظام حياة ادارية عسكرية وتنظيمية واخلاقية ومالية واقتصادية، أي منظومة ثقافية كاملة.

ووفق هذا المفهوم للمقاومة يصبح واضحا حجم التضليل الذي يتعرض له شعبنا من انصار التأسلم السياسي السني والشيعي ليساق من مذبحة الى اخرى، تحت شعارات المقاومة والصمود، التي تصوره بصورة البطل الصنديد المسلح حتى اسنانه، الذي ينتظر اللحظة للانقضاض على العدو.

فكيف يمضي هؤلاء في خداع شعبنا بمطالبته بالصمود والمقاومة..؟ دون ان ترتجف قلوبهم او ترف جفونهم امام هذا النهر من الدماء الذي يدفعه شعبنا.

طيب  ليقبل شعبنا دعوتكم بحسن نية ويصمد ويقاوم ولكن الى متى..؟  شهر شهران سنة عشر سنوات..؟ الا يجب ان تخبرونا..؟ هل مثلا على شعبنا الصمود والمقاومة لان شيوخ طهران، وسادة دمشق، وحفيد رسول الله في الضاحية الجنوبية، وشيوخ حماس والجهاد واخوان مصر والاردن يعدون الجيوش لنجدته في غزة..؟، ام ان المطلوب هو الصمود من أجل الصمود.. والمقاومة من اجل المقاومة...  حتى تزداد اوداج من يرتعون بكرم الضيافة في دمشق انتفاخا، وتطول قائمة الشهداء والارامل والثكالى والايتام..؟.

نفهم والله وسوف نحنى رؤوسنا احتراما وخشوعا لو كان رئيس الامن القومي الايراني يقول للشعب الفلسطيني الذي يذبح في غزة ان يصمد لبعض الوقت حتى يرسل جيوشه..؟

وسنكون من الشاكرين لو ان الشيخ القرضاوي وزملائه واتباعه من شيوخ الاخوان المسلمين وعلمائهم يدعو لأهل غزة بالصمود لأن الاخوان يعدون جيوش التحرير..؟ ومثلهم دعوة نصر الله  حتى لا نفرق بين الشيعة والسنة، ولا أريد ان اتحدث عمن هم دون هذه القامات "الرفيعة" ممن يرتزقون مما تسمى بالمقاومة وثقافة المقاومة الميكرفونية والقنابل الصوتية، ممن اصبحوا نجوما ينافسون الفنانات والفنانين على القنوات الفضائية.

اقنعونا فقط  يا تلاميذ الشيخ "العظيم" حسن البنا.. لماذا يقاوم الشعب.. وبماذا يقاوم..؟ هل الشعب مسلح ومدرب، ولكل فرد فيه دور معروف ومدروس..؟ ام ان عليه ان يصمد ليموت في منازله وعلى الطرقات، وفي مدارس وكالة الغوث..؟ أم يصمد ليصطف في طوابير يتسول طعامه من هيئات الأمم المتحدة..؟

ان ثقافة المقاومة دون خطة للهجوم هي ثقافة مدمرة، يجب ان تتوقف، وأن الدعاية القائمة على ان النصر من عند الله دون الاعداد السليم للنصر هي دعاية مضلله مخادعة يستخدمها الكذابون المنافقون الذين يتاجرون بدماء الشعوب، ويجب ايقاف هؤلاء عند حدهم، وأن يتصدى لهم  كل من لديه ذرة من ضمير وانتماء انساني، وعلى كل الذين لديهم ولو قدر من احترام الانسان ان تتضافر جهودهم لتخليص بسطاء الناس من كذبهم واباطيلهم ودعاياتهم التي ينضح منها خطابهم المأزوم بالوعود الكاذبة المضللة.

ملاحظة: لانه من المؤكد ان البعض كما هي العادة عقله قاصر عن الفهم وسوف يفهم مما سبق ذكره انه دعوة للاستسلام، ولانهم لا يعرفون كما اشرنا في مقالات سابقة ان في الدنيا غير اللونين الابيض والأسود، وانهم سيوجهوا لنا الاتهامات الجاهزة.. اقول لهم اننا ندعو الى الثورة بمعنى الهجوم، وثقافة الهجوم.. ثقافة الفعل.. القائم على العقل والمنطق والرؤية الواقعية للامور.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 11/كانون الثاني/2009 - 14/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م